الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم دعاء جمال بركات

الحشد

لم تكن المرة الأولى التي أراه فيها ينسحب إلى غرفته ويجلس لساعات طويلة شاردًا في الفراغ، شيء غريب على طفل في الخامسة مثله، مرات كثيرة أفتح غرفته فجأة فأجده يصف عرائسه صفًا طويلًا بينما يلقي إليهم بالأوامر الخاصة بتعليمات الأكل والشرب وموعد النوم المبكر. منذ الهجرة إلى هذه البلدة الهادئة والهدوء لم يقترب منه، أوامره إلى عرائسه لا تنتهي، وغرفته تتسع له وحده مع خياله وألعاب لا تترك صغير في عمره دون أن ترافقه. لم أعبأ في البداية إلا حين وجدته يستفيض في طلب الألعاب، كل يوم يركض إلي حين أعود من عملي ويطلب ألعابًا جديدة، يتجاهل أخيه الأصغر متعللًأ بحداثته وعدم استيعابه للعب، لم أتعجب من طلبه لمجسمات الأسلحة دون غيرها، يختار مسدسًا كبيرًا مع طلقات مرفقة ويختار بندقية طويلة ويطلب منها أثنان وأكثر، يبتعد عن الدمى وأجهزة المحمول المجسمة والحيوانات، أتابعه إلي حيث يأخذهم فأجده قد صنع لألعابه مخزنًا صغيرًا أسفل سريره، كل لعبة جديدة تأتي ترافق مثيلاتها وتُدس في أسفل السرير . حين منعته ذات يوم وأخبرته أن ألعابه أصبحت كثيرة ولا داعي لشراء المزيد رأيت وجهه يحال إلى الفزع، جسده الصغير ينتفض وعيناه تنظر إلي برجاء ممتزج بالإصرار، وينتهي الحال بنا إلي موافقتي على شراء "آخر لعبة" نشتريها فأراه ينقّي الجنود والدبابات المجسمة ، علبة كرتونية ملونة بلوني الأبيض والزيتي موضوع بداخلها دبابة تعمل بالبطارية وعشرة من الجنود المرتدين الخوزات الرمادية ويحملون جسد صغير لبندقية مرتدين أحذية تخص جنود الجيش، ألمحه في طريق العودة يحتضن لعبته، ثم يركض بها إلى الغرفة في انضمام جديد لفريقه بأسفل السرير.

لم تكن البلدة الأوروبية الهادئة تتوقع- ونحن معها- أن يغزوها ذلك الصخب يومًا، أو أن نركض فزعين ذات صباح من قصف يجاور منزلنا، على الغرباء محاولة العودة إلى أوطانهم، هذا ما قاله كل عربي أعرفه هنا.

"سيقتلوننا جميعًا" كلمات يرددها جاري ومعظم المارون بفزع بالشارع، ألتفت إلى زوجتي فأجدها تحزم أمتعتنا بسرعة جنونية، وأكتشف أنها تطلب مني منذ دقائق كثيرة أن أتصل بشركة الطيران كي أحجز رحلة، أي رحلة متوجهه إلى أي مكان آمن، بعيدًا عن القصف حتى إن لم نعد إلى بلدتنا، لم أسمعها للمرات الأولى بسبب شرودي ثم نفذت طلبها مرغمًا. للحظات غفى ذهنى عن أطفالي، كل ما انحصر به تفكيري هو النجاة بنفسي، ثم عاد الشعور من جديد ليغمر طفلاي وزوجتي.

الطفل الأصغر في حضن والدته، أما الأكبر فلم أعثر له على أثر، أو استجابة لندائي حين ناديته، لم أرغب في إفزاع والدته بإخبارها عن أختفاؤه، صعدت بسرعة فهد إلى غرفته فلم أجده، تلحقني والدته وهي حامله أخيه ومتعلق بذراعها ورقبتها بعض الأمتعة المهمة لنا، يعلوا صراخها حين أكتشفت أختفاء طفلنا الأكبر، تتعالى صرخاتها كلما تعالت أصوات المروحيات فوق منزلنا والتي تطالبنا بإخلاء المنازل حالًا، لأن قصف المكان سيبدأ بعد فترة قصيرة.. أحاول تهدئتها بلا جدوى، تنطق إسم طفلنا وتصرخ ولا يظهر ولا يجيب، أنزل إلى تحت سريره لأجد ألعابه التي كونها جيشًا كاملًا قد أختفت هي الأخرى، وقتها تسلل إلي يقين بأنه بخير، حاولت طمأنتها بالدليل الذي وجدته فلم تقتنع.. سحبتها مسرعًا هي وإبني الأصغر إلى خارج المنزل، لم أستطع أن أشرح لها.. لن تفهمني في هذه الساعات المزدحمة بالحرب والبشر الذين أشتعلت بينهم الأزمة دون دخل لعرقنا فيها، للمرة الأولى لم نكن العرق المقصود بالإباده .. ضممتها إلى حضني بحزم صادق مرددًا: إنه بخير،هذا الصبي سيعود قريًبا.. تأكدي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى