الاثنين ٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

الوجه الضائع

في منتصف كل ليلة، يفتح الحراس الثلاثة الباب الكبير للمكان بسواعدهم القوية، ويتحققون من وجود الأقنعة على وجوه الوافدين الجدد والمغادرين الذين فارقوا الحياة ثم يغلقون الباب ويقفون أمامه كالسد المنيع.

لا أنسى أول يوم نزلت فيه هذا المكان، وكأني أرى الحزن الذي اختطف ابتسامة أبي الوديعة، ولا أنسى تلك اللحظة التي أفلتت فيها يده الدافئة يدي الصغيرة، وكذلك دموع أمي في لحظات الوداع الأخيرة وهي تتحسس القناع على وجهي قبل أن يتركاني أمام باب المكان ويرحلان بلا عودة.

لقد توقفت عن عدّ الليالي، ومع ذلك، فلا زلت أشعر بالذعر كلما سمعت صوت الباب وأستحضر تلك اللحظات وكأنها قد حدثت للتو! ويعتصر قلبي ألماً كلما تذكرت غياب ملامحهما تدريجياً لحظة إغلاق الباب!

دخلت المكان بخطوات مترددة، أستكشف بعيني البريئتين هذا العالم الجديد، وإنني اليوم، لا أشبه ذلك الطفل البريء، فقد نال مني ضيوف هذا المكان ونلت منهم. وقد صرت أحوج إلى القناع الذي وضعته يد أمي الحانية لأخفي به ندبات لا يطيق أحد رؤيتها!

يحرص الجميع في هذا المكان على تزيين أقنعتهم واستبدالها أكثر من حرصهم على وجوههم التي تغطيها، وكأن هذا المكان قد جعل للمرء قلبين، الأول بين ضلوعه، والآخر خلف القناع! أما أنا، فلا ألقي بالاً لقناعي المهترئ، وأحرص في اللقاءات الأولى على وصف وجهي الحقيقي الذي أحبته أمي وأخفته عن العالمين.

وكما تختلف غايتي وطريقتي عن غاياتهم وطرائقهم، فمثيرات الخوف لدي تختلف عن مثيرت الخوف لديهم؛ يخافون سقوط الأقنعة وأخاف بقائها، يخافون الرحيل عن المكان وأخاف الخلود فيه، يفرون من الوحدة وأفزع إليها منهم، يشعرون بذواتهم بالانتماء، وأشعر بذاتي بالاختلاف عنهم.

تسمح قوانين المكان بخروج مؤقت وخروج دائم؛ أما الخروج المؤقت فهو لتحضير الأبناء الذين أتموا خمس سنوات بأقنعة جديدة، إذ يجب على الآباء اصطحاب الأبناء إلى خارج المكان ووضع الأقنعة على وجوههم وإدخالهم، ثم العودة مع دفعة وافدين جديدة لكيلا يتعرفوا على أبنائهم، وأما الخروج الدائم فهو عندما يفارق المرء الحياة!

ولا عجب أن يفضي هذا الكم من الاختلافات بي إلى ركن مهمش في المكان وأن ينفض معظمهم عني خوفاً ونفوراً، إذ اكتسبت من الخبرة ما يجعلني قادراً على كشف حقيقتهم وكأنني أرى وجوههم من خلف الأقنعة.

اعتدت تناول الكحول في ركني المهمش، فهي العادة الوحيدة التي يُسمح لصاحبها أن يزيح قناعه قليلاً ليرتشف من الكأس، ويبتسم خلسةً للآخرين ابتسامة ساخرة. ولم يشغلني في أيامي الأخيرة سوى الخروج من هذا المكان، وقد باءت كل محاولاتي بالفشل؛ رشوة الحراس، وملاطفتهم، ومغافلتهم أثناء دخول الوافدين الجدد أو خروج الراحلين إلى المقبرة، وقد ضقت ذرعاً من فشل محاولاتي حتى عزمت على إجراء المحاولة الأخيرة!

وقفت فوق طاولة في منتصف المكان فالتفت الجميع ينظرون إليّ بترقب، ثم صرخت صرخة مدوية زلزلت جدران المكان المتهالكة: "أيها المزيفون"، وخلعت القناع عن وجهي ثم قذفته بعيداً.

وعلت أصوات الناس كالكلاب المسعورة فلم يسبق لأحد أن تجرأ على خلع قناعه حتى حين يوارى الثرى! وسمعت صيحاتهم في وجه الحراس فمنهم من قال :"اقتلوه" ومنهم من قال: " اطرحوه أرضاً" وآخرون قالوا: "أخرجوه من قريتكم إن كنتم فاعلين!". تبسمت بسخرية محاولاً التماسك أمام تلك الجموع الغاضبة إلا أن عيناي أعلنتا الخيانة والتواطئ معهم ففاض منهما الدمع.

نزلت من فوق الطاولة بخطوات بطيئة، ثم توجهت إلى الحراس الذين سارعوا بفتح الباب على عجل وولوا مدبرين، وخرجت من المكان!

"كم مضى على رحيلهما يا أبتي؟" قالها طفلي الذي أتم اليوم عامه الخامس، التفتت إليه متأملاً وجهه البريء وأجبته بصوت خافت: "لا أدري". يتحسس طفلي شاهدة القبر الأول ثم يقول متسائلاً: "كيف ذلك؟ وقد مكثت معهما في مكان واحد! ولم هذه الأقنعة معلقة على شواهد القبور؟".

أطلقت زفيراً طويلاً ثم قلت بابتسامة مصطنعة: "هذا صحيح، لقد أقمنا في مكان واحد، أما هذه الأقنعة فهي وجوه الناس التي يُعرفون بها".

صمت طفلي للحظات ثم طرح سؤالاً آخر: "أين وجهك يا أبتي؟".

تحسست وجهي براحة يدي المرتعشة وتذكرت لحظة دخولي إلى المكان والتي مضى عليها أربعين عاماً، ثم أجبت بذات النبرة الخافتة: "لقد فقدته، وضاع مني يا بني". ثم أخرجت من حقيبتي قناعاً ووضعته على وجه طفلي وأخذت بيده إلى ذات المكان، حيث سأفقده كما فقدت والديّ، وسنوات الشباب، ووجهي!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى