الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم جواد عامر

الحبات التي لم تصل

وحدها يده تمتد من بين الركام كبرعم يزحف فوق غصن ليمتص أنداء الصباح، عينان تلتمعان في وهج الشمس تمسحان الأرجاء، الأشياء هامدة في المكان، إنه الموت لقد أتى على كل شيء، ألسنة لهب لا تزال متأججة في عتاد العدو والدخان يغزله احتراقها في السماء، دفع جسده بما تبقى فيه من قوة ليخرج من وسط الركام، تحسس وسطه، القنبلة الناسفة لا تزال مشدودة إلى مكانها، ومديته في قرابها،لكن سلاحه الناري ضاع في معركة الأمس، فقده حين انزلق في خندق صغير بعدما فجر الجرافة من مسافة الصفر، فتهاوى عليه ركام بناء أصابته قنبلة العدو، عرف أن الوقت غير مناسب للبحث عنه فقد تفد دبابة أو ناقلة جند لتستطلع الأخبار في المكان، نفض عن زيه العسكري ما علق فيه من أتربة وأقذاء، سار فوق قطع الإسمنت والحديد وبقايا أشياء كانت في الماضي أثاثا للدور في اتجاه المعقل الذي انطلقت منه عصر الأمس عملية المقاومة، توقف قليلا كمن تذكر شيئا، أدخل يده في جيب سترته، تحسس الحبات في كيسها البلاستيكي، أخرجها، نظر إليها وابتسم، إنها لا تزال بخير، أعادها إلى مكانها ثم سار، بقايا كرسي تراجعت، فرش معفرة بالتراب، شقف من آوان كانت سليمة في مطابخها، شيعها في انكسار، أحس أنينها في جوفها ينبعث مع كل خطوة يخطوها، كشاعر يناجي طلل الحبيبة ثم يغادر المكان، رفع بصره إلى جدار المبنى الذي انطلقت منه العملية، لقد فقد كثيرا من معالمه، دخل من فتحة صنعتها قنبلة دبابة، سار بهدوء في المكان، كانت بعض زواياه معتمة لا يصلها ضوء النهار، لا أحد هناك، رفاقه لا أثر لهم،لا صوت ولا ظل سوى جدران تتأوه، تشكو له فقدانها دفء الحكايات وأغنيات البرتقال الحزين، تشكو له رجالا تحت الشمس وعائدا إلى حيفا، أحسها بكاءها صارخا في وجه الصمت..، عرف أن الرفاق قضوا في عملية الأمس، مشط المكان بهدوء وبخطوات محسوبة..، سجادة، كشاف، حزام من رصاص، حملها بهدوء، قارورة ماء رشف منها رشفات بلت حلقه ومنحته طاقة جديدة، احتفظ بالباقي في جيب يشبه الجراب، أشعل الكشاف بحذر، تقدم نحو الزوايا المعتمة، آه ! إنه رشاش أحد الرفاق، أثر دمائه متناثرة فوق الركام، لقد كان يحاول مغادرة مكان القصف لحظتها متحاملا على إصابته، حشا الرشاش رصاصا، ثم هم بالخروج من المكان بعدما أيقن أن رفاقه قد استشهدوا، سار نحو الثقب منكسرا، تناهى إلى سمعه صوت أنين غير بعيد عن المكان، استدار في سرعة إلى الصوت، وسار بحذر شديد على رؤوس الأصابع، ازداد الأنين تعاليا، أشعل الكشاف، يد تمتد في طرف الجدار ظلا مديدا، اقترب من الجسد المسجى وسط ركام متهاو، نظر إليه مصعب وهو يزيل قطع الإسمنت من فوق جسده وقال: أخي عبد الله، اطمئن ستكون بخير.

افتر ثغر مشرق رغم الألم الذي يعتصر في داخله، الجرح بليغ والدماء تنزف، كشف مصعب عن جرح رفيقه الذي لازال يئن من الألم، ثم مزق جزءا من قميص داخلي، لف قماشه على الجرح في محاولة لإيقاف النزف، رفع رأسه بهدوء، فأحس خفة جسده بعدما أزيح عنه الركام، سقاه بعض الماء، كان كنبتة أتعبها الجفاف دبت إليها بعض الحياة بعد سقيا السماء، وضع مصعب يد رفيقه على منكبيه وحركه بهدوء ليستند عليه ثم خرجا معا، لابد أن يأخذه بعيدا،فقد تعود دبابة أو ناقلة جند للمكان، مضيا معا وخطوهما يتعثر فوق الركام، في زاوية من الطريق جسدان مسجيان على الأرض،وقد تغطيا بالدماء، تعلو وجهيهما بسمة جميلة، لقد كانا يبتسمان للملائكة لحظة الاستشهاد، من ورائهما زهرة بيضاء تنبض بالحياة يفوح منها عطر زكي،تعابث النسائم الخفيفة التي هبت في تلك اللحظات لكأنها قدمت من وراء السماء، نسائم ندية مسحت على وجه مصعب ومنحته قوة وصلابة،كفكف دموعا تحدرت على خديه تغسل لحية سوداء خفيفة، التمعت في وهج النهار، أخذ رفيقه عبد الله يستعيد شيئا من إحساسه كالمستفيق من غفوة، نظر إلى صاحبه وهو يجر ساقه الكلمى وقال: كنت أمُنُّ نفسي بالشهادة يا مصعب، نظر إليه صاحبه باسما، وقال: سنظفر بها يا أخي، لكن عليك أن تتماثل للشفاء فجرحك غائر يحتاج إلى مداوة وعناية.

بناء تراءى لهما على مقربة من بقية شارع يعرفه مصعب بأنه كان في الماضي الطريق المؤدي إلى الحي الشمالي...، توقف لحظة مرهفا سمعه، أزيز قوي يقترب، سرَّع الخطو وحث عبد الله على مقاومة الألم،العدو يقترب من المكان، وعليهما التزام الهدوء والتخفي وراء بقية من جدار هناك، أجلس مصعب رفيقه في مكان حريز التمس فيه شيئا من الأمان، وأعد سلاحه الرشاش، نظر إلى القنبلة التي كانت معه وإلى قنبلة رفيقه كأنه يستجدي خدمتهما في لحظة الحسم، التمس مصعب موضعا أخفى جسده وظل ممددا على بطنه لوقت يرقب حركة القادم وفوهة رشاشه تتحرك ببطء في الأرجاء استعدادا للتصويب..

دبابة تتقدم ناقلتا جند، أخبر رفيقه همسا بالوافد الجديد فتحرك عبد الله زحفا وقد تناسى ألم ساقه كأنما بعثت فيه حمية وأمدته ملائكة بقوة غريبة،"الدم ينزف يا عبد الله، الزم المكان واهدأ سأتولى أمرهم بنفسي"، أعاد عبد الله لف القماش وأحكم ارتخاءه بفعل المسير، نظر إلى مصعب وقال: سنتعاون يا أخي، فهذه الأرض أرضنا معا منها وجدنا وإليها نعود.
لمح مصعب إصرار رفيقه وهو يهيئ سلاحه الرشاش، ويتململ من مكانه زحفا على الركام، ظلا الرفيقان في موضعيهما المتقاربين ينتظران لحظة الحسم، مضت الدبابة ومن ورائها ناقلة جند، أما الثانية فتوقفت قليلا تاركة بينها وبين المتقدمين مسافة، رأى مصعب أنها فرصة مواتيه لتفجير الناقلة، ركض مسرعا بكل قوته لا يبالي بموضع قدميه، يجري نحو الهدف، اقترب ثم ألقى بالقنبلة لتتفجر الناقلة، النار تمد ألسنتها والدخان يرسم سحائبه، فاتخذ له موضعا في الجانب الأيسر مدركا أن الناقلة المتقدمة ستعود للإنقاد، هم بإلقاء القنبلة لكن الناقلة تفجرت قبل إلقائها، نظر إلى خلفه فرأى عبد الله يجر ساقه متحاملا عليها، التفت مصعب إلى الدبابة، جندي يخرج رأسه من فوهتها،يأمر عبد الله بالانبطاح لكن قوته لم تسعفه، ترشقه رصاصة، يهوي الجسد كورقة خريف ذابلة، تمضي الدبابة في طريقها وهي تدير فوهتها في الأرجاء تطلق النار خبط عشواء، اللهيب يشتعل في جسمها، الله أكبر الله أكبر!، قذيفة ياسين اخترقت صفائحها وحولتها إلى أشلاء، الجندي يشتعل، يتفحم وتتفحم معه أحزان مصعب، رجال خرجوا من جوف خندق كان غير بعيد عن الشارع، جس أحدهم نبض الرفيق، حرك وجهه، نظر إليهم عبد الله نظرة خاطفة توقفت عند مصعب، تأملته ثم افتر الثغر عن بسمة أذكرته صاحبيه، إنه يحاور الملائكة، لابد أن أجنحتها ترفرف فوقهما الآن، أشار عبد الله بسبابته إلى جيب سترته، دخلت اليد، تحسست الجيب، شيء كالحبات في غشاء، أخرجها فإذا هي حبات من الحلوى، فهم مصعب أن عبد الله كان يخبئها أيضا لابنه الصغير، فقد دأبا دوما على إحضار قطع الحلوى الملونة ذات النكهة الشامية إلى ولديهما كلما عادا إلى بيتيهما، كان مصعب إذا عاد إلى داره وجد ابنته الصغيرة ذات الأربع سنوات تنتظره عند المدخل ليحملها بين يديه ويقدم لها كيسا من الحلوى، وكان ابن عبد الله ذي الخمس يفعل نفس الشيء، ويخرجان معا ويمرحان ويتباهيان بما جادت به يد الأبوين، يحسبان الحبات ويدحرجانها على عتبة البيت قبل الاستمتاع بمذاقها الحلو..، سبابته ترتفع في السماء وتمتمات فيه تنطق بكلمات، أغمض الجفن وابتسم للسماء، زهرة بيضاء وراء رأسه مدت قامتها وعبقت بعطر زكي،"لقد استشهد الرفيق يا إخوان"، قالها أحد أفراد الفصيل،جثا مصعب على ركبتيه، مسح على وجه رفيقه وقبل جبهته ودموعه تغسل خديه، الأيادي تربت على كتفه وتلتمس منه الدعاء بالرحمات للشهيد، انتفض أحد الرجال فقال: هنيئا لصاحبنا الشهادة، لقد اختاره الله ليكون مع النبيئين والصديقين وحسن أولئك رفيقا".

كفكف مصعب دموعه واستجمع رباطة جأشه ومضى مع الفصيل، الناقلتان والدبابة لا تزال مشتعلة، وألسنة اللهب تمتد منها عالية تحرق العدو وتصهر الحديد، لا أثر للحياة، لقد مات كل أفراد الجند، الفصيل سعيد بهذا الإنجاز الجديد الذي انضاف إلى عملية الأمس.. داخل المقر إعداد جديد لعملية الغد فالعدو لن يتوانى في محاولة غسل العار الذي لحق بجنده وعتاده، مصعب جاهز كباقي أفراد الفصيل للعملية القادمة، إنه شديد الإصغاء لقائد الفصيل:"سيمرالعدو مدججا بدبابته وناقلاته وجرافة على امتداد هذا الشارع في اتجاه الحي الجنوبي لشن هجومه، لابد من التزام الخطة بحذافيرها، مصعب فرد جديد ينضاف إلى فصيلنا، نمتنى له كل التوفيق في المهمة"، أمر القائد أحد الأفراد بإحضار عبوة ناسفة، وقال:"هذه مهمتك يا مصعب، ستقوم بزرع هذه العبوة على الجرافة وسيكون الدعم خلفك، خذ قسطا من الراحة الآن، تناول طعامك واستلق هناك"وأشار بيده إلى فراش على الأرض، أومأ إليه مصعب برأسه وقال:"كن مطمئنا أيها القائد"، جلس مصعب وفتح مصحفا، تلا آيات ثم صلى بضع ركعات، تناول بعض الطعام وأثنى على الله ثناء عظيما ودعا ربه ولرفاقه بالنصرة.
..أزيز قوي ترتج له الأرض، دبابات وجرافة تدك متون الأرض، ومن ورائها ناقلات جند مدججون بأعتى الأسلحة،مصعب يركض نحو الجرافة، يضع العبوة الناسفة في مكان يؤهلها للتفجر، يعود سريعا إلى مكانه،تعثرت القدم،ترنح الجسد الفتي، سالت دماء من ظهره، حمل السلاح من جديد، والتفت نحو العدو، رشقهم بالرصاص،كانوا كثرا، سقط بعضهم برصاص الفصيل، رصاصة أصابته في ضلعه الأيسر وأخرى في الذراع الأيمن، حاول حمل السلاح من جديد، لم يستطع، تمزق الغشاءان،سقطت حبات الحلوى الملونة، تناثرت أمام عينيه، تراءت له صورة الولدين في كل حبة تتدحرج فوق الحطام وهما يمدان إليه يديهما، مد يده، فأمسكت زهرة بيضاء خرجت من بين الركام، نظر إليها وقد افتر ثغريضاحك ملائكة السماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى