

زبون دائم
حين افتتحت بقالتي في الحيّ، كنت أعتمد على شراء صاحباتي منّي وأن يصبحن زبوناتي الدائمات. بعد أسابيع، دخل أبو زياد الأرمل المتقاعد لبقالتي تدفعه حاجة لشيء أو رغبة في استكشاف. إنه يشتري من المدينة حاجياته كلّها كما تحدّث نساء الحي، وسمعت من زوجي الذي كان يعمل سائقاً على سيارة أجرة، أنه كان يشتري بأسعار تنافسية مقارنة مع أسعار القرية.
مرّ زوجي بعد دخوله بقليل وكان مشغولا بالتقاط مشترياته. أخذ يتبادل الكلام معه. ثم عند المحاسبة التي تولاها زوجي بنفسه (همس لي أن أقف جانباً)، بدأ يتذمر من الأسعار المختلفة المرتفعة.
زوجي تعامل معه باعتباره زبونا طيّارا لمرة واحدة، وأوشك أبو زياد على ترك المشتريات كلّها والخروج لولا أن تدخلت في اللحظة الأخيرة. نظر إلي بعمق وارتباك وصمت. لم أخفض سعر المشتريات كلّها بل القليل منها. نظر أبو زياد إليّ نظرة جعلتني أتأمله، ولما كان زوجي موجوداً، تشاغل بإخراج محفظته والأوراق النقدية.
إنه في بداية العقد الخامس، ملابسه ليست أنيقة، مغسولة على نحو مقبول، وسيئة الكيّ. لقد ترمّل قبل نحو عامين، وهو يتدبّر نفسه بنفسه، لكن ليس كما لو كانت امرأة ترعاه. كان حديث النسوة في الحيّ، وكيف أنه وضع الغسالة المعطلة على الشرفة المكشوفة دون أن يأتي بغيرها، وأنه ينشر ملابسه على الحبل بشكل مضحك، بعد أن يغسلها بنفسه. وكيف أنه ينشر ملاءات سريره وملابسه الداخلية، بكثرة، كأن امرأة أو أكثر كانت تزوره..
تجاهلت النم النسائي وقتها، لكني لسبب غامض استعدته وأنا أحاسبه، بينما سلّم زوجي الورقات النقدية.
قال زوجي بعد أن خرج أبو زياد يحمل أكياسه البلاستيكية:
– زبون طيّاري لمرة واحدة.. لقد أخطأ بورقة من فئة العشرين! شعرة من الخنزير بركة!
– اخرج وناديه..
– إذا عاد، فأعطيه الفارق أنت..
مرّ صباح اليوم التالي وهمّ بالدخول، ولكن أبا زياد لما رأى ظهر زوجي للداخل من باب البقالة، تراجع بسرعة وخرج. لفت الأمر نظري ولسبب ما سكتت. بعد يومين كنت أيضاً مع صاحبتين لي نتحادث أمام البقالة، ولمّا كانت مشيته بطيئة تستغرق وقتا، فقد لمحته من زاوية عيني يتجاوزنا كلّنا.
كنت ارتقب لحظة مناسبة لأعيد العشرين له، لكني لم أرد أن تكون وحولي أحد.
في مساء اليوم الثالث دخل. وقبل أن يسأل عن شيء أو يحجزه للمشتريات، ناديته بأدب:
– أبا زياد، هذه مالك الزائد..
لوحّت له بالورقة من فئة العشرين. لم يبد اهتماما بكلامي. كان صامتاً يتظاهر بالبحث بين المعروضات. حين أعطيه ظهري مرتبة الرفوف ليأخذ راحته في انتقاء مشترياته، كان بوسعي رؤيته من المرآة الكبيرة المحدّبة يتأمل قوامي. عندما أعود إليه لأواجه عينيه ينشغل. أشعرني الأمر باستغرابٍ كاستياءٍ مخلوطٍ بالفضول (فأحد غير زوجي يريدني)، ولكنه كان ثابت الوجه والتعابير.
ثم اقترب من الكاونتر لأحاسبه. سألني بنبرة خفيضة إن كان لدي بصل أو مسحوق بصل. كنا سنفتتح قسماً للخضار قريبا، فأجبته. قال بنبرة تبدو للسامع عادية:
– احضري الجرجير والحمص الأخضر، إذا كان موجودا في السوق.
عرفت عنده أنه أصبح زبونا دائما.
قمت بحساب المشتريات خاصمة العشرين. قدّم المال وطلب مني أن أتأكّد ثانية من الحسبة. قمت بالحساب، وكانت مشترياته قليلة. أكّدت له أن الحساب صحيح، فطلب التأكد منه مجددا..
– بطرمان العسل ثمنه كذا؛ والغذاء الملكي كذا؛ والحمص كذا؛ وبطرمان الشطة كذا؛ وشوكلاتة الدهن كذا، والمكسّرات كذا، والمناديل المبلولة كذا؛ ومشروب الطاقة كذا.. السمك كذا، و..
دخل ابني، فقاطعني مبتسماً لي يمنعني من المواصلة وقال:
– شكرا لك، الحساب صحيح.
ولما أعدت له المتبقي، طلب أن آخذ منه القطع النقدية ليستعيد المتبقي ورقا. عندما قدم لي القطع المعدنية، أمام ابني الذي في السابعة من عمره، لمس راحتي بأنملين من أصابعه وهو يضعها.
كادت تكون حركة واضحة لولا أن ابني صغير العمر كان ينظر جانباً.
مرّ يومان ودخل أبو زياد بقالتي ليشتري منّي مرة أخرى. وعندما وضع المشتريات أمامي لأحسب ثمنها، كانت في عينيه نظرة متّسعة، تتوغل عينيّ وشفتي بطريقة ماكرة، ثم تتنقّل عن عمد بين صدري وحوضي فاحصة قوامي كلّه.
كنت أحسّ بالحرج والغزل والإعجاب وراغبة -على إبهام- بالمزيد، ولكني لم أفهم جيداً ما يريده إلا عندما حسبت المشتريات. لقد انتبهت..
كانت المشتريات قليلة كالمرّة الأخيرة، ولكن هي هي نفسها.. من الصعب أن يكون قد استهلك المشتريات السابقة في يومين، بل إنه يرسل لي رسالة، فمشترياته كلّها مقويات والمناديل المبلولة يستعملها لـِ...
رفعت وجهي إليه أتظاهر بعدم الفهم وأخبرته عن التكلفة وسألته إذا كان يريد البقية ورقية أم نقدية.
أعطاني الفارق قطعا معدنية ولمس راحتي ببطء أكثر. لم أكن مرتبكة تماماً ولا خجلى تماما، بل يدهمني الحبور مع الفضول.. لهذا السبب قلت:
– بعد غد، سيكون الجرجير والحمص الأخضر متوفراً.. سأفتتح قسم الخضار غداً.
كانت كذبة فالموسم لا حمص أخضر فيه، ولكنها مرّتي الأولى التي أبحر فيها في أسرار المتزوجات، فقال من جانبه:
– سأمرّ غدا مساء..
إنّه يريد الحديث بل ربما أكثر، فلا ينبغي لزوجي أو ابني أو أي من صاحباتي أن يكنّ موجودات.
الإحساس بالخطر ابتلعته داخل ولع خفيّ أقوى هو رغبة في المغامرة والمعرفة. لم أكن واثقة مما سيحدث ولا كيف، ولكن قامته المتخيّلة هو الأرمل الموظف المتقاعد (إلى جانب زوجي السائق الثرثار وأزواج صاحباتي العمال كلهم) كانت ترجح، وتطرق شعوري بقوّة.. استعدت بعض النميمة فسألته لكي أتأكّد، قبل أن يخرج حاملا أكياس المشتريات، مما "إذا كان يريد مسحوقاً يدويا للغسيل لأن غسالتك معطّلة كما تقول نساء الحي".
لم يتفاجأ تماما بل بدا على محياه الواثق، حليق الذقن مهندم الملابس معطّر هذه المرّة (لقد اعتنى بمظهره)، سرورٌ يمتزج بتساؤل وحذر.
فهم وهزّ رأسه ومضى. لم أفهم أنا لِمَ تفوّهت بتلك الكلمات، إلى أن أدركت أنني كنت موافقة على ما سيأتي، إنما طالبة منه الكتمان.
لم يخبر عن خطوته المقبلة. وعندما أصير واثقة تماماً، سأطلب منه تنويع مشترياته لأن غايته اتّضحت لي ولا أريد لفت نظر أحد.