السبت ٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١
بقلم حسني التهامي

اللغة المجازية في الهايكو

المجازُ في اللغة هو التجاوزُ والتعدي، وفي الاصطلاح هو صرفُ اللفظِ عن معناهُ الظاهرِ إلى المعني الضمني الذي يقصدُه الشاعرُ والمعنى الحرفي غيرُ مقصودٍ تماماً. والمجاز نوعان: عقليٌ ولفظي. منذ زمن بعيد كان المجاز مسألة خلافية بين علماء العربية، فقد أنكر فريق وقوع المجاز في اللغة، وعلى رأسهم الظاهريون الذين أخذوا بظاهر القرآن والسنة وأنكروا على هذا الأساس التأويل والقياس، وحجتهم في ذلك "أَن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزه عن ذلك. وفي الواقع تلك نظرة ضيقة، فالأمر غير ذلك، فالمجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع لـه لغـرض بلاغي يكون فيه أدل على هذا المعنى وأعلى في الأسلوب مما لو استعمل غيره. بينما يرى آخرون أن اكثر اللغة مجاز، ومثال ذلك إقرار عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١هـ) بوجود المجاز في اللغـة ورده علـى من أنكره قائلا : "ومن قدح في المجاز، وهم أن يصفه بغير الصدق ، فقد خبط خبطا عظيما" ومن مؤيدي وقوع المجاز في اللغة وفي القرآن الكريم أبو الحـس الآمدي الذي رد على المنكرين بقوله: "حجة المثبتين أنه قد ثبت إطلاق أهل اللغة اسم الأسد على الإنسان الشجاع، والحمار على الإنسان البليـد، وقـولهم ظهر الطريق ومتنها، وفلان على جناح السفر، وشابت لمة الليل، وقامت الحـرب على ساق، وكبد السماء إلى غير ذلك" . كما يرى أبو هـلال العـسكري ( ت٣٩٥ هــ) . ((أن العـرب تتـسع فـي استعمال المفردة الواحدة فتنقلهـا مـن معناهـا الحقيقـي اللغـوي الـى معناهـا المجــازي"

ولا يختلف الأمر كثيرا عند النقاد المعروفين في الغرب خاصة في شعر الهايكو؛ فقد أنكر كثيرٌ منهم المجازَ بحجةِ أنه يحول بين الهايجن وتحقيق جمالية البساطة التي هي في الأساس جوهر الهايكو. يرى الناقد الياباني الأمريكي كينيث ياسودا Kenneth Yasuda ، المعروف بتشدده ورفضه لأشكال الحداثة، أن "الهايكو يتجنب الاستعارة، التشبيه والتجسيد،" لا شيء يشبه شيئًا آخر على الإطلاق"(2). يستند في رأيه إلى المقولة الشهيرة "تعرف على الصنوبر من الصنوبر ذاته"(3)، وعلى هذا الأساس فالمجاز يعيق الشاعر في نقل تجربته الفريدة عند الإشارة إلى شيء آخر، لذا عليه أن يتجنب المجاز ويعرض رؤيته بشكل مباشر ومختزل.

في كتابها المعنون "مسار الهايكو" تشير نعومي بيث واكان Naomi Beth Wakan إلى أنه "لا مجال للاستعارات والتشبيهات في الهايكو"، بحيث تكون مهمة الشاعر تصوير المشهد بشكل عفوي، دون أن يقوم بمقارنة شيء بشيء آخر أو إيجاد أوجه الشبه بينهما. ومن هذا المنطلق يصبح الهايكو شعرا عادياً، يخلو من اللغة الغريبة غير المألوفة. يؤكد هذا الرأي بليث في أشارته لمقولة باشو إن "الهايكو يشبه الإشارة بالإصبع صوب القمر، وكلما كان الإصبع مُرصّعاً بالجواهر، سيحجب عنك القمر."(5) إذن فالهايكو ببساطة هو ما يحدث في مكان ما في لحظة ما، هو اللحظة الآنية التي ينقلها الهايجن دون زخرفة بغية الاقتراب من روح البساطة.
على الجانب الآخر يقر فريق باستخدام المجاز، لأنه ليسَ مجردَ وسيلةٍ أدبيةٍ، لكنه جزءٌ متكاملٌ من فهمنا للعالمِ الذي نعيشُ فيه. يتعاملُ قارئُ الهايكو مع نصٍ مجازٍي ويركز على عنصري اللغةِ والصورة الخيالية اللذيْن يحركان ذهنه ويبعثانه على التأمل. أجاز روبرت هاس Robert Hass استخدام المجاز، لكنه، في الوقت ذاته لا يقر بضرورته، فيما يرى ماثيو. م. كاريلو Matthew M. Cariello أنه أساسيٌ ومركزيٌ في الشعر، و"ليس مجردَ خيالٍ؛ فكلُ تركيبةٍ مجازيةٍ تحتوي على مفهومٍ يدعمها"(6). إن المجاز عمليةٌ معرفيةٌ؛ ففي كتاب "وجهات نظر فلسفية حول المجاز" يؤكد مارك جونسون Mark Johnson على وجوده "ليس فقط في ألفاظِ اللغة، لكن في حياتنا اليومية أيضا، حيث يكمنُ في أفكارنِا وأفعالنِا"،(7) لذا فالمجازَ كتعبيرٍ لغويٍ ممكنٌ لأنه موجودٌ أساساً في المفاهيمِ الإنسانية.

في مقالٍ بعنوانِ " الهايكو الحديث" عامَ 2007، تَبنَّى الناقد والشاعر والأكاديمي "بروس روس"Bruce Ruce مصطلحَ " الاستعارة المطلقة"، واعتبر الهايكو علاقةَ الخاصِ بالكونيِ؛ امتزاج تجربة الشاعر الخاصة مع الطبيعة وتفاصيل الحياة اليومية في الوقت الذي يعتمدُ الشعرُ على الاستعارة وقوةِ الخيال، يقوم الهايكو في تفردِه وخصوصيتِه على الاستعارة المطلقِة. يوضح بروس روس أهمية الاستعارة، وهي نوع من المجاز في تشكيل تجربة الهايكو:"تحتوي الاستعارة المطلقة على حالة من الكمال، يمتزج فيها الخاص بالمطلق". في ضوءِ هذا المصطلحِ يُمكننا تناول أي نص والغوص في أغواره بغية الوصول أو محاولة الاقتراب من مرافئ جمالياته وبهاء معناه، وخير مثال للنصوص المكتنزة المغرية والتي تستهوي الدارسين للتحليلِ والدراسة قصيدة البركة لماتسو باشو Matsu Basho:

بركةٌ قديمةٌ ساكنةٌ . . .
ضفدعٌ يَقْفزُ ..
صوت الماء !

حسني التهامي, [12/3/2021 10:14 PM]

توحي كلمةُ بركة بالهدوءِ والسكونِ بطريقةٍ تجعلُ القارئَ يفهمُ المَعنى مجازيا عن طريقِ التحولِ من الخاصِ (البركة القديمة) إلى العامِ ( كلُ المستنقعات القديمة) التي ترمزُ بشكل عامٍ إلى الكائنات الحيةِ الثابتة. تشير الكلمة الموسمية " ضفدعة " في السطرِ الثاني ضمنيا إلي كل الفصول لأنها جزءٌ من بيئةِ البحيرةِ. يحتوى النص على فعل وحيد " تقفز"، وفعلَ القفز للضفدعةِ أمرٌ بديهي لذا فالحدثُ متوقع. من البديهي أيضا -عندما نتساءلُ: أين تقفزُ الضفدعة؟- أن يكون الجواب: في الماء. مع ذلك فالفعل "يقفز" يحدثُ حركةً ديناميكيةً في النص ويسير إلى الحدث الأهم والنهاية الحتمية: "طرطشة الماء". تتأتى الدهشة من حدوث اللا متوقع، حيث قام باشو بصرف حواسّنا عندما استبدل المرئي (صورة الماء) بـالمسموع (صوتِ الماء)، فصوت "الطرطشة" نتيجة حتمية لفعل القفزِ الذي ينقلنا من"الخاصِ" إلى "العام". من خلال هذه القفزة يبين لنا باشو كيف أن الأشياء العظيمة كالبحيرة الساكنة تتأثرُ بحركةِ الأشياءِ الصغيرة. ترمز هذه الضفدعةُ في قفزتها إلى الإنسانِ الذي على الرغم من بساطة أفعاله، يكون له أثر مُهمٌ في محيطه البيئي، حتى لو كان هذا التأثيرُ مؤقتاً ومحدوداً.

يكمنُ التصوير المجازي في صورة بسيطة وهي "مستنقع قديم"، فالبحيرة تتسم بالثبات، وهي الصفةُ التي تتنافى مع طبيعةِ المياه الدائمة الحركة. ترمز البحيرة للحياة، لكنها حياة الكائنات المتناهية الصغر، ومع أن بعضَها مرئيٌ، فهي حياةٌ ساكنةٌ وهادئة.

إن تأويلنا للنص يعد مجازا مطلقا، لأننا ببساطة نتخطى ما هو ظاهر من الكلمات والمعاني المباشرة إلى ما هو كامن وضمني. وهذا بلا شك يحتاج لقارئ يستطيع سبر أغوار النص، ويمتلك القدرة على أن يضيف إليه من ثقافته وتجربته الخاصة وعمق تأملاته. يكتنف نص الهايكو أحيانا ما يسمى بالـ"اليوجن"؛ الغموض الشفيف أو العمق، ولا يقصد به مجرد ألغاز يحار فيها عقل المتلقي. نستشعر هذا الغموض الشفيف عبر الكلمات التي لا تستطيع أن تبوح به؛ فالهايكو يعتمد على التلميح لا التصريح، الشيء الذي يمثل تحديا لذهنية القارئ أو إغراءً للولوج إلى الجماليات الكامنة فيه.

تعمل تقنية تجاور المشاهد الحسية من خلال التفاعل بين الصور الشعرية والمقارنة بينها، وتسعى إلى تعميق الأفكار. يمكن فهم بعض الهايكو على أنه مجاز كامل. في نص للشاعر الإنجليزي جيمس ويليام هاكيت James W.Hackett يتجلى المجاز باستخدام معنيين، أحدهما ظاهر والآخر ضمني:

عميقا في المجرى المائي
السمكة الضخمة بلا حراك
تواجه التيار(8)

تقدم هذه القصيدة مشهدًا بسيطًا من الطبيعة، لكنها أيضًا مفتوحة على تأويلات أخرى أكثرعمقًا؛ يمكننا النظر إلى الأسماك على أنها أشخاص تحاول أن تشق طريقها في معترك الحياة وتحاول الخلاص، على الرغم من مكابدتها شدة الآلام والمحن.

في نص آخر للشاعر العراقي علي القيسي من ديوانه "هكذا الأسود كذلك الأبيض" ، وللوهلة الأولى نجد أن عنوان الكتاب لم يرق إلى عمق كثير من نصوصه.

بيدر القمح
نملة تجر خلفها
العالم

يبدأ النص بموضوعة "المكان"، البيدر الذي يتم فيه الحدث، وهو متناغم مع عنصر الزمن أو الموسمية المتضمنة في فترة الحصاد أثناء فصل الخريف.غالبا ما يذكر المكان باسمه كي يعطي "الصورة المتخيلة صلابة"،* وبشكل أساسي يرتبط بهذا المكان عنصرا الزمن والموضوع، يتحد العناصر الثلاثة لتقديم تجربة شعرية متكاملة في كلمات بسيطة غاية في الإيجاز.

في السطر الثاني والثالث يتم الحدث بصورة مجازية، حيث تجر النملة الصغيرة حبوب القمح التي ترمز إلى العالم، لأنها سر القوة والبقاء على الأرض ووسيلة أساسية للحياة، فمن يمتلك قوت يومه، يملك الدنيا ومقاليد قوتها. استخدم الشاعر المجاز بصورة ذكية تفتح مجالا أمام القارئ للتخيل والتأويل، ولم يكن عقبة تحجب عنصر الاستنارة في النص. تكمن المفارقة في الجمع بين شيئين بينهما هوة كبيرة في الحجم والقيمة، وتلك الجمالية استخدمها الشعراء اليابانيون الأوائل في كتابة نصوصهم بغية إنشاء علاقات خفية أكثر تشابكا، وليس مجرد الجمع بين شيئن متقابلين. ينشئ القارئ نوعا من الإنسجام و التجانس بين مشهدي النص. تمثل النملة على صغر حجمها ذلك الإنسان البسيط الذي يمتلك قدرات وحيل تمكنه من امتلاك العالم وتسيير شئونه.

يتضمن ديوان "ريان حتى التضلع" نصا للهايكيست توفيق أبو خميس لا يخلو من اللغة المجازية ومحاولة التناص مع القرآن الكريم:

حَنيناً إلى الجذور
تَنْكُصُ على عَقبَهَا
زهرَةٌ مُتَدَلّية.

حسني التهامي, [12/3/2021 10:14 PM]

في السطر الثاني عبارة "تنكص على عقبيها" تتناص بشكل واضح مع الآية الكريمة "لما تراءت الفئتان نكص على عقبيه". ربما قصد الشاعر هنا بالنكوص المنحى النفسي حيث الرجوع والحنين إلى الماضي هروبا من لحظة آنية عاصفة بكيان هذا العنصر الطبيعي، وقد يبدر في ذهن الشاعر أو القارئ إسقاط الوردة على الحالة الإنسانية. تلك العبارة المجازية قد تحدث نوعا من اللبس عند المتلقي، فالنكوص رجوع أو هروب إلى الوراء، و"نكص على عقبيه" أي رجع مدبرا. وعلى الأساس الذي ينطلق منه الهايكو وهو حسية المشهد، فالزهرة متدلية حنينا إلى الجذور، وهي لقطة فريدة غير مسبوقة، لكن المجاز في السطر الثاني أفسد جمالها. يمكن للنص أن يكون أكثر بساطة في صورته التالية المختزلة:

حنينا إلى الجذور
تتدلى
زهرة

بينما يتجلى الصفاء الشعري في النص التالي من نفس الديوان:

يوم جليدي
أشعة الشمس المتسللة
تحرر الهديل

يتسم النص بالبساطة في اللغة؛ فكل مفردة تسهم في تشكيل بنية النص وتؤطر جمالية الصورة. يتشكل النص من مشهدين دون استخدام علامة قطع تترك للقارئ مساحة للتأمل، وتلك سمة من خائص الحداثة في الهايكو. يتعمد الهايكسيت المزج بين المشهدين وسرعة امتزاج عناصر الطبيعة وتفاعلها مع بعضها البعض. المشهد الأول صورة الصقيع الذي يبث الجمود في روح الكائنات، بينما تتسلل أشعة الشمس فتنفث الدفء والحياة من جديد. تشكل عبارة "تحرر الهديل" -على الرغم من صياغتها المجازية- ،تلك القفلة الانسيابية، محور الصورة ومصدر الالتماعة الذهنية التي تحدث ومضات شعرية تشعرنا بتدافع الحمام وانطلاقته في السماء المفتوحة الدافئة بعد الكمون والجمود.

وللشاعرة الفلسطينية فاتن أنور نصا يكاد يتجرد من اللغة المجازية واللعب بالكلمات:

في المشفى
زهرة صغيرة
تذبل بصمت

تبدو كلمات هذا النص الست بسيطة في معناها، خالية من اللغة المجازية، والبساطة في الهايكو سر من أسرار جماليات هذا النص الموجز العميق. تنقل الهايكيست مشهدا حسيا دون تدخل منها في مجريات الحدث، ولا تقحم مشاعرها الذاتية، فهي تترك الأشياء تتحدث عن ذاتها، لذا أتت الصورة الشعرية صافية، وبذلك تتحقق خاصية التنحي. يبدأ النص بموضوعة المكان وهو المشفى، حيث آثرت الشاعرة أن تتسع بؤرة الرؤية بذكر المكان بشكل عام، دون تحديد زاوية معينة به، ثم قامت بتضييق البؤرة شيئا فشيئا لتسلط الضوء على "الزهرة" ذلك الكائن الصغير التي تذبل دون أن يشعر بها أحد. أتت كلمة "زهرة" نكرة لتجعل دائرة التأويل أكثر اتساعا، فقد يؤولها القارئ على أنها زهرة منسية في مكان ما، وربما ترمز ذات الزهرة إلى الطفولة المهملة في كثير من الأماكن في العالم. تكمن جمالية السابي في ذبول تلك الزهرة وهي في طريقها إلى الزوال. يستدعى النص الإحساس بالشفقة تجاه الكائنات التي تطالها تغضنات الزمن وتغير الحال.

حسني التهامي, [12/3/2021 10:14 PM]

نستعرض نصا للشاعرة الأمريكية تانيا ماكدونلد Tanya McDonald : يلعب فيه المجاز دورا حيويا دون أن يترك الصورة غارقة في أي نوع الضبابية والإنغلاق:

مطرٌ على كُوة البيت
أتوقُ إلى بتلةِ
آيس كريم أُرجواني (9)

كلمةُ بتلة هنا لا يُقصد بها المعنى الحرفيَ لبتلةِ الزهرةِ، لكنها مغرفةُ الأيس كريم التي تحمل شكل البتلةِ، وفي هذا يكمنُ المجاز. يثير المطر المتساقطَ على كوةِ البيتِ بداخل الشاعرة أجواءَ الشتاءِ. إنه التفاعلُ بين الفصل الحقيقي (الشتاء) وموسم الدفء الذي تصبو إليه الشاعرة (الربيع). من المفترض أن تسمح كوةُ السقفِ بدخولِ الضوءِ كي يبدد العتمة، لكن تحول السُحبِ المَاطرة دون ذلك. ربما يخفف تذوقُ الآيس كريم كآبة الشتاءِ البارد. يرمز اختيار اللون الأرجواني للآيس كريم إلى زهرة الأرجوانِ التي عادة ما تتفتحُ في أيام الربيع الدافئة، وتشيعُ البهجةَ في نفوس العابرين. في الواقع تصنع "البتلة" -تلك الكلمة المحورية بالنص- تشابك الأشكال والألوان والمذاق والمشاعر والتأملات الروحية.

النص الآخر للشاعر بول تشامبرز:

شمسٌ في ضلوعِ
الجسرِ البحريِ القديمِ
انحسارُ المَد(10)

تأملْ كيفَ أن صوتَ الجسرِ المائيِ يُحدثُ صَدىً مع حركةِ الجزر. وقت انحسارِ المَد تُسلطُ الشمسُ أشعتَها على الخوازيق الخشبية التي تجعلُ الجِسر ثابتاً أمامَ الريحِ والأمواج العاتية. يُلمحُ الشاعرُ إلى تَدلي الشمسِ في ذلك الوقتِ حيثُ تكونُ أشعتها مائِلة، الشيء الذي يسمح لها بالولوج إلى الجسر المائي بشكل كامل، وعندما ينحسرُ المدُ ينزوي النهارُ، فيُدخلُ في نفسِ القارئِ الشعورَ بالحزنِ والكآبةِ. استخدم الشاعر كلمة "ضلع" ليصفَ الأجزاءَ السفليةَ لهيكلِ الجسرِ، بالـ"عظام" التي تضمنُ له الثبات والرسوخ. في ذات الوقتِ ينحسرُ كلٌ من النهارِ والمدِ؛ يريد الشاعر أن يُقر حتميةً انحسار الجسر عندما يتعفنُ هيكلُه الخشبيُ تماماً كعظامِنا التي تؤولُ في النهايةِ إلى التراب.

في نص للشاعر الغاني أديجي أجايي باه Adjei Agyei-Baah يكمن فيه المجاز المطلق في تلاقي أضداد الألوان:

قهوة سوداء
سكر أبيض
أحرك العالم صوب الوحدة

هنا محاولة للمزج بين الأبيض والأسود (القهوة والسكر)؛ القارة السمراء والغرب، والشاعر كإفريقي عانت قارته لحقبة طويلة من نظرة الغرب الفوقية تجاه أصحاب البشرة السمراء، بشكل مجازي يرى ضرورة تذويب عوائق الوحدة كي يصبح العالم أكثر ألفة وجمالا عندما تتلاشى كل مفاهيم الفرقة والفوقية ويبقى الإنسان قيمة كبرى في عالم ينعم بالسكينة، عالم خال من كل أنواع الانقسامات التي تبدد معنى السلام والتآلف. ينتمي هذا النص إلى الهايكو الحداثي المستمد من تفاصيل الواقع ومن دقائق الحياة اليومية، وأحيانا من التصورات الغرائبية التي لم تكن سائدة في الهايكو الكلاسيكي. كان بإمكان الهايكيست أن يتنحى عن المشهد، على الرغم من أن الذات هنا ليست محورا في بنية النص؛ وبذلك تكون قفلة النص فجائية غير متوقعة هكذا: "يتحرك العالم صوب الوحدة"، بهذا يترك الشاعر لنا مجالا لنتخيل تلاشي التباين والتمايز بين العناصر البشرية وتفاصيل العالم حال ذوبان قطع السكر في القهوة السوداء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى