السبت ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

رائحة الطين

الفجرُ يقشعُ الظلامَ، وبدأت ملامحُه تتشكّل فوق القرية،
يوقظُ الجدرانَ ويتركُ على الطين أثرَ خطوطِ نوره الأوّل.

كان صافياً في يومه هذا، وكان "ماهر" يتهيّأ للخروج نحو البئر،
يحملُ إبريقًا نحاسيًا غسله العمرُ من لمعانه،
خطواتُه تلتفّ على حكاياتٍ لم تكتمل بعد.

وجهُه امتدادٌ للأرضِ التي يسيرُ عليها؛
موشومٌ بتلك الصفات، مطليٌّ بالريحِ والغبار.
خلفه كانت القريةُ القديمةُ تتململُ من نومها،
تفتحُ نوافذَها بكسلٍ يشبهُ الشيخوخة،
وتستنشقُ بخارَ الحكاياتِ التي لم تُروَ بعد.

كان البئرُ بعيدًا، والسماءُ الصافيةُ على وشكِ أن تنسى هطولَ المطر.
ومع ذلك، لم يكن "ماهر" يسعى إلى الماء فحسب،
بل كان يذهبُ ليستعيدَ ما تسرّبَ منه في غفلةٍ من العمر —
ظلَّ صبيٍّ ضاعَ بين المواسم.

في الطريق، سمع همسًا غامضًا،
كأنّ الأجدادَ يسيرون معه حفاةً فوق التراب،
يردّدون ما يشبهُ التعاويذ:
«الطينُ لا يموت... بل يعودُ كلّما لامسته يدٌ تعرفُ الانتماءَ جيدًا.»

تذكّر جدَّه وهو يقول له ذات فجرٍ غابر:
ـ «يا بُني، حين تلمسُ الطينَ، فأنت تلمسُ يدَ التاريخ،
بل تلامسُ أعماقَ روحك.»

ضحكَ يومها، ظانًّا أن الجدَّ يحدّثُ الريح،
لكنّه الآن، في هذا الصباحِ المبلّلِ بالغياب،
شعرَ أنّ الجملةَ تعزفُ على وترِ الحياة،
كما تنبتُ الحقولُ عند أوّلِ خفقةِ مطر.

عندما بلغ البئر، وجد الأطفالَ يلتقطون الضوءَ
من صفحةِ الماءِ بأصابعهم،
ووجوهَهم تعكسُ ملامحَ لم تعرف الغيابَ بعد.

جلسَ على الحجرِ الكبير،
يراقبُ ضحكاتِهم وهي تتطايرُ كعصافيرَ صغيرةٍ في هواءٍ متعب،
وشعرَ أنّ القرية — رغمَ جدرانِها المتآكلة —
لا تزالُ تنبضُ بحياةٍ سرّية،
كجذرٍ يرفضُ أن يموت.

رفع بصرَه نحو السماءِ،
وتمتمَ بكلماتٍ لا يدري: أهيَ دعاءٌ أم حنين؟
وفي اللحظةِ نفسها، هبّت نسمةٌ دافئةٌ تحملُ رائحةَ الطينِ المبتلّ.

كانت الرائحةُ كذاكرةٍ تستيقظُ من تحتِ الرماد،
تفتحُ في صدرِه أبوابًا نسي أنّها موجودة.

رأى كلَّ ما غابَ عنه يعودُ دفعةً واحدة:
صوتَ أمِّه وهي تناديه من بابٍ بعيد،
أغنيةَ الحصادِ التي كان يردّدها الفلّاحون،
نداءَ المؤذّن حين كانت القريةُ تصحو على النورِ لا على الأخبار.

ورأى نفسَه طفلًا يركضُ في الحقول،
قدماهُ تغرسانِ في الترابِ كجذورٍ تعرفُ طريقَها إلى الماء.
لم يكن يخافُ الوقتَ ولا الرحيل،
لأنّ الحياة — كما أدركَ أخيرًا —
لا تسكنُ الجسدَ، بل الذاكرةَ التي لا تجفّ.

عاد "ماهر" إلى القرية، لكن خطواتِه كانت أهدأ،
كمن وجدَ في الطريق شيئًا لا يُرى.
دخل بيتَه، وضع الإبريقَ المتصدّئَ على الرفّ،
وجلسَ عند العتبة، ينظرُ إلى السماءِ
التي كانت تجمعُ الغيومَ على مهلٍ،
كأنّها تتهيّأ لاعترافٍ قديم.

وحين سقطت أولُ قطرةِ مطرٍ على التراب، ابتسم.
كانت القطرةُ تذوبُ في الأرض كما يذوبُ الحنينُ في القلب،
ومعها ارتفعت رائحةُ الطينِ من جديد،
قويّةً، صافيةً، تهمسُ بأنّ الأرضَ ما زالت تتكلّمُ بلغتها الأولى.

لم يقل "ماهر" شيئًا،
فقط أغمضَ عينيه،
وفهمَ أنّ الشيخوخةَ ليست في الجسد،
بل في مَن نسي طريقَه إلى الطين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى