الموت يقرع الأجراس
أوتسمعون صوت نعيق الغربان المتمترسة على الغصون، إنها تنذر بالموت. والموت لا يفرّق
بين الناس، لا يغريه مال ولا تستهويه سلطة ولا يرقّ لدموع المساكين. هو لا يعرف الأسباب
بل يعرف فقط أوان حصاد الأرواح. إنّه البومة التي تقشعرّ لها الأبدان لأنها مدعاةٌ للتشاؤم، وهو
النسر الراصد لكل جيفةٍ تسرّبت دماؤها لجوف الأرض.
الإنسان يكره الموت ويخشاه ويلعنه بشتّى أنواع السباب والشتيمة، إمّا لأنّه يفرّقه عن أحبائه
أو لأنه يخاف ما بعد الحياة، فالإنسان عدوّ ما يجهل. ولكن أترى من يغذّي الموت ويطعمه أرواح
الآخرين يخشاه أيضاً؟ أم أنّ لا أحبّاء له يغار على وجودهم، أو أنّه ضامنٌ لمصيرٍ محتومٍ يسعى
إليه في الآخرة؟
كيف نكره الموت ونقدّم له الخدمات المجانية في كلّ فرصةٍ وحينٍ؟ وهل نلوم عليه إذا استفاد
من كرمنا الفائض ؟ لماذا نبغضه ما دمنا حطب ناره التي تطيح بالأخضر واليابس؟
الموت لا حول له ولا قوّة ما دمنا صنّاعه وما دمنا نتحكّم بعمله. نحن أسياده وهو عبدنا الذليل
ما دمنا نأمره تارةً بالتخلّص من أعدائنا وأخرى نحثّه بالطرق المباشرة وغير المباشرة
وبالأساليب الملتوية على إزاحة العاصين من دروبنا. فكلّ تاجرٍ يغشّ الناس بالمواد الغذائية هو
سيّد للموت، وكلّ مرتشٍ يتغاضى عن حياة البشر هو صانعٌ للموت، وكلّ قارعٍ لطبول الحرب
هو رأس الموت، وكلّ قاتلٍ أمام الستارة ومن خلفها وكلّ حاجبٍ لخيرات الدنيا هو قلب الموت.
والقائمة تطول ولا تنتهي ..
يجب علينا أن نكره أنفسنا لا أن نكره الموت لأننا أصحاب القرار في آلية عمله. نكره أنفسنا
لأنّنا ننهي حياة فردٍ جريمته الوحيدة أنّه فكّر بطريقةٍ مختلفة أو قال ما باعتقادنا أنه لا يجب أن
يُقال. نكره أنفسنا لأنّنا نتفرّج على ضحايانا ونشمت لمصابهم ونحتفل برحيلهم. نكره أنفسنا
لأننا نساهم في دمار الحياة ونتجبّر بأن البقاء للأقوى.
كلا، في زمننا العصيب هذا، البقاء للحيوان المفترس المدفون في أعماق أعماقنا، الذي نطلق
يداه المكبّلة لينتقم لكبريائنا السخيف.
إنمّا الحياة وُجدت للإنسان، فإن كان ثمنها هو التخلي عن آدميتنا ففخر لنا أن نرتمي في
أحضان عدوّها، لأن تجرّدنا من إنسانيتنا هو الموت بعينه.