الأحد ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٩
بقلم إبراهيم أبراش

المثقفون الفلسطينيون بين اكراهات المكان وواجب الانتماء

(إدوارد سعيد نموذجا)

كل كاتب أو مثقف فلسطيني يجد نفسه متورطا بالاشتباك والتعامل مع القضية الفلسطينية في أبعادها الوطنية والقومية والدينية والأممية ، فالمثقف الفلسطيني لا يستطيع إلا أن يكون سياسيا وطنيا ومنفتحا على جميع الهويات حتى وإن لم يشأ ذلك، وهو ما عبر عنه المفكر إدوارد سعيد عندما قال إن المثقف يجب أن يكون متعدد الهويات ،وفي هذا الشهر تمر ذكرى وفاته عام 2003.

مع أن العلاقة بين المثقف والثقافة بشكل عام علاقة الحامل والمحمول، حيث المثقف يحمل ويعبر عن ثقافة مجتمعه ومنها يلامس أو يستبطن الثقافة الإنسانية ويعبر عنها مدافعا أو منتقدا بكل الوسائل المتاحة، إلا أنه بالنسبة للمثقف الفلسطيني المشتت بين مجتمعات بثقافات متباينة ما بين صديقة وعدوة فإن مفهومه للثقافة الوطنية وكيفية التعبير والدفاع عنها تضعه أمام تحديات كبيرة وخصوصا إن أراد أن يكون مثقفا وطنيا عضويا قريبا من حس وضمير شعبه وملتزما بقضاياه .

في الحالة الفلسطينية تأخذ العلاقة بين المثقف والمتلقي والسلطة والمكان طابعا خاصا يجعل هذه العلاقة تدخل في حيز التراجيديا ويكون للجرأة على الكلام محاذير كثيرة بسبب تعدد السلطات التي يخضع لها الفلسطيني وتباين أماكن إقامته وبسبب تشابك الأطراف التي تلعب في القضية الفلسطينية. المثقف أو المفكر الذي يعيش في بلاد الغربة لا يجرؤ على الكلام بحرية وصراحة في قضايا سياسية تخص القضية الفلسطينية إلا في أضيق الحدود حيث الخوف على النفس والمال وعلى فقدان جواز السفر أو الإقامة أو مصدر الرزق أو حرية التنقل، فكيف إن كان يعيش في بلدان سياسات حكوماتها معادية للشعب الفلسطيني أو خاضعة للنفوذ الصهيوني .

في عام 2009 كتب النائب الأمريكي السابق في الكونجرس بول فندلي كتاباً بعنوان (من يجرؤ على الكلام؟) وهو كتاب أثار ضجة كبيرة في الأوساط الأمريكية والإسرائيلية حيث تحدّث عن الهيمنة الصهيونية على السياسة الأمريكية وحالة الإرهاب المُمَارس ضد كل من يجرؤ على نقد الهيمنة التي تمارسها إسرائيل واللوبي الصهيوني على أصحاب القرار في الولايات المتحدة الامريكية، وكان فندلي نفسه أحد الذين دفعوا الثمن غالياً بسبب جرأته على قول الحقيقة ،ونفس النهج أتخذه نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد، إلا أنه كان لهذا الأخير رمزية وأهمية بسبب أصوله الفلسطينية العربية .

وعود على بدء حيث قلنا بأن خصوصية القضية الفلسطينية من حيث تعدد أبعادها وأطرافها انعكست على المثقفين والمفكرين الفلسطينيين أو ذوي الأصول الفلسطينية أينما كانت إقامتهم فإن المثقف والمفكر الأمريكي فلسطيني الأصل والانتماء إدوارد سعيد مثل نموذجا للمثقف والمفكر والأكاديمي والسياسي الفلسطيني اللاجئ الوطني والقومي والأممي.

كانت اهتمامات ادوار سعيد متعددة ولم تقتصر على مجاله الأكاديمي الجامعي كأستاذ للغة الانجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك بل طاف بفكره ليغوص في مجالات متعددة مما جعل اسمه من بين أهم المفكرين والمثقفين في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي كثير من كتبه ومقالاته كانت فلسطين دائمة الحضور.

فلأن قضية اللاجئين تعتبر قضية جوهرية بالنسبة للفلسطينيين ولأنه لاجئ فلسطيني من مدينة القدس ثم اكتشافه بأنه مريض بسرطان الدم عام 1993 واستمرار الغربة عن الوطن وتوجعه عندما زار بيت العائلة في حي الطالبية الخاضع للاحتلال، والاغتراب داخل المجتمع الأمريكي وما آلت إليه القضية الفلسطينية من تراجع وتدهور،كل ذلك أرجعه لزمن البدايات والإحساس أنه خارج المكان الطبيعي الذي كان يُفترض أن يكون فيه وهو فلسطين الحرة والمستقلة، فكتب كتابه "خارج المكان" (200).

ولأنه لمس تحيز المجتمع الأمريكي لإسرائيل والتباس أو تشوه صورة الفلسطينيين في المجتمع الأمريكي والغربي عموما ،كتب مدافعا عن عدالة القضية من خلال كتابيه "المسألة الفلسطينية" (1997) و "غزة – أريحا: سلام أميركي" (1994) بالإضافة إلى عديد المقالات حول الموضوع، وبسبب هذه الكتب والمقالات اختلف مع القيادة الفلسطينية وانسحب من عضوية المجلس الوطني الفلسطيني وتم منع كتبه من دخول أراضي السلطة الفلسطينية ،ولكنه تصالح نسبيا مع الرئيس أبو عمار عندما وقف هذا الأخير موقفا صلبا في اجتماع كامب ديفيد 2 عام 2000.

ولأنه لمس من خلال عمله الأكاديمي ليس فقط التحيز في الحاضر بل افتئات على التاريخ وتزوير له من خلال كتابات المستشرقين الامبرياليين عن الشرق والإسلام فقد كتب محاولا إنصاف الشرق والإسلام من خلال كُتبه الثلاثة :"الاستشراق" (1978) و "تغطية الإسلام" (1981) و "الامبريالية والثقافة" (1993)، و شكل كتابه حول الاستشراق ثورة زعزعت مرتكزات الأسس التي قامت عليها المدرسة الامبريالية الغربية حول الاستشراق وهي المدرسة التي تنطلق من الأنوية الحضارية الغربية وروجت للشرق والإسلام بطريقة تعزز تفوق الغرب ومغايرته عن الشرق وخصوصا الإسلام والعرب، و قد أثار كتابه عن الاستشراق كثيرا من ردود الأفعال ما بين مؤيد ومعارض.

ولأن فلسطين، وبلاد الشام عموما، كانت على المستوى العربي سبَّاقة في مجال الفن والموسيقا ومن بلاد الشام انتقلت الحركة الفنية إلى مصر وبقية الدول العربية، ولأن شعب فلسطين شعب متحضر ومنفتح ومتعدد المواهب فقد أراد ادوارد سعيد تأكيد ذلك من خلال إبداعه الفني العملي وتأليفه ثلاثة كتب حول الموسيقا، وهي: "متتاليات موسيقية" (2002) وكتاب "المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقا والمجتمع" بالاشتراك مع دانييل بارينبويم (2002)، و"النموذج الأخير: الموسيقا والأدب ضد التيار" (2006).

بالإضافة إلى ذلك ألف عديد الكتب في مجالات مختلفة و مئات المقالات والدراسات في أهم الصحف والدوريات العالمية حيث كان يُتقن بالإضافة للغة العربية اللغتين الإنجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى تدريسه في أكثر من مائة جامعة داخل الولايات المتحدة وخارجها.

كان ادوارد سعيد ظاهرة فكرية عابرة للحدود وللثقافات، و تُرجِمت كتبه لعشرات اللغات ،وفي كتاباته امتزجت الأكاديميا مع السياسة مع الثقافة مع الأدب والفن، امتزجت الوطنية الفلسطينية التي ولدت معه وحملها في طوافه الإجباري كلاجئ فلسطيني من القدس إلى القاهرة إلى نيويورك ،مع استحقاقات المكان والعمل والجنسية الأمريكية.

نفتقد ادوار سعيد كجزء من افتقادنا لمرحلة تألقت فيها القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، والإحساس بافتقاد شيء يعني الحنين لعودته، وفي سياقنا فإن الحنين لزمن التحرر الوطني حنين لمرحلة تألق فيها النضال الوطني ضد الاحتلال وتميزت بحالة فكرية وثقافية قادها مثقفون من شتى التوجهات والقارات وكان تأثيرها على الاحتلال وروايته الملفقة لا يقل عن تأثير العمل الفدائي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى