

بيتٌ بحجم الحنين
البيتُ لم يَعُد بيتًا، بل صَدَفةً فارغةً على شاطئٍ تلاشى فيه الموج.
أمُّ صلاح، ليست أمًّا فحسب، بل كائنٌ شفيف، تنهض كل صباح لتغسل أصوات أطفالها من زوايا الجدران، تُجفّف ضحكاتهم المنشورة على حبال الضوء، وتكنس ظلَّ عبورهم من الممر.
ستةُ كائناتٍ ضئيلة، كانت تُحلّق حولها يومًا، تنقر الوقت بأصابع الحنين، تشرب الحليب من كفّها، وتغفو عند أبواب حلمها الطويل. الآن، تحوّلوا إلى أسماء محفوظة في قائمة الهاتف، أصواتٍ تظهر في المناسبات، وأحيانًا لا.
هي لا تبكي، بل تمطر من الداخل. تشهق أحيانًا، فتخرج منها رائحةُ حليبٍ قديم، وبقايا شايٍّ كان يُعَدّ ذات مساء... لأحدهم.
كلما عصفت بها الذكريات، فتحت نافذتها لتُعيد ترتيب الفوضى:
واحدٌ صار أبًا...
واحدةٌ تسكن مدينةً بعيدة...
وآخر لا يُجيب.
أمُّ صلاح لا تغضب؛ فالغضب يحتاج جدارًا تُصفَعه، أما الحنين، فيجرُّ بها يمينًا ويسارًا، حتى وإن كانت تغضب حرصًا على أبنائها.
تتسكع في البيت كروحٍ مطرودة بلُطف.
تصنع الشاي كل مساء، تُحادثه، وتضع أمامه كرسيًّا خاليًا، وتبتسم.
تتحدث كمن يُربّي حفنةً من الطيف.
في الحديقة، لم تعد النباتات تنمو، لكنها تسقيها كل صباح، ظنًّا منها أن بعض الذكريات تحتاج إلى ماء كي لا تذبل.
في الليل، حين تنام الأشياء، تخرج من جسدها، تطوف الغرف، تبحث عن بقايا خطوات، عن بقايا بكاءٍ لم تجففه الشمس.
أمُّ صلاح لا تزال أمًّا، ولكن أبناءها يسكنون في طبقاتٍ أخرى من الزمن.
بعضهم تزوّج، والبعض الآخر تزوّج من الغياب.
وفي كل مرة، تسأل نفسها:
هل كبرتُ أنا، أم أن الزمن هو الذي نسي أن يمرّ بي؟
ثم تنام، وتضع أطفالها في حضن ذاكرتها، وتغني لهم بصوتٍ لا يسمعه أحد.