الاثنين ٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم ممدوح طه

التعريب بين التحديث والتغريب

مع ظهور إشكالية الموقف من" الحداثة " التى دعا إليها بعض دعاة النهضة العربية " تحت إسم " المعاصرة" فى بدايات القرن العشرين ، وبروز بعض دعاة النهضة الإسلامية المناهضين لهاباسم الدفاع عن " الأصالة " ، وبعض دعاة القومية العربية الداعين إلى التحررمن الاستعمارو المناهضين للوقوع فى شرك التبعية الثقافية للغرب ورفض " التغريب".

ثار الحوار أحيانا والجدل غالبا فى إطارنوع من الاستقطاب الفكرى فىالساحة
الثقافية العربية والإسلامية ، حدث فيه الخلط بين عدة مفاهيم منفصلة ، والفصل بين عدة مفاهيم متصلة ، وتعددت فيه الآراء والإسهامات القيمة لعدد من الكتاب والمفكرين والباحثين فى محاولة للإجابة على الأسئلة المطروحة ،كل من وجهة نظره وانطلاقا من مرجعيته الحضارية فى حالة حراك ثقافية لضبط المصطلحات ، وتأصيل المضامين ، وتصحيح التوجهات والمفاهيم .

ولأن النقاش بين الحين والآخر لايزال يطرح من الأسئلة المعادة بعض مايستلزم إعادة الإجابة ، ولأن بعض الخطابات الفكرية ذات المرجعيات السياسية والتوجهات الأيديولوجية أحيانا ماتطرح فى محاولاتها لإقصاء الآخر الإسلامى بعض المصطلحات المخلوطة فى غير سياقها ،وبعض المفاهيم المغلوطة على غير طبيعتها ..

فإن ذلك إن دل على شىء فإنما يدل على أن النقاش لم يحسم بعد هذه الإشكالية ،بين " التحديث والتقليد" أو بين "التعريب والتغريب" أو بين" الأصالة والمعاصرة" فىإطارها العام .

وبرغم أن هذه الإشكالية تتطلب مبحثا طويلا وحواراعميقا ، رأيت أن أعرض رأيا قد يعى بعض الأشياء ولايدعى الوعى بكل الأشياء . .
قد يعى أن هناك فرقا بين " التحديث" و" التغريب" ، فالتحديث فى معناه الموضوعى كما أفهمه يعنى التجديد لكل مايحتاج إلى تجديد لحاقا بمنتجات الحضارات الحديثة وتكيفا مع روح العصر وصولا إلى التقدم ، بما تتطلبه المصالح الإنسانية المشروعة سواء فى المعارف وليس فى القيم ، وفى المهارات وليس فى التوجهات ، وفى المبانى وليس فى المعانى ، وفى الوسائل وليس فى الغايات ..وباختصار فى المظهر لافى الجوهر الحضارى.

بينما التغريب يعنى الاتجاه الكلى نحو الغرب مبنى ومعنى ، ومظهرا وجوهر وأدوات وغايات ، بما يشكل استلابا كاملا للإرادة ، واغترابا عميقا عن الذات و ذوبانا ثقافيا وحضاريا و تبعية أو محاكاة أوتقليدا ، بما يشكل فى النهاية إغتيالا للهوية الثقافية والحضارية الوطنية والقومية .

وقد يعى أن ليس هناك تلازما دائما بين المفهومين. .وقد يعى أيضا أن التحديث لايعنى قطع الصلة بالتاريخ لأنه غير ممكن، ولا بين الماضى والمستقبل لأنه مستحيل..

ولايعنى بالضرورة الانفصال عن الدين باسم العلمنة ، لأن الحداثة كانت طريقا إلى النهضة الأوروبية ، بينما العلمنة التى نشأت فى الغرب كانت فى مواجهة الكنيسة التى وقفت فى مواجهة العلم ، مما انسحب على الدين ، بينما الدين وكل الرسالات السماوية لايمكن ان تتناقض مع العلم أوتجافى حقائق الحياة ، بل العكس هو الصحيح ..

والإسلام بالتحديد الذى ليست لديه مثل هذه المشكلة بمايبرر التحديث ولايبرر العلمنة ، و بماحض عليه من طلب للعلوم من كل الحضارات ولو من أوروبا أو من الصين وسيلة لانماء الحياة الإنسانية ، لايمكن أن يقف بالتعصب فى مواجهة العلم ،ولابالجمود فى مواجهة الجديد .

لقد بنت قوة دفع هذا الدين الحديث بالنسبة إلى المسيحية واليهودية التىكانت أقدم منه بقرون فى العصور الوسطى حضارة حديثة ، وأسس دولة كبرى كانت هى القوة الأولى فى عصرها، ونشرت سيادتها ورسالتها التى أسهمت بقدر كبير فى تحديث الغرب وتنويره فى "عصور الظلام" التى خيمت على أوروبا فى القرون الوسطى ،فكانت تمثل الحداثة المؤمنة بمقياس عصرها وبرز المستشرقون فى الغرب يبحثون فى أسرار قوة هذه الحضارة الشرقية كما برزالمناهضون لسمات وتأثيرات ذلك " التحديث " وذلك " التشريق" فى عالم الغرب إلى حد شن الحرب العكسية الصليبية على الشرق الإسلامى من منطلق الثأر التاريخى .

و الحداثة الرشيدة لاتتجاهل بطبيعتها خصوصيات الثقافات ولاواقع المجتمعات ..لأن التحديث هوفى النهاية عملية تجديد بناءة تقدم المصالح وتدرأ المفاسد ، وتطوير مطلوب للبنى والوسائل والمعارف والتقنيات إذاكان هذا التجديد جيدا ومطلوبا لتحقيق مصلحة الإنسان ، وإذاكانت هذه الوسائل أصيلة بعمق الجذور ، ومتوافقة مع شرف الغايات .

كما يعى أن هنالك أصواتا عالية فى الغرب مناهضة للتحديث أيضا إذا تلازم مع مفهوم "الأمركة"، قريبا مما يحدث لدي البعض منا فى الشرق من موقف مناهض للتحديث إذا اختلط بمفهوم التغريب.

وربما ينبع الخلط بين التحديث والتغريب فى الشرق ، والتحديث والأمركة فى الغرب كنتاج لواقع معاصرو مؤقت بدأ مع القرن التاسع عشرحين ساد فيه الغرب على الشرق فى عصر "الاستعمار" القديم ، ومع تسيد أمريكا على الغرب فى القرن العشرين فى عصر" الهيمنة" الجديد .

ولأن الحضارة المغلوبة تتبع الحضارة الغالبة وتحاكيها ،وفقا لنظرية "إبن خلدون" ، ولمايصدق عليه واقع الحال من أن الحضارة المغلوبة فى الشرق
كانت تحاكى فى سعيها للتحرر والنهضة آليات وتقنيات الحضارة الحديثة فى الغرب ..
فقد حمل بعض الداعين إلى ا لنهضة لواء التحديث استفادة من حضارة الغرب الاستعمارى، فاختلطت ردود الفعل المناهضة لهذه الدعوة بالموقف المقاوم من الاستعمار الغربى وليس من الغرب الجغرافي ، ومن محاكاة المستعمرين التى تكرس التبعية وليس من التجديد الحضارى الدافع إلى النهضة استفادة ببعض نتاج الحضارة الغربية..
ليبقى مفهوم " التعريب " فى الواقع هو استعادة الذات العربية فى النهاية ، والحفاظ على جوهرها الحضارى من الاستلاب والذوبان فى الآخر ، مع إبقاء الجسور مفتوحة للحوار والتواصل الحضارى مع الآخرمع الإدراك العميق بأن" الإسلام هو الجوهرالحضارى للقومية العربية "

..فى النهاية فإن الحضارات الإنسانية على مدى التاريخ تعاملت إيجابيا مع بعضها وتفاعلت فى تأثير متبادل وكانت كل حضارة جديدة تباشر بتأثيرها الحضارى عملية تحديث لغيرها ، بحيث يمكن اعتبار كل حضارة إنسانية فى الشرق أو فى الغرب هى ملكية عامة لليشرية جمعاء .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى