الفلسفي في "عشب اللّيل"(1) لإبراهيم الكوني
سنطمئن لتعريف توفيق بكار"للهامشية" –الذي رأى الكلمة "مشتقة من لغة الوراقة و تتعلّق بهيأة توزيع الكلام على الصفحة المخطوطة أو الطبوعة ،فلها صدر و لها هامش يحيط به . أما الصدر فللنصّ"المتن" و أما الهامش فلتوابعه من التحشية و التعليق"(2)
غير أن هذا الاطمئنان سرعان ما يهتزّ عندما تباغتنا مشتقّات أخرى لكلمة هامشية من نحو:الهامشي و الهامش و المهمّش خاصة عندما ترد مصاحبة لكلمة "الأدب".
تفترض عبارة الأدب الهامشي وجود أدب مركزي فما هو الأدب المركزي و من يكتبه؟ يبدو لي أن الأدب المركزي هو أدب المؤسسة يكتبه"كتبة" و "كتاب" من صنع المؤسسة السياسية أو الدينية النافذة في ذلك العصر للترويج و الدعاية لها أو لتبرير وجودها فهو أدب تابع للمؤسسة و يتضح الأمر عندما نستحضر معاني كلمة مركز و تحضرنا عبارة "مركز" في بعض الدول العربية بمعنى مخفر الشرطة. و في مقابل هذا الأدب يظهر الأدب الهامشي و هو الأدب الذي يقوم على الاحتجاج ضد وضعية الإنسان و العالم و ضدّ أداء المؤسسة و أحقية وجودها و استمرار سلطانها و هو نوعان:أدب منبري خطابي لا خير فيه و أدب فيه من الرقي ما يجعله ينقد في غير إسفاف و لا مباشرتية .
أما أدب الهامش فهو أدب يرصد حياة المنسيين و الذين يعيشون في طرة الحياة و على حافتها، هم المدقعون فقرا من متسوّلين و لصوص صغار و متشردين و بائعين متجوّلين و صغار الموظفين،فيرصد هذا الأدب حيواتهم و معاناتهم ، و في مقابل هذا الأدب نتوقع أدبا أخر هو أدب المركز و هو الأدب البلاطي،أدب ينشغل بحياة الترف التي يحياها الخاصة من الساسة و الفنانين و رجال الدين أحيانا.
أما الأدب المهمّش فهو أدب المغضوب عليهم من طرف المؤسسة،إما لأنهم يحاربونها علنا أو يقدّمون بدائل للحياة التي تسوسها من خلال أدب تقدّمي يتغنّى بالحريات مثلا.
فأين نضع تجربة إبراهيم الكوني؟
هل نصنفها ضمن أدب المؤسسة ؟أم نصنفها ضمن أدب الهامش باعتبار أن الكاتب يحاول الاحتفاء بمجتمع مهمّش هو شعب الطوارق ؟ ثم ما الذي قدّمه الكوني لشعب الطوارق ؟ هل قدّم أسئلتهم الحقيقية كأقلية أم تعامل معهم[الطوارق] مخبريا كما يتعامل الباحثين،عادة، مع الكائنات النادرة المهددة بالانقراض ؟
و من ثم يتحوّل أدبه إلى شكل جديد من التهميش لهذه المجتمعات الصحراوية.
كل هذه أسئلة و مداخل لمقاربة أعمال الكوني في علاقتها بالهامش و المركز.غير أننا اخترنا زاوية أخرى لتحسّس المسألة .
هل كل ما كتبه الكوني و كرّسه كاتبا مركزيّا كان أدبا أم أن بعضه يتموضع على هامش الأدب وإن كان ملفوفا في غلاف أدبي.
طرحنا هذا السؤال و نحن نتحسس مرجعية طاغية في أدبه و مهمّشة نقديا و هي المرجعية الفلسفية في كتاباته .فقد ظل هذا المبحث مغيّبا مقارنة بطغيان أسئلة كان مدارها على الصحراء و البعد الأسطوري و الخرافي في نصوصه .
و قبل أن نشرع في تحسس هذه المسألة عند الكوني يجدر بنا أن نعود إلى علاقة الفلسفة بالرواية .
الفلسفة و الرواية
تتقاطع الفلسفة و الرّواية في أكثر من موقع و في أكثر من مستوى أهمها مأزق التقعيد و التحديد المفهومي فقد تأكّد للمشتغلين بالحقلين أن ضبط مفهوم جامع مانع لكل من الفلسفة أو الرواية بات أمرا مستحيلا و كل محاولة لاجتراح مفهوم لواحد منهما ليست سوى ضرب من العبث و نشاط من قصيري النظر و من السطحيين أو القصوويين المشتغلين بأحد الحقلين نقّادا كانوا أم فلاسفة.
من جهة أخرى تردّد أدبيات الفلسفة أنها [الفلسفة] تعلّم الإنسان الحياة بل إنها تعلّمه الموت أحيانا و بالتوازي تظهر الرواية منافسة شرسة لها عندما تقدّم نفسها على أنها مخزون و منجم من التجارب الحياتية ملفوفة في قوالب تخييلية يهرع إليها القرّاء رغبة منهم في تعميق حيواتهم بتجارب الآخرين.
و إذا كانت الفلسفة قد جعلت من المتن الروائي متنا لأسئلتها فانطلق الفلاسفة يطرحون نظرياتهم حول الذات و الجسد و الدين و العالم من خلال نماذج روائية عالمية كما هو الحال مع بول ريكور و جيل دلوز و دافيد لوبروتن و ميشال فوكو فعادوا إلى روايات من نحو دون كيشوت لسرفانتس و العطر لزوسكيند و المسخ لكافكا و بحثا عن الزمن الضائع لبروست .
فإن الرواية أيضا لم تتردّد في توظيف الفلسفة و تلوين مناخاتها بعوالم الفكر الفلسفي و أن تجعل من الفلسفة فضاءها التخييلي و محرّكها السردي نمثّل لذلك برواية "عالم صوفي"(3) للنرويجي جوستيان غاردر الذي صاغ تاريخ الفلسفة في عمل روائي و رواية "نقطة مقابل نقطة"(4) للانكليزي ألدس هكسلي التي رشحت بالأسئلة الفلسفية حول مفهوم الفن و مفهوم العدالة و فيها يطيل الراوي تحليل دوافع الخطيئة و الفسق و تكوّن الشهوة الجنسية و انحرافاتها و يتوقّف مطوّلا عند مفهوم الحقيقة و الخلق الفنّي كل ذلك في أسلوب فلسفي مذكّرا بالكلبيين و الرواقيين مردّدا أسماء كثير من الفلاسفة مثل سبينوزا و نيتشه و ثيوفرسطس ...ممّا دفعها إلى أن تكون كما وصفها صاحبها داخل الرواية:"رواية أفكار".
و لا يمكننا أن نغفل عن أعمال باولو كويلهو و خاصة روايته"الخيميائي و حجر الفلاسفة" (5)التي كانت رواية فلسفية بامتياز.
التفت السرد العربي إلى الفلسفة في أكثر من مستوى فكانت لسالم حميش تجربة في القص القصير المتلوّن بالفكر في مجموعته القصصية" أنا المتوغّل"(6) التي وضع لها علامة أجناسية واصفة"قصص فكرية" و لنا في رواية "و هلمّ شرّا "(7) للمغربي محمد حجو مثال آخر لتقاطع الفلسفي مع الروائي فجاءت الرواية فكرية قلّب فيها الروائي في نفس نيتشوي مجموعة من الهواجس الفلسفية و الفكرية .
غير أن هذه التجارب بقيت معزولة لأنها لم تكن داخل تراكم إنتاجي متناغم و لم ترتق إلى صورة الظاهرة الأدبية و لم تمثّل شكلا من الخصوصية في الكتابة إلا عند المسعدي(8) – و لو بشكل من المبالغة- حيث وحّد السؤال الوجودي عالم الكتابة السردية عنده. بينما تمثّل علاقة إبراهيم الكوني بالفلسفة علاقة مخصوصة سنتحسس بعض علاماتها في هذه الدراسة.
صحيح أن إبراهيم الكوني يستلهم أعماله الإبداعية في كثير منها من الموروث الأسطوري و الخرافي و المحلّي لشعب الطوارق في عمق الصحراء الإفريقية و هو ما أكسب أعماله خصوصية داخل المنجز الروائي العربي و المكتوب الروائي العالمي،فهي تبدو نحتا على غير مثال كما رآها الناقد توفيق بكّار(9) و هي أيضا كتابة تحفر في عمق جيولوجيا النشأة و التكوين مما دفع المستعرب و المترجم روجر ألن أن يصف الكوني بقوله:" إن إبراهيم الكوني صوت روائي أصيل،و في الوقت نفسه،مثير،لا لأنه عرّف قرّاء العربية بمجال مكاني،و بتاريخ و ثقافة تبدو لأكثر الناس مجهولة و غير مألوفة ،و لكن لأنه يعيد إلى الذاكرة،في أعماله الروائية ،قيم الأزمنة البدئية"(10).
إلاّ أن هذه الخصوصية و هذه الكتابة التي تبدو منغمسة في محلّيتها الشديدة بانشغالها بفضاء مهمّش وشريحة بشرية مهمّشة هي"الطوارق" لا يمكن لها أن تحجب عنّا أسئلة الكاتب الوجودية و الإنسانية في أعماله السردية القصصية منها و الروائية. فهو يمتح من المحلّي ومن الموروث الأسطوري للكائن الصحراوي لكي يعبّر عن أوجاع و هواجس الكائن البشري أينما كان.
و لئن اهتم النقاد كثيرا بهذه الناحية و وقفوا عندها طويلا و نقصد المرجعية المحلّية و الأسطورية لكتابات الكوني فإنّنا لم نلحظ اهتماما كبيرا بمرجعياته الأخرى التي مثّلت معينا آخر للإبداع و أهمها المرجعية الفلسفية و مدونة التحليل النفسي و المنجز الروائي الغربي و الكتب السماوية . و سنكتفي في هذه الدراسة بتقصّي بعض مظاهر حضور الفلسفة و التحليل النفسي في روايته "عشب اللّيل" .
يمثّل المنجز الفلسفي النيتشوي أهم المنبع المركزي الذي تتدفّق منه المياه السردية لأعمال إبراهيم الكوني و يتّضح ذلك في مواقع كثيرة من مدوّنته مُعلنا تارة كما هو الأمر في مجموعته"شجرة الرّتم" التي صدّرها بعبارة نيتشه:"الصحراء تمتدّ و تتسع، فالويل لمن تسوّل له نفسه أن يستولي على الصحراء"(11)و مُضمّنا تارة أخرى كما هو الحال في رواية"عشب الليل".
يمثّل سؤال:ما الإنسان؟ سؤالا مركزا و رئيسا في مجمل أعمال الكوني و لم تكن رواية "عشب الليل" استثناء فقد ظل الروائي يقلّب السؤال على أوجه مختلفة تنضح بأصولها الفلسفية و النيتشوية تحديدا .فنقرأ قول الحكيم:"أنا سعيد بعمائي،لأنني بفضله استطعت أن أرى ما لا ترون و أحيا لا كما تحيون"(12) ألا يذكّرنا هذا بالإنسان الذي نظّر له نيتشه و الذي ليس سوى تجاوز؟يقول نيتشه في كتابه "هذا هو الإنسان":"إنسانيتي هي تجاوز متواصل للذات"(13)و عندما يقول الراوي في عشب الليل" لقد أدرك أن رؤى الكل عمى،ما يراه الكل عماء هو الرؤية"(14)، فإنما يؤكّد أن نظرة القطيع هي نظرة مضلّلة، تلك النظرة الأخلاقية الجبانة و من ثمّ وجب على الإنسان أن يتمرّد على كل شيء حتى يكون نفسه و أهم صور هذا التمرّد تمرّده على صفته الأولى بما هو كائن أخلاقي. و يقرن نيتشه الإبداع بالأخلاق عندما يقول:" كل من يريد أن يكون مبدعا في الخير أو في الشر،عليه أن يكون مدمّرا،و أن يحطّم القيم"(15)
إن الأخلاق كما يراها نيتشه من صنع الضعفاء و قد حرّض الفيلسوف الألماني على مساندة "القوي" ضد "الضعيف".
إن الظلمة التي يتحدّث عنها الراوي في رواية الكوني هي الظلمة المخلّصة،إنها الحياة الحق،حياة تقطع مع الكائن المعلوم/المنجز،مع الضوء الزائف الخادع،حياة ضد حياة الضجيج. ألم يسبقه نيتشه إلى مدح العزلة:" إني بحاجة إلى العزلة،أعني إلى المعافاة،إلى العودة إلى الذات و التنفس من هواء خفيف طلق"(16)
فما أشبه "زرادشت"نيتشه ببطل رواية الكوني"عشب الليل"في عشقهما للعزلة،و ما أشبه الكوني في عشقه للعزلة بنيتشه الذي يقول :"إن القرف الذي يثيره فيّ،البشر،القرف تجاه الرّعاع،كان دوما أكبرخطرعليّ".(17)
يلتقي ،إذن،نيتشه من خلال زرادشت بالكوني من خلال بطل عشب الليل،فالأول تخلّص من البشر حينما طار إلى الأعالي و الثاني حينما استعاض عن حياة النهار بحياة الليل أي بحياة الهامش.
إن هذا الرفض للكائن المعطى هو بداية الطريق السالكة لمعرفة الذات من وجهة نظر نيتشه الفيلسوف ف"أن يصبح المرء ما هو يفترض أن لا يكون لديه أدنى دراية بما هو"(18)
تتنفّس عوالم الرواية في مستوى آخر من مديح نيتشه للحرب،نيتشه المتأثّر بالانكليزي صاحب "الليفياتون"توماس هوبز الذي رأى أن الحياة البدئية للإنسان قبل تثكينه داخل مؤسسة الدولة كانت حالة حرب ؛حرب الكل ضد الكل خلافا لما ذهب إليه نظيره الفرنسي المتفائل "جان جاك روسّو" القائل بالطبيعة الخيّرة للإنسان(19).
غير أن نيتشه لم يكتف بوصف الحالة و لا تبنّي مقولة هوبز"الإنسان ذئب للإنسان" في مرحلة ما من تاريخ البشرية إنما رفع العبارة إلى مستوى القاعدة العامة و الأزلية ثم ذهب إلى مدح العدوانية بصفتها الميزة الأصيلة للإنسان فهو إنسان ما دام عدوانيا، لنقرأ ما حبّره حول الحرب:
"الحرب، المزيد من الحرب، لأنها تنتج بما تحمله من حب للوطن و للمبادئ،وثبة أخلاقية تحيل إلى مصير أسمى (..) يجب أن يكون واضحا للجميع أن الحرب هي ضرورة للدولة كما العبد للمجتمع"(20)
في مقابل هذه المقولات الفلسفية حول عدوانية الإنسان تجاه نفسه و تجاه أبناء جلدته ينهض الراوي في "عشب الليل" منظّرا آخر/ متأخرا لهذه الصفة الإنسانية ف"لا يحق لإنسان أن يحيا إذا كان في الصحراء كلها إنسان واحد يحيا ،الحياة لا تحتمل حياة أخرى أبدا.الإنسان يعيش شقيا جدّا إذا جاء نبأ يقول بان ثمّة إنسانا في الكون الأبدي يدبّ و يتنفّس بعمق و يستمتع و (...)يحيا مثله.أوه ما أشد شقاء إنسان يعلم أن ابن ملّته يحيا في مكان ما في الصحراء التي لا يحدّها حدّ"(21)
لا يقف إبراهيم الكوني في روايته عند شقاء الكائن البشري بمعرفته حياة الآخر فحسب بل يجعل من عملية إراقة دمه واجبا وجوديا لإحلال نفسه في الكون، فالإنسان في هذه الرواية وجوده مشروط بالقضاء على شبيهه أينما كان دفاعا عن مركزيته.
يبدو أن ينابيع هذه الفكرة عائدة إلى المفهوم الأول للإنسان كما وضعه نيتشه بما هو تجاوز للذات فغريزة قتل الآخر مردّها إلى رغبة في قتل الذات المعطاة لخلق ذات أخرى هي الذات الحقّ،ألا يذكّرنا هذا بمرجعيات فلسفية أخرى تتقاطع مع أفكار نيتشه و هي الوجودية التي ترى أن ماهية الإنسان تبقى رهينة فعله و عليه أن يتجاوز و يتخلّص مما أورثته إياه الطبيعة حتّى يكون؟
تتقاطع المرجعيات الفلسفية و تصورات هوبز عن"ذئبية" الإنسان مع الكائن النيتشوي المحارب و مع جحيمية الآخر السارتري و مع الكائن الغادر عند الكوني.
يقول الراوي:"
"ما إن يعلم الإنسان بأن له أخا يحيا في الرقعة المجهولة حتى يصبح لا بدّ له من أن يحتال و يبدع و يركب الريح ليصل إليه. يصل إليه يرتمي بين ذراعيه يحتضنه بحرارة،و يبكي بدموع الحنين بين يديه ثم يستغفله في الظهر الطعنة المميتة.هذا هو الإنسان" (22)
ألا تذكرنا العبارة الأخيرة بمؤلّف نيتشه الجامع لتجربته "هذا هو الإنسان"؟
إن النزوع العدواني عند الإنسان الذي يتحدّث عنه نيتشه هو المحرّك الأساسي لهذا الكائن حتى يكون فهو لم يخلق إلا من أجل ذلك، إنه خلق من أجل أن يفنى و يفني وسيلته في ذلك الحرب لهذا يعترف نيتشه بجبلّة الحرب عند الإنسان:
:"إنني ذو مؤهلات حربية بطبعي،الهجوم هو إحدى غرائزي"(23)و يقرن نيتشه هذه الصفة بالإنسان الأقوى/الأرقى :الإنسان النيتشوي الكامل.
و لا يرى حاجة إلى السلام إلا باعتباره وقتا مستقطعا لتجديد الحرب يقول:"أحبوا السلام كوسيلة لتجديد الحروب، و خير السلام ما قصرت مدته..."(24) بينما نطالع هذه الصورة عند الكوني في أسئلة استنكارية :" لماذا تفتننا الإساءة إلى هذا الحدّ؟أي سر في الشر،ألا يوجد إنسان واحد في هذه الصحراء ولم يولد في نفسه كراهية أخيه الإنسان؟" (25)
هكذا يصبح الخطاب الفلسفي كما الخطاب الروائي منشغلا بحلحلة ما هو مركز/السلام و إحلال الهامش/الحرب مكانه.
الصراع بين النظام الأمومي و النظام الأبوي في "عشب الليل"
تردّد رواية الكوني صورة المرأة كما دوّنتها أدبيات الفلسفة فقد ظلّت المرأة مصدر الشرّ و الكائن الغادر الذي يجب قمعه و قد تعود هذه الصورة الدونية للمرأة في الفلسفة إلى التصور التاريخي لمراحل الحضارة البشرية التي تحوّلت من مرحلة سيادة الأم/الحقبة الأمومية إلى المرحلة البطريركية/الأبوية انطلاقا من الانقلاب التاريخي للحضارة الإنسانية الذي تحوّلت على إثره الأنثى من موقع الآلهة إلى موقع العبد و افتكّ الرجل/الأب مكانها.
يقول البطل في رواية الكوني:"إن أجسادهن[النساء] لم تخلق إلاّ لإمتاعنا و من حقّنا أن نفعل بجمالهن و فتنتهنّ ما نشاء"(26)
هكذا تكون الرواية قد قدّمت مجتمعها بوصفه مجتمعا طبقيا كما نظّرت له الفلسفات و كما رأى نيتشه المجتمع،فالسيادة عليها أن تكون ذكورية و وسيلة الذكر في ذلك العنف.
لنستحضر كلام نيتشه:"المغلوب ملك الغالب بما فيه امرأته و أبناؤه و أملاكه و دمه. العنف هو أساس القانون "(27)
يعرض الكوني،إذن،في روايته"عشب الليل" لهذه المرحلة الذكورية من تاريخ الحضارة الإنسانية التي انفرد فيها الرجل/الأب/الدكتاتور و الرب بالسيادة .
و لسائل أن يسأل عن سبب هذا الاهتمام؟
إنّ هذه المرحلة الأبوية هي مرحلتنا الآنية بكل مساوئها.و لن نفهم الكوني و لا أسئلة روايته و شفرتها النائمة خلف خطابها الفلسفي إلاّ بحل شفرة المرحلتين: المرحلة الأمومية/المرحلة الأبوية.
فالمرحلة الأولى التي ذهبت دون رجعة هي مرحلة العدالة و المحبة مقابل مرحلة الاستبداد و الكراهية في النظام الأبوي. و يورد إريش فروم في كتابه "الحكايات و الأساطير و الأحلام" تشخيصا واضحا لباخ أوفين حول النظامين و مقارنة جليّة بينهما:
"تتميز حضارة نظام سلطة الأم بأنها تؤكّد روابط الدم و الارتباط بالأرض و التقبل السلبي لأوضاع الطبيعة كلها . أما مجتمع سلطة الأب فتميّز باحترام القانون الذي وضعه الإنسان و بتفكير عقلاني في السعي لتغيير الأوضاع الطبيعية،و بالنسبة إلى هذه المبادئ فإنّ حضارة نظام سلطة الأب هي تقدّم ثابت أكيد مقابل عالم نظام سلطة الأم [...] و تبعا للمفهوم الخاص بنظام الأم فإنّ الجميع سواسية، ذلك لأنهم كلهم أولاد أمهات،و كل واحد منهم ولد الأم الأرض و تحب الأم أطفالها كلّهم،بلا قيد و بلا شرط، حبّا لا تباين فيه لأن حبها يقوم على أساس أنهم أطفالها هي بالذات و لا يقوم على خدمة مميّزة أو انجاز مميّز....إن هدف الحياة هو سعادة البشر،و ما من شيء أكثر أهمية و أعظم كرامة و أجدر من الوجود الإنساني و الحياة.أما نظام سلطة الأب فيرى طاعة السلطة و الإذعان لها أمّ الفضائل. و عوضا عن مبدأ المساواة نجد مفهوم الأب المفضّل و نظام تسلسل الرتب و الدرجات في المجتمع" (28)
هذا الوصف الدقيق لحالة الانتقال الحضاري من سلطة الأم إلى سلطة الأب إذ انتقلت الإنسانية من مرحلة النظام الديمقراطي إلى النظام الديكتاتوري و من "مبدأ المحبة الأمومية الشاملة"(29) إلى مبدأ الكراهية الأبوية الشاملة و من مبدأ التعاون إلى مبدأ الإخضاع.
و الحق أن الالتفات إلى عبارة هولدرلين التي صدّر بها الكوني الكتاب تشي بموضوع الرواية التي جعلت من النظام الأبوي البطريركي سؤالها.(30)
لقد كان نيتشه يمتدح هذا النظام و يرى المرأة كائنا حاسدا يتحيّن الفرصة للانقضاض على الرجل لاستعادة ملكه المسلوب و أن على الرجل أن يكون قويّا فلا يطمئنّ إلى امرأة و أن يحتاط من مكرها يقول:
"الأنثى الحقيقية تكسر و تمزّق، إذا ما أحبّت، أعرفهن جدا أولئك الفاتنات اللطيفات. يا لهن من كواسر صغيرة ، خفيّة،متسللة و خطيرة! و لذيذات جدا مع ذلك!إن امرأة تلاحق رغبتها في الانتقام ستدهس و تقلب القدر نفسه في طريقها"(31)
هذا الخطاب الذكوري هو أيضا قائم على منطق تهميش المركز المتمثّل في الأم،أليست الأم هي الأصل و يحاول المركزي أن يستمد مشروعيته من كونه الأصل و البقية الفروع أو الطفيليات؟
و لكن هل يعقل أن يتبنّى روائي عربي معاصر هذه النظرة التمييزية المغرقة في ذكوريتها؟ و التي كانت الأصول النظرية الأولى للفكر النازي و الحكم الشمولي و الدولة الكليانية ؟ و ثقافة الحرب و إيديولوجيا العنف؟
صحيح أن مجمل هذا الفكر يتردّد بتفاصيله و دقائق أموره في الرواية و لكنّنا لا يمكن أن نقول أن الكوني يتبنّى هذه المقولات النيتشوية في الإنسان و المرأة و الحرب و العنف و الدكتاتورية . لأن علينا أن نقرأ النهاية قراءة نقدية في ضوء ما عبّرت عنه الشخصيات فإذا كانت الشخصيات ،خاصة البطل، قد حاولت قلب القيم و إشاعة قانون آخر لا أخلاقي هو قانون التمتّع بالضعيف الابن و الزوجة ...فإن النهاية كانت مؤذية و لم يفلح في أن يكون إنسانا خالدا لأن خلوده كان على حساب القانون الأخلاقي /بقايا النظام الأمومي الذي أقام قانون التحريم و الحرام.
الروائي ليس غاسل صحون في بيت الفيلسوف
إن التأمل المعمّق في أعمال إبراهيم الكوني بعيدا عن الهالة الإعلامية والحصانة الأدبية للرجل يطرح مسألة معقّدة و خلافية من شأنها أن تحرج جزءا هاما من تجربته و تضعها موضع تساؤل و نقصد أصالة الفكرة.
إن الأصالة هي أخطر المقاييس الممكنة لمقاربة العمل الإبداعي لأن الباحث سيحسم من خلال هذا المقياس أمر النصّ إن كان إبداعا أو إتباعا و تكرارا إن كان ذلك في مستوى التيمة أو الأسلوب أو الفكرة.
و الحق أن هذا المقياس لو طبّق على الرواية العربية فإنه قد ينسف قسما كبيرا من منجزها فتحبير الكوني لنصوصه انطلاقا من المنجز الفلسفي و من أدبيات علم النفس التحليلي يجعل من أعماله مختبرا آخر لتمرير تلك الأفكار و إطالة عمرها و انتشارها . هذه الأفكار التي يمكن الرجوع إليها في صفائها و عمقها داخل حقولها الخاصة.
كان ميلان كونديرا محقّا جدا حينما حذّر في وصاياه المغدورة من مغبّة أن تتحوّل الرواية إلى نصّ سردي يعيد الدرس الفلسفي كما هو الحال مع رواية جان بول سارتر"الغثيان" و التي رآها كونديرا إعادة لدرس الوجودية إلى تلاميذ سارتر الخائبين(32)
إن على الرواية أن تخلق فلسفتها الخاصة بمعنى أن تبتدع رؤيتها الخاصة للعالم. و من حق الرواية أن تجعل من كل ما تريد مادة لها بما في ذلك المدوّنة الفلسفية و تاريخ الفلسفة برمّته كما فعل جوستيان غاردر في"عالم صوفي" "فلا شيء مما يفكّر به ،يستبعد بعد الآن من فن الرواية"(33) و لكن يتمثل الخطر الفعلي في أن تتحول الرواية إلى خادمة للفكر الفلسفي و يتحول الروائي إلى غاسل صحون في بيت الفيلسوف يصير الجنس الروائي هامشا للمتن الفلسفي .
تمثل كلمة "روائي" هوية (34)خالصة على الروائي الحقيقي الدفاع عنها و عن مركزيتها و أن يعمل جهده على ألاّ يسقطها في الهامشية وألاّ يتحلل داخل هوية أخرى و لو كانت هوية الفيلسوف لأن سقوطه في تلك الهوية يجعل من ذوبانه في أي هوية أخرى(35) أمرا واردا.
هوامش و مراجع
1- إبراهيم الكوني،عشب الليل، المؤسسة العربية للدراسات و النشر،الأردن 1997
2- - توفيق بكار و آخرون، القطاع الهامشي في السرد العربي،دار البيروني توني د ت
3- - أنظر :جوستاين غاردر ،عالم صوفي، ترجمة، تحقيق: حياة الحويكدار المنى تاريخ النشر،السويد 1999
4- - أنظر : ألدس هكسلي ، نقطة مقابل نقطة، ترجمة د نظمي لوقا، الهيئة المصرية للكتاب سلسلة الألف كتاب(الثاني)القاهرة 1986
5- أنظر:باولو كويلهو،الخيميائي و حجر الفلاسفة،رواية فلسفية ،ترجمة فارس غصوب،الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الإعلان،د ت ليبيا
6- - انظر: سالم حميش،أنا المتوغل ، دار الآداب بيروت لبنان
7- - محمد حجو،و هلم شرّا، افريقيا الشرق،الدار البيضاء، المغرب 1994
8- - انظر كتبه :السد، مولد النسيان ،حدث أبو هريرة قال ، المسافر، من أيام عمران و تأملات أخرى .
9- أنظر مقدمة توفيق بكار، ابراهيم الكوني، من أساطير الصحراء، سلسلة عيون المعاصرة, دار الجنوب تونس 2006
10- انظر ظهر غلاف الرواية الطبعة نفسها
11- انظر تصدير قصة خفايا الخلاء في مجموعة "شجرة الرتم "، المنشأة العامة للنشر و التوزيع و الإعلان،طرابلس ليبيا 1986 ص109
12- عشب الليل ص 56
13- فريدريك نيتشه ، هذا هو الإنسان،ترجمة علي المصباح، دار الجمل ألمانيا 2003 ص 34
14- عشب الليل ص56
15- نيتشه ،هذا هو الإنسان ص 155 و يقول في نفس الصفحة:إنني اللاأخلاقي الأوّل؛ لذلك فأنا المدمّر بامتياز.
16- نيتشه ،هذا هو الإنسان ص34
17- نيتشه، هذا هو الإنسان ص 34
18- نيتشه ، هذا هو الإنسان ص75
19- انظر جان جاك روسو ،في العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي،تعريب عمار الجلاصي و علي الأجنف،دار المعرفة المرحة تونس 2004 ص 18 يقول روسو "هم ليسوا أعداء على الإطلاق في حالة الطبيعة"
20- انظر محمد المزوغي نيتشه،هيدغر،فوكو تفكيك و نقد دار المعرفة المرحة تونس 2004 ص33
21- عشب الليل ص35
22- عشب الليل ص36
23- نيتشه هذا هو الإنسان ص31
24- نيتشه، هكذا تكلم زرادشت ،دار القلم،بيروت ترجمة فليكس فارس د ت ص 72
25- عشب الليل ص63
26- عشب الليل ص44
27- عن محمد المزوغي، الشاهد مأخوذ من الأعمال الكاملة لنيتشه بالألمانية ص30
28- إريش فروم ،الحكايات و الأساطير و الأحلام،ترجمة صلاح حاتم،دار الحوار اللاذقية سورية 1990 صص153/154
29- المرجع نفسه ص 16
30- "الأب يحب- الأب الذي يملك سلطانا على الكلّ- الأب يحب فوق كل شيء،أن يُخضع لمشيئة الحرف الصارم كل شيء" هولدرلين
31- نيتشه، هذا هو الإنسان ص 75/76
32- ميلان كونديرا ، الوصايا المغدورة ترجمة معن عاقل الأوائل للنشر دمشق 2000ص يقول كونديرا"تتنكر الفلسفة الوجودية بزي رواية"الغثيان" كما لو أن أستاذا قرر أن يقدم درسه في شكل رواية حتى يسلّي طلابه الذين أخذهم النعاس"252
33- كونديرا، الوصايا المغدورة ص178
34- افترض كونديرا حوارا معه هذا نصه:" هل أنت شيوعي يا سيد كونديرا؟"لا أنا روائي."هل أنت منشق؟" لا،أنا روائي"هل أنت يميني أم يساري؟"لست هذا أو ذاك ،أنا روائي؟" هكذا يبين كونديرا أن الروائي هوية مكتملة لا تحتاج لأي سند . كونديرا، خيانة الوصايا ترجمة و
تقديم:لؤي عبد الاله نينوي دمشق2000ص 111
35- هوية الواعظ أو السياسي أو الصحفي أو المؤرخ...