الحرية والهوية بين الثابت والمتغير
من شروط كون الإنسان حرا واعيا قدرته على تجاوز حدود الطائفة والمذهب والقبيلة والعشيرة إلى آفاق إنسانية واسعة تعنى بالإنسان كإنسان (والإسلام بالنسبة لي يستوعب هذه الآفاق تماما عند من يحسنون قراءته)..وهذا لا يعني أن يفقد الإنسان هويته وتميع شخصيته وإنما يعني القدرة على النقد الذاتي وإعادة تقييم مكونات ومحددات المذهب أو الطائفة أو الجماعة - أيا كانت - التي ينتمي إليها من أجل التطوير والتجديد والتغيير الايجابي المتناسب مع مكونات الزمان والثقافة والبيئة ويعني أيضا محاولة قراءة ذات الموضوع من زاوية رؤية مختلفة يقترب فيها الإنسان من موقع الآخر لأن ذلك قد يساعد على تصحيح بعض المفاهيم والاستفادة من تجربة ومعاناة الآخرين...وقد ازداد الحديث مؤخرا (ولأسباب سياسية بالدرجة الأولى) عن المذهب والطائفة وتنوعت الآراء العامة بين مطالب بمزيد من الالتفاف حول المذهب أو الطائفة ومطالب بتحرير الفكر من هذه الحدود الضيقة والانفتاح على الفكر الإنساني لأن تبني الفكر الطائفي غالبا ما يؤدي في النهاية إلى الصدام على الأرض وموضوعي لا يتركز على هذه المسألة لذلك سأتجاوزها مع الإشارة إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: إن نشر ثقافة الفكر الإنساني الحر المتجاوز لحدود المذهب مهم جدا قبل حدوث الأزمات – أي بشكل وقائي – أما بعد حدوث الأزمة فسيكون من الصعب جدا مقاومة الفكر المذهبي والطائفي والقبلي أو حتى الخروج عن نسق الطائفة والمذهب والقبيلة لأن ذلك سيعني تصفية ليس على صعيد الفكر والثقافة فحسب بل حتى على المستوى الجسدي أحيانا وما حدث في العراق من اصطفاف طائفي ومذهبي رهيب بعد الأزمة دليل قوي على ذلك حتى أن بعض أرباب الفكر الشيوعي اضطروا أن يركبوا موجة المذهبية ربما للحفاظ على وجودهم وربما للاستفادة من مكتسبات المد المذهبي، وما يحدث في لبنان عند كل استحقاق داخلي مهما صغر شأنه من فرز طائفي ومذهبي دليل آخر على ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار أن لبنان يكاد يكون البلد العربي الأول في درجة انفتاحه على الثقافة الغربية
الثانية: أن نشر الفكر الإنساني الحر المتجاوز لحدود المذهب أو الطائفة يجب أن يعمم على جميع المذاهب والطوائف والكيانات وخاصة القوية والتي تمسك بزمام الأمور بيدها، لأن استثناء الفئات المسيطرة والقوية من هذه الثقافة وتعميمها فقط على الفئات غير المنظمة والضعيفة أصلا سيزيد من تفكك وضعف هذه الفئات من جهة ويزيد من عدم قناعتها بالفكر الحر من جهة أخرى مما يعيد التفافها بعد فترة حول فكر ضيق أكثر انغلاقا وأبعد عن روح الحرية الإنسانية.. وإن بقاء الفكر الطائفي أو المذهبي عند جماعة يشكل خطرا على بنية ووجود الجماعات الأخرى مما قد يبرر لها تقوية وتغذية الفكر الطائفي أو المذهبي للدفاع عن نفسها ولتجنب الذوبان السلبي الذي يلغي الهوية....
وأعود لمحور الموضوع فالحديث عن المذهب والطائفة حرك في داخلي تساؤلات عن ماهية الثابت والمتغير في داخل الإنسان الفرد (ليس بالمعنى الديني الفقهي وإنما بالمعنى الإنساني الفكري)... بمعنى هل هناك في داخل الإنسان ثابت لا ينبغي للإنسان أن يتجاوزه... وما هو هذا الثابت ؟؟؟
وهل يتقاطع هذا الثابت عند المذهبيين أو الطائفيين أو القبليين مع المكونات الثقافية والمحددات التاريخية لهذه الطائفة أو المذهب ؟؟؟
هل ما هو ثابت بالنسبة لك متغير بالنسبة لغيرك ؟؟؟
وهل هناك ثوابت مشتركة بين عموم الناس يمكن أن تشكل قاسما مشتركا بين وجدان بني آدم جميعا ؟؟؟؟
ومن ثم هل التجديد الفكري أو النفسي أو الثقافي بمعناه الايجابي أداة موجهة للثابت أم المتغي ر في حياة الناس ؟؟؟ وإذا كانت موجهة نحو الثابت فهل هذا مهدد لضياع الشخصية وتشتت البنية الثقافية ؟؟؟
وهل يشكل التجديد تهديدا للبنية الهيكلية للمذهب أو الطائفة ؟؟؟
ما أعتقده.... أنه لا بد من وجود ثوابت بداخل كل إنسان تشكل مكونات الشخصية لديه وقاعدة الارتكاز ومأوى ومهوى الروح والنفس والعقل والجسد.... وهذه الثوابت يجب أن تكون إلى حد كبير بعيدة عن حركة التجديد بالمعنى الاستبدالي أو الاستئصالي لها... ووجود هذه الثوابت لا يعني جمودا أو ركودا أو إعاقة، وإنما يعني وجود قاعدة ثابتة قوية متينة تشكل منطلقا لحركة تجديد فاعلة نشطة أبعادها إنسانية
إذاً ليست الثوابت مشكلة أو حاجزا أمام حركة التجديد، ولكن الأهمية الكبرى تكمن في تحديد ماهية هذه الثوابت...فكلما كانت الثوابت إنسانية كونية فطرية كانت قادرة على استيعاب مجال أوسع من الفكر والوجدان الإنساني وكانت قاعدة أقوى لحركة تجديد أرضها صلبة وهدفها الإنسان
وحتى تكون الثوابت متينة متماسكة يجب أن تتمتع ببعض الخصائص
1 - أن ترتكز إلى مبادئ إنسانية عامة مقبولة من معظم الناس على قاعدة عقلية ووجدانية... فلا يكاد يختلف أحد مثلا على أن لكل حركة محرك ولكل تدبير مدبر ولكل صناعة صانع... وهذا مثال على حالة عقلية مشتركة
ولا يكاد يختلف أحد على ضرورة نصرة المظلوم وتأدية الأمانة والوفاء والعدل والصدق والاخلاص بالعمل... وهذا مثال على حالة وجدانية مشتركة
....
2 - يجب أن تكون هذه الثوابت شاملة وقابلة للتطبيق... شاملة بمعنى أن تشكل قواعد عامة يمكن للإنسان استحضارها والاستناد إليها في معظم مناحي الحياة اليومية وفي معظم الأزمات التي قد تواجه الإنسان، وقابلة للتطبيق بمعنى أن لا تكون مجرد شعارات نظرية تستند إلى أفكار مثالية بعيدة عن الواقع تسقط عند أول اختبار فتسقط معها قداسة المبدأ....
3 - كما يجب لهذه الثوابت أن ترتكز على فهم عميق لسبب وجود الإنسان ومآله لأن تحديد نقطة البداية ونقطة النهاية تساعد إلى درجة كبيرة في رسم الطريق بينهما....
وبالنسبة لي فإن الإسلام يعتبر أهم المناهج المتوفرة إنسانيا والتي تختزن في داخلها هذه الثوابت بخصائصها
إن وجود هذه القواعد الإنسانية يخرجنا من دائرة المذهب والطائفة والقبيلة الضيق إلى المجال الإنساني الرحب الواسع بشكل تدريجي دون أن يعني نسف المكونات الايجابية لهذه الكيانات، بل الاستفادة من عمق تجربة الكيان الثقافية والأخلاقية والاجتماعية وصبها في قالب إنساني
هذه الثوابت وهذه القواعد تقرأها في كل تفصيل من تفاصيل كتاب الله عزوجل، وفي كل نسمة من نسمات الإسلام الصافية
قال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبير "
وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ((لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة، وليس منا من قاتل عصبيَّة، وليس منا من مات على عصبيَّة)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام
بقي أن أقول أن عدم وجود ثوابت يجعل حركة الإنسان فوضوية لا واعية دون هدف واضح ودون طريق واضحة المعالم.... فقد يبني اليوم جدارا ويهدمه في اليوم الثاني، وقد يسلك اليوم طريقا ويسلك ضده اليوم الآخر... وهكذا لا قاعدة ولا مستقر بل حركة عشوائية تحددها مكونات اللحظة التي يعيشها دون التركيز والاهتمام بالمنطلق والهدف...
