الاثنين ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

فيلسوف الظلال

في ذكرى داود عبد السيد (2025-1946)

فقدت السينما المصرية اليوم، 27 ديسمبر 2025، أحد أكثر أصواتها تميزا فكريا وبصريا. رحل المخرج والكاتب السينمائي المرموق داود عبد السيد عن عمر ناهز 79 عاما بعد صراع طويل مع المرض. يُمثل رحيله نهاية فصل فريد في تاريخ السينما العربية، فصل لا يقاس بكمية الأفلام التي أنتجها، بل بعمقها الفلسفي وثقلها الفكري في كل مشهد أبدعه. لم يكن عبد السيد مجرد مخرج، بل كان عالما سينمائيا أنثروبولوجيا أمضى عقودا في تحليل الروح المصرية، تاركا وراءه إرثا سيُدرس لأجيال قادمة.

ولد داود عبد السيد في القاهرة عام 1946، وبدأ رحلته السينمائية في رحاب يوسف شاهين، وهو تدريب صقل مهنته ولكنه دفعه في النهاية إلى صياغة لغة بصرية مستقلة بشدة. وسرعان ما برز باعتباره ركيزة أساسية لموجة "الواقعية الجديدة" التي عرفت السينما المصرية في الثمانينيات، لكنه ميز نفسه برفض ميل الحركة نحو الكآبة التي لا هوادة فيها. وبدلا من ذلك، ابتكر عبد السيد سينما المفارقات، حيث تم تخفيف قسوة الحياة اليومية الساحقة بلمسات غير متوقعة من السريالية والشعر الغنائي. كان يمتلك موهبة فريدة في كشف السحر داخل الدنيوية، وتحويل أزقة القاهرة الصاخبة والمليئة بالغبار إلى منصات عميقة للدراما الفلسفية الوجودية. دافعت أفلامه عن غير المرئيين والمهمشين، مما أعطى صوتا للشيوخ العميان، والمنبوذين، واللصوص الصغار، ومخبري الشرطة، والحالمين الذين لا هوادة فيها. والأهم من ذلك أنه عامل هذه الشخصيات بكرامة هائلة وغير قضائية، ومنحهم حياة داخلية معقدة ورفض اختزالهم في صور نمطية مسطحة عن الفقر أو الضحية، وبالتالي كشف عن الإنسانية النابضة بالحياة المختبئة في ظلال المدينة.

تتجلى عبقرية داود عبد السيد بشكل واضح في الكيت كات 1991، وهو فيلم يقف كنصب تذكاري شاهق في تاريخ السينما العربية. تعتمد قوة الفيلم بشكل كبير على شخصية الشيخ حسني، الذي لعب دوره الراحل محمود عبد العزيز في أداء يعتبر على نطاق واسع أحد أفضل العروض التي تم تصويرها على الشاشة على الإطلاق. استخدم عبد السيد هذه الشخصية؛ الرجل الأعمى الذي يرفض الاعتراف بإعاقته، كناية عميقة عن البصيرة والإنكار. في حين أن الفيلم يبدو ظاهريا كوميديا مليئا بالموسيقى والضحك، إلا أنه يحمل تيارا مأساويا عميقا حول مجتمع مصاب بالشلل بسبب الركود والبطالة. الشيخ حسني، رغم عماه الجسدي، "يرى" متعة الحياة وإمكانياتها بشكل أوضح من الأشخاص المبصرين من حوله الذين أعماهم يأسهم. ومن خلال مزج لحظات الفكاهة هذه مع حزن واقع الشخصيات، كشف عبد السيد عن التناقضات العميقة داخل المجتمع المصري، موضحا كيف يتم استخدام الفكاهة كآلية للبقاء في مواجهة عالم متهالك.

مع انتهاء التسعينيات، حول عبد السيد عدسته نحو رواية أكثر قتامة وأكثر عقلانية في فيلم "أرض الخوف" 1999. يمثل هذا الفيلم خروجا صارخا عن العلاقة الحميمة الدافئة لفيلم الكيت كات، حيث يقدم بدلا من ذلك "استكشافا مرعبا ومخيفا" للروح البشرية. تدور أحداث الفيلم بطولة أحمد زكي، حول ضابط شرطة مكلف بالتسلل إلى عالم المخدرات السفلي، وهي مهمة تستمر لفترة طويلة حتى ينسى هويته الأصلية. استخدم عبد السيد هذا النوع من الإثارة ليس فقط لسرد قصة جريمة، بل لطرح أسئلة فلسفية صعبة حول الأخلاق والواجب. يُعتبر "أرض الخوف" بمثابة قصة رمزية للحياة نفسها، حيث يصبح الخط الفاصل بين الخير والشر غير واضح، ويترك بطل الرواية على غير هدى في الفراغ الأخلاقي. يظل هذا الفيلم مدخلا فريدا من نوعه في السينما الإقليمية لأنه يتعامل مع نوع الجريمة كوسيلة للقلق الوجودي وليس مجرد حركة.

عززت أفلام مثل مواطن ومخبر وحرامي (2001) ورسائل من البحر (2010) سمعة عبد السيد كفنان رفض الخضوع للضغوط التجارية. في فيلمه مواطن ومخبر وحرامي، قام بفحص العلاقة التكافلية المعقدة بين جهاز الدولة (ممثلا بالشرطة والمخبرين) والمواطن العادي، مما أدى إلى طمس خطوط الضحية والتواطؤ. لاحقا، مع رسائل من البحر، عاد إلى أسلوب أكثر شعرية وتأمليا، مستخدما جمال الإسكندرية المتدهور ليحكي قصة عن الذاكرة والخسارة والبحث عن التواصل في عالم منعزل. تظهر هذه الأفلام التزامه بـ "الجودة أكثر من الكم". وبدلا من مطاردة اتجاهات شباك التذاكر، انتظر سنوات بين المشاريع للتأكد من أن كل فيلم يمثل بيانا فنيا كاملا لا هوادة فيه.

اشتهر داود عبد السيد بانتقائيته الشديدة، حيث أخرج أقل من اثني عشر فيلما روائيا خلال مسيرة فنية امتدت لأكثر من أربعة عقود. لطالما تحدث عن عجزه عن العمل في بيئة لا تُقدّر فن السينما، مما دفعه إلى التقاعد بهدوء في سنواته الأخيرة. ومع ذلك، لم يزد هذا الندرة إلا من قيمة أعماله. فقد نال جائزة النيل، أرفع وسام شرف في مصر، وأفلامه راسخة في قوائم أعظم الأفلام العربية على مر العصور.

وبينما يتوافد الأصدقاء والمعجبون لحضور جنازته في كنيسة القديس مارمرقس بمصر الجديدة، ينعى الوسط السينمائي رجلا كان متواضعا بقدر ما كان عبقريا. يترك داود عبد السيد فراغا لا يُملأ، ولكنه يترك أيضا "أرض الأحلام" - مسيرة سينمائية تعكس واقعنا، وتجسد مخاوفنا وأفراحنا وسعينا الدؤوب نحو المعنى. ربما رحل عن كرسي الإخراج، لكن رؤيته باقية على الشاشة، خالدة لا تخبو.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى