

ركن عصيّ على النيران
كلنا على موعد مع الجنة، ولا أعني جنة السماء، عسى أن يجعل الله لنا فيها نصيباً، وإنما جنة ثانية، على هذه الأرض.
دخل تلك الجنة التي طالما سمع عنها قصصاً وأخباراً، وليس الخبر كالعيان! دخلها كطفل أفلت يد والده عند وصوله إلى باب مدينة الملاهي التي يزورها للمرة الأولى، ثم ركض فرحاً وأصوات ضحكاته تصدح في أرجائها وكأن ما على هذه البسيطة أحداً غيره!
أرض خضراء على مد البصر تسر الناظرين، وأشجار شاهقة تعانق السماء، وأزهار ملونة، ونهر متدفق تعزف مياهه في جريانها أعذب الألحان، وعصافير تزين هذا المشهد البديع.
وقف للحظات ثم تفحص المكان بقلق حتى وجد ضالته، اقترب من الكرسي الذي تظله أشجار الجنة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة حين وجدها تجلس على الكرسي وتنظر إليه مبتسمة برقّة.
لم يشعر للحظة بأنه كان غريباً عن المكان أو عنها، انسابت الكلمات وكأنها كتبت قبل أن تقال، وانفجرت الضحكات بلا مقدمات، وتعانقت أرواحهما قبل أن تتلامس أيديهما.
شعور مضاعف بالاطمئنان والسكينة، فمن يرى هذه الجنة يدرك أنها لا تعبأ بخريف وكأن فصولها الأربعة ربيعاً متألقاً! وأما يدها، فكانت ممسكة بيده بقوة وكأنها جزء وجد كلّه.
تدفقت أحاديثهما وضحكاتهما حتى غشيهما الليل، وانقضى اليوم الأول وكأنه ومضة برق.
مرت الأيام، وكان كل صباح عيداً جديداً، وكل مساء وداعاً دافئاً يمني النفس بانبلاج فجر جديد.
كانا يمشيان جنبًا إلى جنب، تحت سقف السماء المفتوحة، وفجأة، تهامست الريح، وتلبّدت السماء، وانسكب المطر.
هطلت السماء كأنها تبكي لهما فرحًا، أو كأنها تشاركهما طقسًا مقدّسًا لا يليق إلا بالعشّاق.
ضحكت، ورفعت وجهها إلى السماء، كما لو كانت تستقبل دفق الحياة نفسه، وفتحت ذراعيها لتحتضن قطرات المطر، وأطلقت ضحكة طويلة، كانت كافية له لينسى العالم.
انزلقت قدمها على الممر الحجري، فمدّ يديه والتقطها بين ذراعيه وحملها ثم قال مبتسماً: "أصبحت خفيفة كالنسمة". همست في أذنه وهي تلمس خده المبلل: "وأنت قوي كالجبل".
مشى بها تحت المطر، خطوةً بعد خطوة، وهي بين يديه تضحك، وتهمس، وتغمض عينيها كأنها في حلمٍ لا تريد أن تستفيق منه.
لم تكن الريح تعنيها، ولا البلل، كانت ترى الدنيا كلها في عينيه، أما هو فكان يرى الجنة كلّها… بين يديه.
توقف تحت شجرة كثيفة الأوراق، نظر إليها طويلاً ثم قال: "لو أن المطر يكتب قصص الحب، لكتب الآن قصتنا على وجه الأرض."
ضحكت بخجل، ثم همست: "بل سيكتبها على أوراق الشجر، لتبقى خضراء إلى الأبد."
في اليوم التالي، استفاق فجأة على وهجٍ غريب، حرارة غير مألوفة تخترق الهواء الذي كان ندياً وعطراً. فتح عينيه على مشهد لم يكن في الحسبان. النيران تلتهم الجنة!
ألسنة اللهب ترقص بجنون، الأشجار التي كانت تعانق السماء تتهاوى تباعاً على الأرض جثثاً محترقة، والزهور التي لطالما أبهجت روحه تذبل وتحترق أمام ناظريه.
صرخ صرخة مدوية كليث جريح: "أين أنتِ؟"
ركض كمن به مسّ، يتعثر بين الجذوع المحترقة، يناديها باسـمها في كل ركن، في كل شبر من الجنة التي كانت…
"أين أنتِ؟ أجيبي! أنا هنا… لا تتركيني!"
تردد صدى صوته بين اللهيب والدخان، كأنه يصرخ في هاوية لا قرار لها.
أطيافها تتراقص بين ألسنة النار، يراها تبتسم، يراها تحت المطر، يراها وهي تضحك وتفتح ذراعيها، لكنه لا يجدها.
كلما اقترب من خيالٍ لها، تبتلعه النار.
توقف، التقط أنفاسه بصعوبة، عيناه تدمعان لا من الدخان، بل من الفقد، من الذهول، من الحزن الذي غدا أثقل من جسده.
سقط على ركبتيه، ضرب الأرض بقبضته وبكى بحرارة!
هدأت النيران، ولا يعلم كم مر من الوقت.
وتكشفت الأرض عن مشهد أشبه بيوم القيامة. صارت الأرض رماداً، وتحولت الأشجار إلى هياكل سوداء. لم يبق من الجنة إلا الركام. وقد أدرك حينها أن الخلود في الجنة ضرب من المستحيل!
مشى بخطوات ثقيلة ينظر إلى الجنة وهي خاوية على عروشها، ثم وقع نظره على ركن صغير لم تصل إليه النيران. قطعة صغيرة من الجنة، بقيت بمعجزة أو بوفاءٍ من الطبيعة، فيها زهرة واحدة نبتت من بين الرماد، وكرسي خشبي ما زال واقفاً تحت شجرة مثقلة بالذكريات، نصفها حيّ ونصفها محترق.
اقترب ببطء، ثم جلس على الكرسي، ومدّ يده يتحسس الخشب الدافئ، وأغمض عينيه.
وفي تلك اللحظة، اشتعلت مخيلته، وعادت الجنة إلى ما كانت عليه، وجد نفسه على نفس الكرسي الذي جمعهما في اللقاء الأول، تجلس إلى جانبه، تمسك بيده وتنظر إليه مبتسمة.
قالت له بابتسامة حانية: "لقد أحرقت هذه النيران كل شيء، إلا ركن عصيّ لم تتمكن النيران منه" ثم وضعت يدها على صدره وأردفت: "هنا"
أسند رأسه على صدرها وقال بصوت خافت: "لقد انتهى كل شيء…"
هزّت رأسها بلطف، أمسكت بيده الأخرى، واقتربت منه وهمست: " ما نحبه بصدق لا يفنى، لا تقدر عليه النيران… بل يبقى فينا، يسكن زوايا أرواحنا، يزهر في أركان الذاكرة، يشتعل في كل لحظة حنين، ينتظر أن نغمض أعيننا، فنراه من جديد.
إذا هزّك الشوق، فقط أغمض عينيك، وسأكون معك، في جنة لا تحترق أبداً"