

الحق لا يموت
في مدينة جنين، حيث تنبض الأرض بالحياة رغم الاحتلال، كان المعلم إياس يدرس طلابه في مدرسة ابتدائية. كان رجلًا حكيمًا، يؤمن بأنَّ غرس حب الوطن في نفوس الناشئة هو سلاح أقوى من أي سلاح آخر. في إحدى حصص اللغة العربية، وقف المعلم إياس أمام تلاميذه، يتلو عليهم مقاطع من كتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي، ويحثهم على التمسك بأرضهم والدفاع عنها.
كان بين الطلاب ثلاثة فتية أذكياء: سمير، وليد، ويحيى. كانوا يستمعون إلى معلمهم بإنصات، وتحفز قلوبهم، كلمات الشعر الوطني الذي كان يلقيه عليهم. لم يكونوا مجرد تلاميذ يتلقون الدروس، بل كانوا يحملون في أعماقهم وعيًا يتجاوز أعمارهم الصغيرة.
في أحد الأيام، جاء سمير يلهث إلى صديقه يحيى، الذي كان يعمل مع والده الفلاح في الحقل. أخبره بأن الانتفاضة وصلت إلى جنين، وأنَّ المقاومين نفذوا عملية فدائية في القدس.
كانت أخبار المقاومة تلهب حماسة الفتيان، لكن سرعان ما طغى على فرحتهم خبر مؤلم: اعتُقل المعلم إياس ضمن حملة اعتقالات تعسفية نفذها الاحتلال، إذ رأى فيه الجنود مصدر إلهام قد يشعل جذوة التمرد في قلوب الطلاب.
شعر الفتية بغصة في صدورهم، ولم يستطيعوا تقبل هذا الظلم.
اجتمعوا يومًا تحت شجرة الزيتون العتيقة في طرف الحي، وراحوا يناقشون ما يمكنهم فعله. قال وليد بحماس: "لن نبقى صامتين! إنهم يأخذون معلمنا، وربما سيأخذون آباءنا وأمهاتنا أيضًا!" أيده يحيى قائلًا: "علينا أن نرسلَ لهم رسالة بأننا لن نستسلم."
بدأ الفتية يجمعون الحجارة من الطرقات، استعدادًا لمواجهة جنود الاحتلال الذين اجتاحوا البلدة. كانت خطتهم بسيطة لكنها مليئة بالإصرار؛ سيواجهون الجنود بحجارتهم الصغيرة كما فعل الأطفال في المدن الأخرى.
في اليوم الآتي، عمّ حظر التجول أرجاء جنين، وأخذ الجنود يقتحمون البيوت، يعتقلون الرجال، ويعتدون على الشيوخ والأطفال.
كانت النساء يقفن خلف الأبواب، يراقبن الموقف بقلق، بينما كان الرجال يحاولون حماية أطفالهم. لكن الفتية لم يتراجعوا، بل وقفوا في الأزقة، يرمون الحجارة على الجنود، يهتفون للوطن، ويشعلون في القلوب جذوة الأمل.
في إحدى الزوايا، رأى يحيى جنديًا يحاول اقتياد رجل مسن، فاندفع بكل شجاعة، ورمى حجرًا أصاب الجندي في رأسه.
سادت الفوضى، وبدأ الجنود يطلقون الرصاص، لكن الفتية استمروا في المقاومة كالأسود، يركضون بين الأزقة الضيقة، يختبئون خلف الجدران، ثم يظهرون فجأة ليقذفوا حجارتهم ويهربوا بسرعة.
كانت المدينة تشتعل بالغضب، وكأن الأرض نفسها تقاتل معهم.
في الليل، جلس يحيى ورفاقه على سطح أحد المنازل، ينظرون إلى الأضواء البعيدة، ويستمعون إلى أصوات الاشتباكات.
قال سمير بصوت خافت: "هل تعتقدون أنَّ معلمنا بخير؟" أجابه وليد: "لا نعرف، لكننا نعلم شيئًا واحدًا… لن ننسى ما علمنا إياه."
رغم القمع والاعتقالات، لم ينكسر أبناء جنين. كانوا يعرفون أنَّ الاحتلال قد يكون أقوى سلاحًا، لكنه لن يكون أقوى إرادةً. وكما أخبرهم معلمهم إياس ذات يوم: "ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد إلا بالقوة."
كبر الفتية وكبرت معهم أحلامهم، ظلوا يقاتلون بطريقتهم، بالأمل، بالعلم، بالحجارة، بالكلمة، وبحبهم الذي لا يموت لفلسطين.
=النهاية=