الجمعة ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

النوم في مقبرة الأحزان

كانت الساعة تتسلل بصمت عبر الظلال، ليلاً، حين قررت أن أذهب إلى المقبرة. ليس لأنني كنت أبحث عن القبور، بل عن شيء أكبر من ذلك. شيء يشبه النهاية. لم أكن أعرف ما الذي سيدفعني إلى تلك النقطة، لكنني شعرت أنني يجب أن أذهب هناك، حيث لا أحد يراقبني، وحيث تظل أرواح من رحلوا في صمتٍ، تنتظر في الظلام.

المقبرة كانت هادئة، كما لو كانت غارقة في حلم طويل. الأضواء الباهتة المنبعثة من بعيد كانت تُظهر الخطوط المظلمة للقبور كأنها تحتفظ في داخلها بأسرارٍ قديمة. كل قبر كان يمثل غمضة عينٍ للزمن، لحظة من الوجود التي انطفأت. لا شيء ينمو هناك سوى الأشجار الميتة والأعشاب التي تتكسر تحت قدمي.

الهواء كان ثقيلًا، مليئًا بالذكريات والأحزان المدفونة. شعرت أنني كنت أخطو على بقايا آلامٍ قديمة. لم تكن المقبرة مجرد مكان لدفن الجثث؛ كانت مكانًا لأرواحٍ تبحث عن معنى في سكونها، مثلما كنت أنا أبحث عن معنى في ذلك السكون الموحش.

لماذا المقبرة؟ تساءلت في نفسي.

كان الألم هو الذي ساقني إليها، أو ربما كانت هي التي جذبَتني إليها. كل شيء في حياتي كان قد تحطم إلى قطع صغيرة، ولم أستطع جمعها مرة أخرى. كانت ذكرياتي تشبه الأقدام التي تائهة في بحرٍ من الرمال المتحركة. فقررت أن أذهب حيث لا شيء يطالبني بالمزيد من التفسير، حيث لا أحد ينتظر مني شيئًا.

جلسَت الرياح في أرجاء المكان كأنها تهمس، تروي قصصًا قديمة لا يفهمها أحد. وبينما كنت أتمشى بين القبور، شعرت بشيء غير مرئي يلمس قلبي. شعرت أنني قد دخلت إلى عالمٍ آخر، حيث الأرواح التي لم تجد راحة بعد. كان المكان شديد السكون، وكأن الزمن نفسه قد توقف هناك.

وقفتُ أمام أحد القبور التي كانت جديدة نسبيًا، ووضعت يدي على الحجر البارد. كان الاسم المنقوش عليه لا يعني لي شيئًا، لكنه ذكرني أنني كنت مثلهم، مجرد اسمٍ على حجر. شيءٌ مرّ وأصبح جزءًا من الماضي. متى أصبحت الحياة مجرد ذكرى؟

ثم حدث شيء غريب. فجأة، بدأ الظلام يزداد كثافة، وكأن المقبرة أصبحت أكثر ظلامًا من أي وقتٍ مضى. كانت هناك رائحة غريبة في الهواء، رائحة لا تنتمي لهذا العالم. لم أعد أستطيع التنفس جيدًا. كان المكان يضغط عليّ، وكأنني أصبحت جزءًا منه، لا أستطيع الخروج.

"هل تشعرين بما نشعر به؟" همس صوتٌ غير مرئي في داخلي.

لقد كانت الأرواح، نعم، الأرواح التي كانت تحت الأرض، تراقبني، تهمس لي من مكانٍ بعيد. شعرت بشيء غريب، كما لو أنني أصبحت جزءًا من هذا المكان، جزءًا من مقبرة الأحزان هذه.

"هل تظنين أنك أتيت لتجد الراحة؟" كان الصوت يقترب مني، يهمس في أذنيّ، ويترك في قلبي جرحًا عميقًا.
لقد أدركت في تلك اللحظة أنني كنت في مكانٍ لا يُمكن الخروج منه، حيث كل الألم يتجمع، حيث كل الأرواح الحزينة تتجمع. كان صوت الرياح قد بدأ يتحول إلى صراخٍ منخفض، كأنما كانت تحاول أن تخبرني شيئًا مهمًا.

كنت أريد أن أهرب، لكنني كنت عالقة. كانت قدماي مغروستان في الأرض، وكأنها تلتهمني شيئًا فشيئًا. لا مفر. كنت في مقبرة الأحزان، في مكانٍ لا يعود منه أحدٌ سليمًا.

ثم، فجأة، سقطت على الأرض.

أغمضت عيني، وفي لحظةٍ واحدة، شعرت وكأنني أطفو بعيدًا عن جسدي، كأنني خرجت من حدود الزمان والمكان. كنت في مكانٍ آخر، في عالمٍ لا يعترف بالقوانين، حيث لا الضوء ولا الظلام يعلمان ما الذي يحدث.

وفي تلك اللحظة، أدركت ما كنت أبحث عنه. لم يكن السكون هو ما كان يجذبني، بل كان الألم نفسه. كنت بحاجة إلى مواجهته، لأعرف لماذا كان يلاحقني طوال حياتي. المقبرة لم تكن هي التي تحبسني، بل كان حزني هو الذي جعلني أشعر أنني عالقة بين القبور.

استفاقتني اللحظة.

ولكن حين فتحت عينيّ، لم أكن في المقبرة بعد الآن. كنت في غرفتي، محاطةً بالظلام الذي كنت أظن أنني كنت فيه طوال الوقت. لكن شيئًا ما قد تغيّر. كانت روحي قد مرت بتجربةٍ لا يمكنني تفسيرها، شيءٌ غيّر في داخلي شيءً لا يمكن للكلمات وصفه.

هل كانت المقبرة مجرد حلم؟

أم أنني حقًا نمت هناك، بين الأحزان، لتكتشف روحي أنها لا تحتاج إلى مكانٍ لدفنها، بل إلى قلبٍ يفهم الألم ويقبله؟

الجواب كان في الليل الذي ما زال يسكنني، في السكون الذي لا ينتهي، في مقبرة الأحزان التي ربما لا أكون قد خرجت منها أبدًا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى