الأحد ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

خبز الليل

كانت الغيوم متلبدة في ذلك اليوم كغطاء ثقيل على تلك المدينة البائسة، ونسمات الخريف الكئيبة تحمل أوراق الشجر الصفراء وتقذفها حيث تشاء. دفعت مريم باب الحديقة ببطء، كأنها تخشى أن توقظ أشجارها النائمة في ذلك الليل، وثوبها البالي يجرّ خلفه غبار الأزقة، وخطواتها المتعبة تئن مع كل حجر تحت قدميها.

نظرت بعينيها الحائرتين إلى الحديقة تبحث عن مكان تستريح فيه، شدت قميصها على جسدها الهزيل بيدين مرتجفتين، ومشت بخطوات ثقيلة إلى ذلك الكرسي ثم جلست بخوف وأنفاسها المتقطعة لا تهدأ. وضعت يديها على صدرها، كأنها تحاول أن تثبّت قلبًا يريد الانفلات من ضيق الدنيا، ثم رفعت رأسها قليلًا، تتأمل السماء الداكنة التي ازدادت اختناقًا بالغيوم، كأنها مرآة لحياتها المثقلة بالخيبات.

بينما كانت غارقة في الصمت، وقع نظرها على رجل عجوز يجلس على كرسي بعيد، ويضع أرغفة الخبز على الكرسي بعد خروجه من الفرن كعادة أهل الشام عند شرائهم الخبز.

شعرت مريم بشعور لم تألفه منذ زمن؛ الاطمئنان! هدأت أنفاسها وهي ترقب الرجل الذي اكتسى بالأبيض من رأسه حتى أخمص قدميه، وزيّنت وجهه السمح لحية بيضاء زادته وقاراً، ويديه الهرمتين تقلب أرغفة الخبز وتباعدها عن بعضها البعض. كان المشهد مهيباً، إذ خلت الحديقة من كل أشكال الحياة، فلا يوجد فيها إلا مريم وذلك الرجل.

حمل الرجل رغيفاً ومشى بخطوات هادئة نحو مريم التي خفق قلبها فرحاً إذ لم تذق طعاماً منذ يومين. ومع ذلك، كان حياؤها أقوى من الجوع، إذ لم تمسك بالرغيف حتى وضعه الرجل بين يديها وجلس إلى جانبها بصمت. شعرت بحرارة الرغيف الذي لا يزال ساخناً وسرى الدفء في أوصالها. قضمت جزءاً منه على استحياء ثم أمسكته بيدين مرتجفتين، ونظرت إلى الرجل بامتنان.

ابتسم الرجل بحنان وقال: "كلي واشربي وقرّي عيناً"

رفعت مريم رغيف الخبز وقضمت منه قضمةً أخرى، ثم نظرت إليه بعينيها المتعبتين وقالت: "ماذا تصنع في هذا الوقت المتأخر يا سيدي؟ ألا تنتظر حتى الصباح لتشتري الخبز؟".

ابتسم الرجل العجوز، وصوته كالموج الهادئ:

"يا ابنتي، لا فرق بين خبز النهار وخبز الليل، هو رزق الله، والرزق يُؤخذ في ساعته."

أطرقت مريم برأسها، وأمسكت بالرغيف كأنها تحتضن ابنتها التي فقدتها منذ خمس سنوات، ثم همست:

"رزق الله! كم تأخر عني كثيراً."

وضع الرجل يده على كتفها بلطفٍ أبويٍّ وقال:

"لم يتأخر قط، لكنه يختبر القلوب بالصبر، والقلوب الكبيرة نصيبها أثقل."

شعرت مريم أن كلماته اخترقت قلبها، لكنها لم تستطع منع دمعة ساخنة من الانحدار على وجنتها، دمعة حملت سنواتٍ من القهر والجوع والوحدة. حاولت أن تبتلع بقايا الخبز، لكنها شعرت بغصّة خانقة في حلقها.

التفتت إليه وقالت بصوت متقطع:

"أتدري؟ أنا لست جائعة للطعام فقط… إنما للجُود، للعطف، لصوتٍ يهمس في أذني: لست وحدك يا مريم."

أطرق الرجل بعينيه إلى الأرض، ثم رفع رأسه مبتسماً وقد غلب على ملامحه نور غريب:

"لن تكوني وحدك بعد الآن يا مريم، لقد جئت لألقاكِ."

ارتجفت، وهي تحدق في وجهه الذي بدا لحظةً كأنه ليس من لحم ودم، بل من نورٍ ينساب. همست بخوفٍ ودهشة:
"من أنت؟"

ابتسم الرجل ابتسامة أوسع، وارتسم على محياه نورٌ لم تألفه عيناها من قبل، وقال بصوت عميق كنسيم يلامس الروح:
"أنا الذي ينتظرني كل إنسان في ساعةٍ لا يعلمها، وقد جئت لأريحك من هذا الشقاء."

ارتجفت مريم، وشعرت بدمها يجمد في عروقها، ثم تمتمت بخوف:

"قد عرفتك، فمتى الرحيل؟"

ابتسم الرجل العجوز ابتسامةً مغموسة بالرحمة، وقال بصوت هادئ يسكب الطمأنينة في أوصالها:

"الرحيل ليس موعداً يا مريم، إنه باب يُفتح حين يكتمل الدرس. وأنتِ قد اجتزت امتحان الصبر."

ارتجفت شفتاها، ورفعت الرغيف بين يديها كأنها تخاف أن يفلت منها، ثم همست بصوت متهدّج:

" وهل لي مكانٌ عند الله بعد كل ما ذقته؟ بعد كل عجزٍ وحزنٍ وأبوابٍ موصدة؟"

أطرق الرجل برهة، ثم رفع رأسه وعيناه تلمعان بنورٍ غير مألوف:

"لقد نجحتِ في الاختبار يا مريم. إن رحيلك ليس إلا نهاية هذا الشقاء، وبداية حياة جديدة لا خوف فيها ولا حزن".

سرت نسمة خفيفة بين الأشجار، حملت معها رائحة التراب والخبز، اقشعر جسد مريم فأغمضت عينيها وضغطت بيديها على رغيف الخبز. وضع الرجل يده على رأسها فشعرت مريم بثقل جسدها يخف تدريجيًا، وكأنها تطفو فوق الأرض، بعيدًا عن كل ما يثقل كاهلها.

وبهدوء مطمئن، انطفأ قلب مريم على الكرسي، وسكنت أنفاسها الأخيرة بين يدي الرجل العجوز، تاركة وراءها جسدًا هزيلًا وروحًا تحلق بحرية في فضاء لا يعرف الجوع ولا الألم ولا الوحدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى