الأحد ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم محمد المبارك

بائع الكتب

كعادته يجلس حسيب يتمطى صباحاً بعد أن يغط في نوم عميق من الساعة التاسعة مساءً ليستيقظ على صوت أذان الفجر أحياناً وحين آخر على صوت منبه الساعة الثامنة بعد إن يذهب كل إلى وجهته في العمل والدراسة ليرى نفسه وحيداً بين جدران وغرف منزله الجاثم في أقصى زاوية من الحي وكأنه مُخبأ في داخل الأزقة.

يهرول مسرعاً ليتناول شيئاً يسد جوعه، يربط خيوط حذائه يغلق الباب الذي لا يخلو من صوت الصرير الذي يشكل لحناً مزعجاً لآذان المارة والجيران، يركض مسرعاً نحو سيارته الصغيرة البيضاء التي تمشي متلكئة وكأنما يركب حصاناً يضربه بالسوط ليصل إلى محل عمله؛ هذا المحل الذي يقبع في أزقة المدينة القديمة والذي لم يفتحه منذ مدة فما أن حرّك مقبض الباب حتى تطاير الغبار على وجهه ونظارته التي نزعها لينظفها فوقعت من يده في ذلك الماء النتن الذي تنبعث منه تلك الرائحة العفنة التي انتشرت في كل تلك الأزقة.

لم يجد ما يمسح به النظارة فما كان منه إلا أن مسحها بطرف كمه بعد أن فتح زرار قميص يده اليسرى، فتح الباب بعد شعوره بثقله وتعنّته وعدم استجابته في بادئ الأمر.

وما أن فتح الباب حتى رأى أرتال من الكتب المتراكمة بعضها على بعض وقد عثا عليها الغبار وغطت الأتربة كل شيء تقريباً في داخل المكتبة، أخذ قطعة من القماش الأحمر وبدأ يمسح ما طالته يده من تلك الأتربة والأوساخ الواقعة على كل قطعة، على الرفوف، على الطاولات، على الكراسات وعلى الكتب.

وهو يقوم بعمله أخذته الأفكار إلى فضاءات المستقبل، متى سأبيع هذه الكتب المكدسة متى سأتخلص منها إلى متى سأبقى في هذا الجحيم بين هذه الجدران، وكأني حارس لهذه الأرفف وهذه الكتب، إلى متى أحلم بمجنون يمر في هذه الأزقة ليشتري من هذه الكتب العفنة، مَن سيشتري كتباً بعد هذه الأجهزة وبعد أن أصبح الكتاب بل آلاف الكتب توضع في شريط ممغنط يباع على الأرصفة بأبخس الأثمان.

بينما هو يحدث نفسه وهو يغلب في الكتب وينظفها شعر بمن يتحرك خلفه ألتفت متثاقلاَ ظناً منه بأن الحركة ربما صدرت من الهواء وقد حرّك بعض ما هو ملغى على الأرض من العلب الفارغة أو قرطاس أو ربما هرٌّ قد أحدث صوتاً، وإذا به يتفاجأ برجل ذو قامة طويلة نسبياً قد لاح البياض في وجهه حتى ذقنه قد كساه اللون ذاته مَن يراه يتفرس فيه بأنه ممن يلتهمون الكتب وقد لاحت قبعة على رأسه المتكور المتشح بالبياض.

أخذ يتفحصه من أخمص قدميه إلى رأسه من حذائه الايطالي بني اللون إلى ساعته الأنيقة تلك الساعة الصفراء، إلى مقدمة رأسه الذي أصابه الصلح.

لم يسلم واكتفى بـ (مرحباً)، رد عليه بعد أن وضع آخر كتاب في يده على أقرب رف، وقف متسمراً أمامه عاجله بالسؤال، هل أجد عندك رواية (وقع الأحذية الخشنة) لواسيني الأعرج، ورواية مائة عام من العزلة لماركيز، ثم توقّف عن الكلام كأنه يتذكر شيئاً أخرج ورقة صغيرة من جيبه وقال أريد أيضاً شقة الحرية لغازي القصيبي، أومأ بحركة تنبئ عن الإيجاب، دخل المكتبة التي تفوح منها شذى رائحة الكتب وأما جدرانها فتشتكي تقادم الزمن وهي لا تزال صامدة.

رجع وفي يديه كتابين؛ سأله عن الثالث فردّ لا يمكن بيعه هنا- سأله عن سعر الكتابين لم يعجبه السعر لم يتفاوض، كرّ ماشياً راجعاً من حيث أتى، تذمر بائع الكتب من الوضع كيف أنه يخرج من بيته ذاهباً وإياباً لبيع الكتب التي تبقى تراوح مكانها صباحاً مساءً تنتظر مَن ينظر إليها بعين الرضا ليكسب بائعها حفنة من النقود ليسد بها حاجة يومه أو يشتري بها كيس من الخبز.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى