الخميس ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

رحلة بين المحطات

مدخل 1

الحافلة تتنفس، ويدور الزمان على عجلاتها كروحٍ تبحث عن مبتغاها. أضواء الطريق تتَرَاءى لها كذكرياتٍ تذبل، لكنها تُولد مع كل لحظة. الرجل الستيني بجانب النافذة، عيناه تشربان ما تبتلعه العجلات من الذاكرة المتسارعة. الأشجار ليست فقط أشجارًا، بل أسرارٌ تتساقط أوراقها في قلبه، وتتراكم حوله غبار الزمن. كل وجه غاب دون وداعٍ يترك مكانه فراغًا ثقيلًا، وكل صباحٍ انطفأ قبل أن يُحكى أصبح رمادًا في داخله، وكل وداعٍ يتلاشى ببطءٍ ليحل مكانه الصمت. اهتزاز الحافلة يذكره بأن الوقت يتسلل بين أصابعه، وأن الظل الذي يلوّح له باسم التقاعد ليس سوى مجازٍ يتلوّن كلما اقترب. لكن ثمة شيء في أعماقه يرفض التصديق: هل حقًا هذه هي النهاية؟ أم هي مجرد بداية جديدة تختبئ خلف كل محطة؟

مدخل 2

في المقعد الخلفي، صبيّ في العاشرة يراقب كل شيء بصمتٍ كثيف. لا وجوه، لا أسماء، فقط ضبابٌ يتكثف في عقله، وتدور الحياة في عينيه كفيلمٍ مهشم. لا شيء يشده سوى الحركة، مثلما لا شيء يثبّت الذاكرة في زوايا قلبه. النظرة الثقيلة للرجل الستيني، الابتسامة التي لا تبتسم للرجل الأربعيني، التوتر اللامرئي للشاب الحامل حقيبته – جميعها تمر أمامه كوميضٍ ليس إلا. الحافلة ليست مجرد وسيلة؛ هي كتابٌ حيّ تتقلب صفحاته مع اهتزاز العجلات، وحروفه تُكتب بأنفاس العابرين.

القصة

الحافلة تهتز على الطريق، مثل قلبٍ يقاوم التوقف. الأصوات تتشابك: خرير العجلات، أنين المقاعد، صدى أفكارٍ لم تُنطق بعد. الرجل الستيني يتأمل المسافة وكأنها آخر عناقٍ له مع الوقت، والأشجار تتسارع في أفقه مثل أحلامٍ تتساقط. وقتٌ يتفتت في عينيه كزجاجٍ قديم، كلما اقترب من النهاية. لكن هل هي حقًا النهاية؟ أم أنها بداية جديدة تختبئ خلف كل محطة يمرّ أو مرّ من أمامها؟

إلى جواره، رجلٌ في الأربعين يبتسم بصمتٍ مغلق، ابتسامة مائلة كمن يخبئ سرًا في قلبه، كمن ينتظر لحظةً لم تزل بعيدة. منشغلاً بالطفل الذي سيأتي، بالضحكة الأولى التي سترتسم على شفاهه، بالبيت الذي سينمو معه. لكنه يخشى أن ينطق الأحلام، فتظل على طرف اللسان. يراقب الرجل الستيني كمن يبحث عن أبٍ ضاع في الزمن.

في المقعد المقابل، شابّ في العشرين يفتح حقيبته على صوت أفكاره: شهادةٌ جديدة، طريقٌ ضبابي، فرحٌ يشبه غيمةً تائهة. السائق يتحرك كالزمن نفسه، وكل حركة منه تشبه جوابًا ناقصًا لسؤالٍ لم يُطرح بعد. السماء في عينيه أكبر من كل قدراته، واليقين ضيّق كياقة قميصٍ نسي أن يتنفس.

وفي آخر الحافلة، يجلس الصبيّ كظلٍ يراقب المرايا. يرى ما لا يراه الكبار: وداع الرجل الستيني، ولهفة الأب المنتظر، وارتباك الشاب الطامح. وكل هذه الأضواء تتحول في داخله إلى نسيجٍ غير متضح الملامح، إلى شيءٍ يُكتب بالأحاسيس أكثر من الكلمات. الحافلة ليست مجرد مركبة، بل معبرٌ بين وعيين؛ وعيٌ يغادر الأشياء وآخر يتعلم كيف يبدأها.

تتوقف الحافلة عند محطةٍ صغيرة، الباب يفتح على هواءٍ مبلّل برائحة الرطوبة والمدينة القديمة. الستيني يهمس لنفسه: "غدًا لن أعود." الأربعيني يلمس هاتفه كمن يبحث عن شيءٍ غائب. الشاب يخطو نحو مجهولٍ لم يكتمل، والصبي يبتسم؛ لأنه أدرك أن الرحلة ليست بين المحطات، بل بين المعاني، بين أزمنة تتشكل وأخرى تمحى.

الحافلة تتحرك مجددًا. الصمت يتحول إلى موسيقى، والوجوه تصبح علاماتٍ في طريقٍ لا ينتهي. لا أحد يعرف إن كانوا ذاهبين… أم عائدين.

نهاية 1

تتوقف الحافلة، لكن لا أحد ينهض. الصبي وحده يبقى، يراقب الزجاج وهو يعكس الأشجار المتسارعة. في تلك اللحظة، يفهم أن الرحلة لم تكن بين المحطات، بل بين اللحظات التي لم يُخلق فيها الوقت بعد.

نهاية 2

تتوقف الحافلة. يهبّ الركاب واحدًا تلو الآخر. الفراغ يبتلع الأصوات، والضباب يغمر المقاعد. الصبي يظل في الخلف، يبتسم بهدوءٍ يشبه اليقين. ينظر إلى المقعد الفارغ أمامه ويهمس: "كلّ ما رأيته، كان يسكنني." ثم تختفي الحافلة في الضباب، كأنها لم تكن سوى فكرةٍ في رأس طفلٍ يتعلم كيف يحلم.

كلمة هامشية

التجريب السردي هو مغامرة في البنية، يسعى من خلالها الكاتب إلى مغايرة الشكل التقليدي المألوف للسرد، وتوسيعه نحو فضاءات جديدة من الإدهاش والمعنى.

إنها محاولة للخروج عن الخطّ الزمني والخطابي المعتاد، بحثًا عن شكلٍ لغويٍّ يتحوّل إلى تجربةٍ حسّية وفكرية في آن.

في التجريب، لا يعود السرد وسيلةً لنقل الأحداث فقط، بل يصبح مختبرًا للوعي، ومجالًا لتقاطع الصوت الداخلي مع المنظور الخارجي.

إنه كتابةٌ ضدّ العادة، تفتح الباب للالتباس بوصفه جمالًا، وللصمت بوصفه نوعًا من الكلام.

القيمة هنا لا تكمن في ما يُروى، بل في كيف يُروى؛ في الطريقة التي تجعل من النص كائنًا حيًّا يتغيّر مع كل قراءة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى