الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم ماجد عاطف

بلح أصفر

احتار ماذا يفعل مع علبة البلح الأصفر التي جلبها له ابنه. عناقيد فتية صلبة بلون يمزج الصفرة بالخضرة. همّ بردها مباشرة ولكنها كانت هدية، وعندئذ قد يجرحه إذا ما فهم أنه اغتر بسلع السوق المبكّرة. نيّته كانت أن يجلب له هو، والده، هدية فاكهة.

لا يحب الطعم اللزج-الجاف للبلح الغض. يوحي بالحلاوة ويتسبب بالجفاف والإزعاج للأسنان. لم يعد مضغ الثمار الصلبة ممتعاً. البلح الذي يتحول رطبا لا يحبه أيضا. التمر كلّه والعجوة لا يطلبهما البتة لولا رمضان حين يتوفران بحكم المناسبة. أحياناً ينتزع من المسجد تمرة أو تمرات فردية ومع الماء البارد يمكنها أن تتحوّل لحلوى ووجبة مغذّية.

وهكذا لما غادر ابنه، وضع العلبة جانباً على طاولة ذات تهوية وحرارة معتدلة. لا فائدة من حفظها في الثلاجة.

في اليوم التالي عاد إلى عالمه كرجل تزوّج وأنجب مبكرا، ثم تطلق وانعزل مبكراً أيضاً. يداور شؤونه بروح منهكة زمنيا، وانشغال الذي لا يصدّق التقدّم في العمر، وهواجس منطلقة كشعلة عشوائية. كان خمسينياً لكنه عالق في الثلاثين لا هو هذا ولا ذاك، وخلّص إدراكه بنفسه ووعيه وتأملاته في المعضلات إلى التعامل مع احتياجاته الداخلية كتلبية. لا مناص فهذه سمة العصر: كل احتياج له جرعة منفردة.

وهكذا بعد أن ينتهي من العمل المنزلي والعمل عن بُعد بتدقيق أوراقه وتحريرها ثم إدخالها على الحاسوب، الأمر الذي يستغرق بين ثلاث ساعات وخمس، يجلس يطالع العالم الافتراضي وأخبارا وقراءات ومحادثات وتسلية.

لم يعد له واقعياً شخص واحد يمكن أن يتبادل معه حديثا عاديا، ناهيك عن أن يكون نوعياً. فترة نقاشات الشباب الحركية العميقة أو الجامعية المندفعة وفي المنتديات ولّت لغير عودة. وكبر الأولاد وابتعدوا في عوالمهم فافتقد العاطفة في الحديث.

الرجال تواصله معهم عمليّ متعلّق بالدخل ولا إلحاح له على صداقة. والنساء أصبحن يقعن بين الصغيرات مختلفات الاهتمامات -لا- يرينه رجلا، بصفات كالغريب أو جالب المنفعة وفي أحسن الأحوال كالعم؛ أو الكبيرات لا ينظرن له بجدّية أصلا لأن ما يردنه هو الصبوة والفتوّة في الردود؛ والمجايلات المتعبات كالعادة. الأخيرات مع الزمن والمتابعة يكتشف فيهن مفارقات وتناقضات وخلاصة تقول بانعدام الندّية، خاصة إذا كن عزباوات رسميا، متبنيات للتوجه العام وما هو منتشر، مثل نسخ كربونية واحدة.

وإنّه لا يطمع في تجسيم اجتماعي للتعارف. كلا. يبحث عن المختلف الأصيل ذي الرأي الفعلي والنكهة. معرفة حقيقية تنطلق من ثقافة أدّت لإدراك النفس، وتأملات في المعضلات والاحتياجات بعد تجارب، ثم وضوح في الرؤية والسعي والمعالجة.

نعم، وجد عدة نساء بهذه المواصفات مجايلات، لكنهن غريزياً يدخلن حيز الصراع. إذا كن بعقلية تجارية -وظيفة مرتفعة، رصيد مالي وأملاك، امتيازات حياتية- فلا يستغرق الأمر وقتاً حتى يبتعدن عنه. أمّا إذا كن مفكرات، فيجدهن يبدأن في ممارسة عادات أنثوية تدفعهن لتمثيل أدوار بقوالب جاهزة من ناحية ما ينبغي أن تكون عليه المرأة وكيف تتصرّف. حتى المفكّرة لا تستطيع تجاوز الثقافة.

المرأة الأخيرة لمست اهتمامه بكتاباتها ورغبته في التحاور الداخلي معها، وأبدت تباطؤاً في الرد بعد ترحيب حار، كأنها تشجّعه وتصدّه معاً. هي في صفاتها وأفكارها وعمقها وجرأتها من الأهمية بحيث تجبره على أن يكون معها مثل أي ذكر.. صيّاد، وليس عفوياً مباشراً.

ويضطر إلى -عدم- إهمال امرأة عندما تمارس إشارات التلاعب في الصراع الأنثوي-الذكوري النمطي الذي يمقته ويدفعه في العادة للحظر.

بانتهازية يمكن تزيينها أو فهمها بالأدب والتهذيب واحترام الآخر والنضوج والصبر ومنح الوقت، وكلها مظاهر إرادية، وضع المرأة المعنية جانباً منذ أبدت إشارة التباطؤ المفتعلة تلك، واظهر انشغالات في الموضوع على منشوراته.

اضطر إلى الدور الذي يكرهه،

علبة البلح الأًصفر التي وضعها على الطاولة جانباً، استغرقت أسابيع وهي تنتقل في أطوار. الحبات تجف قشورها أولا، ثم تتجعّد، وبعدها تبدأ منفردة في التخمّر بحيث تنضج فجأة، لكن لفترة زمنية قصيرة.

سيكون عليه أن يتناولها بسرعة قبل أن تتعفّن.

وهو ما حصل تقريباً مع المرأة المتباطئة ولعله كان سرّ تباطؤها غير المعلن. فقد قرأ لها كل ما كتبته قديماً، واكتشف -في التواصل الفوري معها عندما عادت متحمّسة- أنه ليس لديها في الحقيقة شيء جديد يجذبه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى