مسافة الجمال
على امتداد الكورنيش، حيث تتكئ المدينة على كتف البحر وتترك له همومها كل مساء، كانت المساطب الحجرية مصطفّةً كذاكرةٍ قديمة تعرف العابرين واحدًا واحدًا، تحفظ خطاهم، وتستعيد وجوههم كلما عادوا. هناك، عند مسطبةٍ بعينها، اعتاد صديقان شاعران أن يلتقيا منذ سنوات، كأن المكان اختارهما ليكون شاهدًا على اختلافهما العميق واتفاقهما الخفي، وعلى ما لم يُقَل بينهما أكثر مما قيل.
كان المساء في بدايته، تلك اللحظة الانتقالية التي لا هي نهار ولا ليل، حين تكون الأشياء معلّقة بين احتمالين، وحين يبدو الزمن نفسه مترددًا في اختيار وجهته. السماء تميل إلى الزرقة الداكنة، والبحر يغيّر نبرته ببطء، والموج يبدو أقل صخبًا، كأنه يستعدّ للاعتراف بشيءٍ ما، أو كأنه يختزن سرًّا لا يُقال دفعةً واحدة.
وصل الأوّل مبكرًا كعادته. جلس على طرف المسطبة، واضعًا دفتره على ركبته، ممسكًا بالقلم دون أن يكتب. كان يؤمن أن الكتابة تبدأ قبل الكلمات، في ذلك التوتّر الداخلي الذي يشبه ارتجاف الضوء قبل انطفائه. نظر إلى البحر طويلًا، فرآه ككائنٍ عجوز، يحمل حكايات لا يريد البوح بها. عنده، لم يكن البحر منظرًا، بل ذاكرةً جماعية، حزنًا متراكمًا، ونداءً لا يصل، وكلما طال النظر، ازدادت المسافة بينه وبين الطمأنينة.
قال في سرّه:
«كل هذا الاتساع… ومع ذلك نشعر بالضيق.»
مرّت لحظات، امتدّ فيها الصمت كفاصلٍ ضروري، قبل أن يظهر الصديق الثاني من بعيد. كان يمشي بخطواتٍ هادئة، كمن يعرف أن الطريق لن يهرب، وكأن الزمن يسير على إيقاعه لا العكس. يحمل في يده كيسًا صغيرًا، وفي وجهه ملامح من يسلّم على العالم بدل أن يسائله. حين اقترب، لوّح بيده وقال مبتسمًا:
«المساء يشبه قصيدة قصيرة… لو تأخّرنا قليلًا لفقدنا وزنها.»
جلس إلى جواره، ومدّ له كوب قهوة، كمن يقدّم طقسًا لا مجرّد مشروب:
«أحضرت لك واحدة، البحر يُشرب أفضل مع شيءٍ دافئ.»
تناول الأوّل الكوب بصمت، شعر بحرارته تتسرّب إلى كفّه، ثم قال:
«البحر لا يحتاج دفئًا، هو بارد بما يكفي ليوقظ الأسئلة.»
ضحك الثاني، وأدار نظره نحو الأفق حيث بدأت الشمس تختفي، تاركةً أثرها الأخير على صفحة الماء:
«أنت دائمًا ترى الأشياء من جهة الشقوق. أنا أراها من جهة الضوء.»
مع غروب الشمس تمامًا، بدأ الليل يتقدّم بخطواتٍ واثقة. أضاءت الأعمدة، وارتسمت خطوط ذهبية على صفحة الماء. النوارس هدأت، والهواء صار أكثر كثافة، كأن التنفّس نفسه صار فعلًا واعيًا. بدا الكون وكأنه يستعدّ لحوارٍ طويل، لا يخصّهما وحدهما.
قال الثاني وهو يشير إلى السماء:
«انظر… النجوم تظهر واحدةً واحدة، بلا استعجال. هذا يعلّمني الصبر.»
ردّ الأوّل، وقد شدّ معطفه قليلًا:
«وأنا أراها ثقوبًا في العتمة، تذكيرًا بأن الظلام هو الأصل.»
ساد صمتٌ قصير، لم يكن فراغًا بل امتلاءً مؤقّتًا. ثم مرّت عائلة بالقرب منهما، أطفال يركضون، وأمّ تضحك، وأبّ يلتقط الصور. تابعهم الثاني بعينٍ مليئة بالرضا، كمن يرى في المشهد إجابةً بسيطة عن أسئلة معقّدة:
«الحياة بسيطة لو أردناها كذلك.»
هزّ الأوّل رأسه، كمن يعرف ما لا يريد أن يراه:
«البساطة قناع. خلف كل ضحكة تاريخٌ من الخسارات.»
ظهر القمر أخيرًا، مكتملًا تقريبًا، ينعكس على الماء بخطٍ فضيّ طويل. توقّف الحديث للحظة، كأن كليهما يعترف سرًّا بجمال المشهد، رغم اختلاف التفسير، ورغم المسافة التي تفصل نظرتهما إلى الأشياء.
قال الثاني:
«القمر صديقٌ قديم، لا يتغيّر مهما تغيّرنا.»
أجاب الأوّل، وهو يحدّق في الانعكاس المرتجف:
«بل يتغيّر… نحن فقط ننسى. هو يعلّمنا أن الاكتمال لحظة، لا حالة.»
فتح الأوّل دفتره هذه المرّة، كمن حسم تردّده، وبدأ يقرأ بصوتٍ خافت، كأن الكلمات لا تحبّ الارتفاع:
«أخاف من الجمال
لأنه يرحل سريعًا
ويتركنا وحدنا مع الذاكرة.»
استمع الثاني باهتمام، ترك الصمت يعمل لمصلحة المعنى، ثم قال:
«وأنا أكتب لأثبت اللحظة، حتى لو رحلت. الشعر عندي محاولة للامتنان.»
تبادل الاثنان الحديث عن القصائد، عن الكتب التي أحبّاها، عن الطرق التي فرّقتهما وجمعتهما. تذكّرا بداياتهما، الأمسيات الأولى، الأحلام التي خفت بريق بعضها ولم ينطفئ تمامًا، وكيف ظلّ الشعر، رغم كل شيء، المسافة المشتركة بينهما.
اشتدّ الليل، وقلّ المارّة. صار البحر أوضح، كأن الظلام أزاح الزوائد وكشف الجوهر. عند تلك اللحظة، أدرك كلٌّ منهما أن اختلافهما لم يكن عبئًا، بل ضرورة. أحدهما يرى العالم جرحًا مفتوحًا، والآخر يراه فرصةً للشفاء. وبين الرؤيتين، يولد الشعر، ويتجدّد.
نهضا معًا، سارا ببطء، ثم توقّفا عند نهاية الكورنيش. لم تكن هناك كلمات أخيرة. فقط وقفة طويلة، نظرة إلى البحر، وأخرى إلى القمر، كأن الوداع نفسه يحتاج صمتًا لائقًا به.
افترقا أخيرًا، وكلٌّ منهما يحمل الليل في داخله بطريقته. البحر بقي خلفهما، المسطبة بقيت فارغة، لكن الحوار ظلّ معلّقًا في الهواء، ينتظر مساءً آخر، وقصيدةً جديدة، واختلافًا لا ينتهي.
