المأساة في غزة: فضح نفاق القيم الغربية وزيف الهيمنة
تشكل الأحداث الأخيرة في غزة تذكيراً قاسيا بالمعاناة التي لحقت بالسكان الضعفاء، إلا أن الاستجابة العالمية، وخاصة من الغرب، تكشف عن خواء القيم التي تدعي العديد من القوى الغربية أنها تتمسك بها. إن هذه المأساة تجبرنا على إعادة تقييم ما يشكل العدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية، وتكشف عن الجانب المظلم للهيمنة الغربية، وخاصة دور الولايات المتحدة. إن وهم التفوق الأخلاقي العالمي، المبني على ركائز المثل التنويرية الغربية، ينهار عندما يوضع في مقابل الواقع في غزة.
غزة تحترق: ضمير العالم الانتقائي
بينما تحترق غزة، ينظر الغرب إلى ما يحدث ــ غضبه مكتوم، وتعاطفه انتقائي، وشعوره بالعدالة غائب بشكل متزايد. فلسنوات، كانت غزة رمزاً للصمود تحت الحصار، حيث يتحمل المدنيون الأبرياء وطأة صراعات القوة الجيوسياسية. إن وسائل الإعلام الغربية، التي تدعي أنها صوت الديمقراطية والحقيقة وحقوق الإنسان، نادراً ما تروي القصة كاملة. وبدلاً من ذلك، فإنها تعرض رواية متحيزة غالباً ما تصب في صالح الظالم، وتترك المظلومين ليدافعوا عن أنفسهم في محكمة الرأي العام العالمي. وكثيراً ما تفشل ما يسمى "الصحافة الحرة" في إضفاء الصفة الإنسانية على الفلسطينيين، وتجعل معاناتهم مجرد حواشي في خطاب جيوسياسي أوسع تهيمن عليه المصالح الغربية.
في غزة، تُدمر المنازل، وتشتت الأسر، وتنشأ الأجيال في ظل العنف والاحتلال. ومع ذلك، تظل الاستجابة الغربية متوقعة بقدر ما هي منافقة ــ فالإدانات للعنف تأتي في عبارات غامضة، وتتجنب أي انتقاد مباشر لأولئك الذين يمارسون القوة والسلطة الساحقة. ويتم تسليح فكرة "الدفاع عن النفس" لتبرير الاستجابة غير المتناسبة، في حين يصبح مفهوم العدالة مشوهاً وفارغاً.
إن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، ظل لفترة طويلة يصور نفسه باعتباره المحكم الأخلاقي للعالم. ويتفاخر الغرب بقيمه المتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون باعتبارها المعيار الذهبي الذي ينبغي لكل الأمم أن تطمح إليه. ومع ذلك، فإن الأحداث في غزة تكشف عن المعايير المزدوجة الصارخة التي تكمن وراء هذه الادعاءات. فعندما تنهمر القنابل على غزة، وعندما تزهق أرواح الأبرياء، وعندما تُستهدف المستشفيات والمدارس، أين تذهب الصرخة الغربية؟ وأين يذهب المدافعون عن حقوق الإنسان؟ إن القيم ذاتها التي يزعم الغرب أنه يدافع عنها تنهار في مواجهة تحالفاته الجيوسياسية ومصالحه الاقتصادية.
لقد فشلت أميركا، التي نصبت نفسها زعيمة "العالم الحر"، مراراً وتكراراً في الوفاء بمبادئها. إن دعمها الثابت للأفعال التي تنتهك القانون الدولي، واستمرارها في توفير المساعدات العسكرية التي تغذي الصراعات، ودفاعها الدبلوماسي المستمر عن حلفائها، يكشف عن أمة أكثر اهتماماً بالحفاظ على هيمنتها العالمية من الدفاع عن العدالة. وهذه ليست قضية معزولة في السياسة الأميركية وحدها؛ إن الهيمنة الغربية، بعيدًا عن كونها منارة للتنوير، أصبحت مكشوفة بشكل متزايد باعتبارها نظامًا للقوة يستفيد منه القليل على حساب الكثيرين. إنها تديم الصراعات، وتزعزع استقرار المناطق، وتغض الطرف عن معاناة أولئك الذين لا يناسبون تعريفها الضيق للإنسانية. ويتم تطبيق قيم الحرية والديمقراطية بشكل انتقائي، اعتمادًا على السياق الجيوسياسي والمصالح الاقتصادية على المحك.
إن ما حدث في غزة يثير تساؤلات مهمة حول النموذج الغربي للحكم العالمي. فقد استُخدِم خطاب نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم في كثير من الأحيان كغطاء للتدخل العسكري والاستغلال الاقتصادي والهيمنة السياسية. والواقع أن التفوق الأخلاقي الذي يزعمه الغرب يشكل في كثير من الحالات واجهة ملائمة للحفاظ على السيطرة على الموارد والأسواق العالمية. وقد دمر هذا "التدخل الديمقراطي" المزعوم بلداناً من الشرق الأوسط إلى أميركا اللاتينية، تاركا وراءه دولاً محطمة وأرواحاً محطمة.
إن غزة ليست حادثة معزولة بل هي جزء من تاريخ طويل من التدخل الغربي الذي يزعزع استقرار مناطق بأكملها تحت ذريعة جلب الحرية والديمقراطية. فمن العراق إلى أفغانستان، ومن ليبيا إلى سوريا، أدى التدخل الغربي في كثير من الأحيان إلى المزيد من الفوضى، والمزيد من العنف، والمزيد من المعاناة الإنسانية. والواقع أن النفاق المتمثل في إدانة انتهاكات حقوق الإنسان في بعض الدول وتجاهلها في دول أخرى لا يؤكد إلا على التطبيق الانتقائي للمبادئ الأخلاقية التي تحدد السياسة الخارجية الغربية.
إن أميركا، على وجه الخصوص، تصور نفسها في كثير من الأحيان باعتبارها المدافع العالمي عن حقوق الإنسان، ولكنها مع ذلك تحافظ على تحالفاتها مع الأنظمة التي ترتكب انتهاكات صارخة لهذه الحقوق ذاتها. والقضية الفلسطينية هي رمز لهذا النفاق. فعلى مدى عقود من الزمان، كانت الولايات المتحدة تحمي إسرائيل من المساءلة بينما يستمر الفلسطينيون في المعاناة تحت الاحتلال. كما تغض الحكومات الغربية الطرف عن التكلفة البشرية لسياساتها، وتسخر من المثل العليا التي تدعيها.
عالم ما بعد الطوفان: تحول في الوعي العالمي
إن تشبيه "الطوفان العظيم" له صدى عميق في عالم اليوم. وتشير الأحداث في غزة إلى تحول أوسع في الوعي العالمي، وهو ما يشير إلى أن العالم قبل الطوفان ــ الذي تميز بالهيمنة الغربية والتفوق غير المشروط لقيمه ــ لن يكون كما هو العالم بعده. إن السلطة الأخلاقية للغرب تتضاءل، والمجتمع الدولي يدرك بشكل متزايد الشقوق في واجهة المجتمعات الغربية.
إن صعود القوى الجديدة، وتأكيد الجنوب العالمي لصوته، والتأثير المتزايد للنماذج السياسية غير الغربية، كل هذا يشير إلى عالم لم يعد راضيا عن الوضع الراهن. إن دولا مثل الصين وروسيا، على الرغم من كل عيوبها، تمثل تحديا للنظام العالمي أحادي القطب الذي حافظ عليه الغرب لفترة طويلة. ويشير ظهورها إلى مستقبل متعدد الأقطاب، حيث لم تعد القيم الغربية تهيمن على الخطاب العالمي دون أدنى شك.
في هذا العالم الجديد، لن ننسى الأحداث في غزة. وسوف تعمل كتذكير بنفاق وفشل الهيمنة الغربية. إن المعايير المزدوجة، والتطبيق الانتقائي لحقوق الإنسان، والتبريرات اللامتناهية للعنف ــ كل هذا سوف يكون جزءا من الذاكرة الجماعية لعالم يستيقظ ببطء ولكن بثبات على حقائق القوة والهيمنة.
الطريق إلى الأمام: العدالة الحقيقية، وليس الأخلاق الانتقائية
لرسم مسار إلى الأمام، من الضروري رفض الأخلاق الانتقائية التي أصبحت تحدد الكثير من السياسة الخارجية الغربية. إن العدالة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إذا لم يتم تطبيقها إلا عندما تتوافق مع المصالح الجيوسياسية. إن معاناة الفلسطينيين في غزة ليست حدثاً معزولاً؛ بل هي جزء من نمط أوسع من الظلم الذي يؤثر على الشعوب المضطهدة في جميع أنحاء العالم. وإذا كان للمجتمع الدولي أن يرقى إلى مستوى المثل العليا لحقوق الإنسان والديمقراطية، فيجب أن يكون على استعداد لمحاسبة جميع الأطراف، بغض النظر عن قوتهم أو نفوذهم.
وهذا يتطلب تحولاً جذرياً في الطريقة التي تُدار بها السياسة العالمية. وهذا يعني الابتعاد عن هيمنة عدد قليل من الدول القوية والتوجه نحو نظام عالمي أكثر إنصافاً وعدالة، نظام يعترف بإنسانية جميع الشعوب، بغض النظر عن أهميتها الجيوسياسية. وهذا يعني محاسبة المسؤولين عن العنف والقمع، سواء كانوا أصدقاء أو أعداء.
إن المأساة في غزة تذكرنا بشكل صارخ بأن العالم في حاجة ماسة إلى إطار أخلاقي جديد، يتجاوز الهيمنة الزائفة للقيم الغربية ويتجه نحو مستقبل عادل ومنصف حقاً. حينها فقط يمكننا أن نبدأ في بناء عالم حيث قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ليست مجرد شعارات جوفاء، بل واقع يعيشه الجميع.
صالح سليمان عبدالعظيم