

الطريقُ نحو هدفِنا
وسط أصوات القذائف التي تمزق صمت الليل، وبين أزقّة غزّة الضيقة التي غمرها الركام، كنت أسير بخطى ثقيلة أحمل في عينَيّ بقايا حلم وفي قلبي ألف حكاية عن الفقد والصمود اعتدت أن أستيقظ على دويّ الانفجارات. لكنّ الألم لم يصبح يومًا مألوفًا. في هذه المدينة التي لا تنام على وقع الرعب، كنت أبحث عن لحظة أمان، عن زاويةٍ لم تسرقها الحرب، عن غدٍ لا يحمل لونَ الرماد.
وفي ليلةٍ من ليالي هذه الحرب كان الضرب قوياً وقريباً حينها كنت أشعر بالخوف، والرعب يشغل قلبي، وبالفعل وصل شبحُ الحرب إلى منزلنا الذي سقط فوق رؤوسنا، عندها سمعت صوت أبي يقول: " الخريطة يا عمر!" كانت هذه المرة الأخيرة التي أسمع فيها صوت أبي فتحت عينَيّ لأجد أمي والدمعة في عينها تنتظر السقوط
سألت بخوف:
ماذا هناك يا أمي؟
– يا عمر كلّنا نحيا ونموت في هذه الدنيا.
– من الذي مات؟
قالت أمي وهي تبكي: أبوك يا صغيري.
شعرت حينها وكأن قفصاً قبض على قلبي، وسكبت دموعي الجمر في صدري.
بعد مرور أيام وجدنا مأوىً صغيراَ يحمينا من البرد والأمطار، كنّا نجري لنبحث عن قطرة ماء صغيرة لنروي فيها ظمأنا.
لكنّ مقولة أبي الأخيرة لم تغادرْ ذهني ولم أتوقف عن التفكير فيها.
أمي حاولت أن تتماسك دائما بينما عاشت أوقاتاً صعبة حتى إني في إحدى الليالي استيقظت على صوتِ لميس تبكي بشكلٍ خفيف كان ذلك بسبب فقدانها لأبي.
لم أرد أن أشعر أختي بالنقص واليتم، لذلك قلت في نفسي: سأًصمد أمام جميع المصاعب والتحديات
قلت لها: لا تحزني يا أختي، أبي موجودٌ معنا دائماً هنا وأشرت إلى قلبها في قلبك
ضمّتني بشدة وقالت: إنّي أحبك يا أخي.
عدت يومها إلى سريري لاستكمل نومي، ولكنّ الليل كان طويلًا، والهمسات التي كانت تطفو بيننا لم تكن كافية لتهدئة قلوبنا.. استفاقت الملامح بالشوارع تحت الركام وكأنها تحاول إخبارنا أن الحياة لا تتوقف، ورغم أن دوي الانفجارات لاحقنا أينما ذهبنا كانت أمي تتماسك أكثر، لكنها لم تستطع إخفاء دموعها التي كانت تسيل بخجل بين ثنايا الليل
ذات مساء حينما كنت أحضر ما تيسر من الخبز لعائلتنا، وجدت شخصًا واقفًا فوق الشجرة يحدق بي، بدا كأنه في عمري، نزل من فوق الشجرة واتّجه نحوي ثم قال: "أنت أنت" مشيراً إليّ حاولت ألا أظهر له خوفي أو ارتباكي وأجبته قائلاً: تفضل هل تحتاج شيئاً؟
سألني: ما اسمك؟
جاوبته: اسمي عمر، وأنت ما هو أسمك؟
قال: أنا اسمي رامي، تشرّفت بمعرفتك يا عمر. ومدّ يده ليصافحني.
صافحته وكأننا لا نلتقي للمرة الأولى!
سألني: هل نصبح أصدقاء؟
وبالفعل وبهذه البساطة أًصبحنا أصدقاء، وبدأنا كل يوم نتمشى سويّة ونتحدث عن أنفسنا، أخبرني أن له أختين تدعيان ميرا وريما، وكان منزله قد تحطم بفعل قصف طيران الغزاة الطامعين وهو يعيش بمنزل متواضعٍ بالقرب من منزلي، ودعته لأذهب للبيت وحين وصلت دخلت المنزل كان كل شيء حولي كما تركته ولكن كان هناك شيء مفقود في قلبي فكان الصمت يملأ المكان، وكأن البيت لم يعد مكاناً للراحة! لم تعد أصوات ضحكاتنا تسمع، ولا حتى أصوات أقدام أمي وهي تعد لنا الطعام. رحل أبي، وتبقت فقط ذكرياته، لكن رغم ذلك لم أكن وحيداً، إلى جانبي أختي لميس وأمي أيضا ورامي الذي أصبح جزءاً من عالمي في هذه الأيام السوداء. بعدها ملأني الضجر والملل فقررت الذهاب لرؤية رامي، وحين وصلت إلى منزله سمعت صوت بكاءٍ خفيف، طرقت الباب فلم يجب أحد، فنظرت من النافذة المطلة على غرفة رامي، ووجدته مختبئا في الزاوية والدمع يسيل على خديه، دخلت من النافذة التي كانت مفتوحة وأسرعت إليه قائلاً: هل أنت بخير، ماذا هناك يا علي؟
أجابني بحزن: أبي يا عمر.. أبي!
عمر: ما به؟
علي: لقد مات!
هنا شعرت بالقهر وقد ملأ قلبي من جديد، أحسست وكأن موت أبي قد تكرر أمامي.
لم أستطع المقاومة، فالدمع استولى على مساحة خدي، فقلت له وأنا أبكي: شعرت بهذا يوماً يا علي، إنه شيء صعب التصديق، وضممته ورحنا نبكي بحسرة.
سألته باستغراب: أين أمك وأختاك؟
رفع كتفيه بإشارة تدل على أنه لا يعلم
فجأة سمعنا صوت الباب يفتح، ودخلت أم رامي إلى الغرفة وبدأت تبكي وتندب نظرت لعمر بعيوني وقلبي معاً وقلت له بنبرة ثابتة: من خلال تجربتي القاسية يا صديقي تعلمت أنني يجب ان أعيش كل لحظة وكأنها آخر لحظة في الحياة، ورغم الألم الذي لم يفارقني كنت أتشبث بأمل بسيط في غدٍ أفضل، حتى إني تعلمت كيف أكون قوياً في مواجهة الموت والدمار، وأن الحياة لا تمنحك فرصة ثانية، ومع ذلك إنها الحقيقة التي مهما حاولت لن تهرب من قفصها، ورغم أن الحرب كانت تلتهم كل شيء حولنا كانت هناك لحظات صغيرة من السكينة، لحظات لم تطلها القذائف المدفعية، ربما كانت هذه اللحظات هي التي تجعلنا نستمر بالحياة.
بعد مرور أيام كنا نمشي أنا ورامي، نبحث عن لقمة العيش، وجدنا كهفًا صغيراً فدخلنا إليه لعلنا نجد شيئاً يروي عطشنا، تعمقنا قليلًا داخل الكهف فتعثرت بصندوقٍ صغير، وقفت ومسكت الصندوق
قلت والدهشة تملأ قلبي: ما هذا؟
أجابني رامي: افتحه.. هيّا
فتحت الصندوق لأجد خريطةً وقد كتب عنوانها بخط مألوف، لقد كانت تشير إلى مكانٍ وراء الجبل
سألني رامي بتعجب: ما هذه الخريطة؟
صرخت عاليًا: أبي أبي!
رامي: ما به أبوك؟
– إنه خطّه! وتذكرت مقولة أبي: "الخريطة يا عمر"
انتبه رامي لوجود ملاحظة مكتوبة فتساءل بدهشةٍ: ما هذا المكتوب هناك؟ وقرأ بصوت عالي: "الكهف" وكتب هذا الرمز: 223123
وقلت له: سنبدأ هذه المغامرة وسنتبع هذه الخريطة.
عدت إلى البيت، ولأني لم أرد أن أرى أمي تبكي راجيةً مني البقاء في حضنها، قررت ترك رسالة لها، لم أكن قادرًا على المواجهة في الوقت نفسه لم يكن عندي شك أن رامي استطاع حل الأمر مع عائلته من دون تردد فهو أكثر حزمًا وجرأةً مني.
استيقظت في الليل مستعداً للذهاب، ورحت أكتب هذه الرسالة بينما قلبي يحترق من الألم:
لم أودّ قول هذه الكلمات أمامك لأن قلبي لن يحتمل دموعك يا أمي، سامحيني
يا أمي يجب ان أذهب لأن هناك شيء بداخلي يقول لي اذهب وابحث.
وجدت خريطة عليها خطُ بسيط، خطُ لشخصٍ اعتقدنا أننا فارقناه، نعم إنه أبي
وهذه الخريطة قد تدل على مكان أبي الذي ربما يكون بحاجتي الآن مثلما
أنا أحتاجه، أمي حضنك هو الشيء الوحيد الذي كان يشعرني بالأمان، أحبك.
لميس كوني قوية مثلما كنت دائماً لا تبكي اجعلي ابتسامتك تضيء البيت، تذكرا دائماً أنني سأعود وأنني أحبكما، إلى اللقاء
دخلت الى غرفة نومنا نظرت لأمي بحرقة وقبلتها على خدها ونظرت للميس التي أرى في عيونها الأمل
خرجت من المنزل الى المكان المتفق أن نلتقي فيه أنا ورامي، وحين أتى بدأنا السير متبعين دلالة الخريطة حتى وصلنا الى حدود مخيمٍ فيه جدران متهدمة، لنجد كتلة من الغزاة المسلحين يحرسون المكان كي يمنعوا خروج أي شخص. أمسك رامي بيدي وهو يرتجف خوفاً فالجميع يدرك أن المكان بات في قبضة الغزاة، رجالٌ لا يعلمون للرحمة طريقاً، يلوحون بأسلحتهم ويطلقون النار عليك قبل أن يسألوك من أنت، لذلك كان يجب أن نتحرك بهدوء ٍتامٍ كظلٍّ ينزلق في عتمة الليل اتخذنا من الجدران المتشققة ساتراً، نحسب خطانا الثقيلة ونتحكم بأنفاسنا لأنها قد تكون سبب قتلنا. فجأة سمعنا صوت أقدام عسكري تقترب، ما جعلنا نتصلب في مكاننا، لم أعرف كيف أتصرف، ركضنا مبتعدين فوصلنا إلى بناء مهجور قريب، دخلنا هناك وقد نكون نجونا، لكننا لا نعلم ماذا سيحدث في المرة القادمة. خرجنا من المبنى واستمرينا بالمشي حتى تخطينا الحاجز الأول وعلى بعد أمتار سمعنا صوت أنين عميقٍ.. وقفت فأشار لي رامي أنه علينا أن نتحرك بسرعة، لكني تسمرت في مكاني لقد كان صوت طفلٍ
رامي هامساً: ما بك يا عمر؟ هل ستفضحنا؟
إنه صوت طفلٍ يا رامي!
رامي: وماذا نستطيع أن نفعل علينا الفرار بأنفسنا
لا يمكن، علينا أن ننقذه.
رامي: ماذا!! هل فقدت عقلك سيمسكون بنا
قلت له والإيمان يملأ قلبي: إنقاذ طفلٍ أهم من حياتنا فالأطفال هم من سيكملون طريق المقاومة حتى لو متنا.
ما بك تتكلم وكأنك عجوز يا صديقي؟ مازحني رامي بينما يهز رأسه موافقًا على فكرتي
تسللنا من بين السواتر متبعين مصدر الصوت، وبالفعل وجدنا طفلاً محتجزاً في غرفة بائسة يعمها الخراب.. لم نكن نعرف من هو أو ما قصته لكنّنا اصحبناه معنا نحو هدفنا...
وصلنا الى الجبل، وبدأنا التسلق متبادلين حمل الطفل.. كانت الأرض وعرة جداً مما صعب المهمة علينا، وحين أصبحنا في منتصف الطريق انزلقت رجل رامي وكاد أن يسقط منه الطفل نحو الهاوية لكنني أمسكت يده في آخر لحظة، كان يتنفس بصعوبة والعرق يتصبب من جبينه
قلت في نفسي: لن أدعكما تسقطان، لن أخسركما كما خسرت والدي.. بجهد وحرقة سحبت الطفل منه نحو الأعلى ثم سحبت رامي ومشينا ونحن نلهث ونضحك ونبكي في اللحظة نفسها!
وصلنا الى كهف قديم محفور في بطن الجبل عليه رمز مطابق للرمز الموجود في الورقة، خفق قلبي بشدة، ونظرت لرامي الذي كان خائفاً لكنه دفع الحجرَ ففتح مدخلٌ ضيقٌ، دخلنا هذا المضيق لنصل الى مكان أشبه بالسجن.. سرنا داخله لدقائق ثمّ صرختُ: أبي أنا عمر هل أنت هنا؟
فجأة لم أرَ شيئاً، لم أعد أرى شيئاً أمامي، فتحت عيني على صوت زغاريد: انهض يا عمر انهض بسرعة، استيقظت، نظرت بتمعن وفركت عيني ونظرت مرة أخرى إنه أبي ونحن في منزلنا! حضنته بشدة هل حقاً كل ذلك كان حلماً! تعالت الزغاريد أكثر حينها أخبرتني لميس أن روحاً جديدة بريئة انضمت لعائلتنا، لقد أنجبت أمي لنا أخاً.. هرعت إليها فوجدت بين يديها طفلًا وجهه يشبه وجه ذاك الطفل في حلمي
شعرت بسعادة غامرة، قبلت كفه الصغيرة وعرفت أنني سأكمل معه الطريق نحو هدفنا.