السبت ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩

ثقافـــــة العّلـــــم

د . علىّ الدين هلال

نبعت فكرة الكتابة في هذا الموضوع من نحو عشر سنوات ، ففي مناسبة لتكريم فريق النادي الأهلي في كرة القدم عقب فوزه في إحدى البطولات الإفريقية ذكرت في كلمتي أن اللون الأحمر الذي يميز هذا النادي العتيد كان مأخوذاً من لون العلم المصري . ووقتها ، نبهني - هامساً - أحد فطاحل السياسة في مصر الذي كنت أجلس بجواره إلى أنني أخطأت فلون العلم المصري قبل سنة 1952 كان اللون الأخضر وليس الأحمر فأكدت له أن ما قلته صحيح ، وأن لون العلم المصري عند إنشاء النادي الأهلي كان هو اللون الأحمر وهو لون العلم العثماني الذي كان مستخدماً في مصر وقتذاك ومنذ هذا اليوم رغبت أن أكتب عن تطور العلم المصري وارتباطه بتاريخ مصر السياسي وتطور نظام الحكم فيها .

فعلم مصر – شأنها في ذلك شأن آية دولة أخرى - هو رمز استقلالهاً وسيادتها .. العلم عادة ما يرتبط بحصول الدول على استقلالها أما عندما تكون تحت الاحتلال أو تابعة لدولة أخرى فإنها ترفع علم الدولة المهيمنة مثلما كان الوضع في فترة تبعية مصر للدولة العثمانية . والعلم هو الراية التي ترفرف فوق المباني الرسمية للدولة في الداخل وعلى سفاراتها في الخارج وترفعه جيوشها وقت المعارك وأساطيلها الحربية والتجارية في البحار ويرسم على طائراتها في الجو . وهو رمز لأمتداد سلطات الدولة ومؤسساتها وقوانينها ، كما أنه رمز للأنتماء والكبرياء الوطني يتعلم النشىء احترامه بتحية العلم في طوابير الصباح في المدارس ، وفي بعض الدول العربية كسوريا مثلاً فإن التجنيد الإلزامي بالجيش يسمى خدمة العلم للدلالة على أن هدف الجيش ومهمته المقدسة هو أن يظل علم الدولة خفاقاً رمزاً للحرية والاستقلال .

ولعلنا نذكر مشهدان أثارا لدى كل المصريين أعمق مشاعر الانتماء الوطني .. الأول هو صورة الرئيس جمال عبد الناصر وهو يرفع علم مصر على مبنى البحرية بعد جلاء أخر جندي بريطاني عن قاعدة السويس يوم 18 يونيو 1956 وهو بالمناسبة يوم إعلان النظام الجمهوري في مصر - . وصورة الرئيس حسني مبارك وهو يرفع علم مصر على طابا بعد تحريرها في 19 مارس عام 1989 . والخلاصة أن علم الدولة هو رمز الاستقلال والعزة .. ولأن العلم هو رمز الدولة وعنوان الانتماء ، فإن المواطنين يحملونه في المناسبات العامة والوطنية والذي يسافر إلى الولايات المتحدة سوف يلاحظ لأول وهلة الوجود البارز للعلم الأمريكي في كل مكان . كما يستخدم العلم كأداة للتحفيز والحماس .. لذلك يلوح به المصريون في المباريات الرياضية عندما تلعب فرقنا القومية مع دول أخرى ونتذكر في هذا المقام أنه لا توجد مناسبة يحتشد فيها ما يقارب من 80 ألف مصري يحملون علم بلادهم ويهتفون باسمها إلا عندما يلعب الفريق القومي لكرة القدم مباراة دولية .

العلم هو رمز للدولة وعنوان لانتماء المواطن لها وتعبير عن ارتباطه بها .. ولذلك فإن معرفة الإنسان – والشباب خصوصاً – بتاريخ علم بلاده وإدراكه بألوانه وإلى ما تشير إليه من معان ودلالات ينبغي أن يكون جزءاً من الثقافة العامة لكل شاب وأن نغرس فيه مشاعر الاحترام والإنتماء للعلم .. فالعلم هو رمز الوطن واستقلاله .

من الناحية التاريخية تعتبر مصر من أقدم الدول التي استخدم جيشها الأعلام والرايات .. وعبر التاريخ كان للفرق العسكرية المصرية راياتها التي تميزها . وبدخول مصر في تبعية الدولة العثمانية عام 1517 أصبح العلم العثماني هو العلم الرسمي لمصر ، ورفرف هذا العلم على مبنى القلعة رمز الحكم وقتذاك وكان العلم العثماني أحمر اللون عليه هلال ونجم ثماني الأطراف .

وبصعود محمد علي إلى سدة الحكم في 1805 أبقى على شكل العلم ولكنه غير النجم ليكون خماسي الأطراف وكان ذلك في عام 1826 . وفي عهد الخديوي إسماعيل قام في عام 1867 بتغيير العلم ليصبح علماً أحمر عليه ثلاثة أهلة بيضاء أمام كل منها نجم أبيض خماسي الأطراف . وفسر بعض المؤرخين دلالة الأهلة الثلاثة بأنها كانت تشير إلى أقاليم الدولة الثلاثة وهي مصر والنوبة والسودان .

وبانتصار البريطانيين على ثورة عرابي عام 1882 واحتلال مصر ، تم العودة إلى استخدام العلم العثماني حيث حرص الإنجليز على إبقاء الصلة القانونية بين مصر والدولة العثمانية . واستمر هذا الوضع حتى نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 وإتخاذ الدولة العثمانية موقفاً معادياً لبريطانيا في الحرب فقامت بريطانيا بإعلان الحماية على مصر وإنهاء الصلة القانونية مع العثمانيين ، فعاد العمل بعلم الخديوي إسماعيل وكان هذا العلم هو الذي رفعه المصريون في مظاهرات ثورة 1919 .

وأفرزت الثورة أعلاماً شعبية أخرى يجمع بينها التحول من اللون الأحمر الذي أرتبط بالتبعية للدولة العثمانية إلى اللون الأخضر إشارة إلى خضرة الوادي والدلتا ، فظهر العلم الذي يتوسطه هلال أبيض داخله صليب أبيض دلالة على وحدة كل المصريين في مواجهة الاحتلال . كما ظهر علم أخر أخضر اللون يتوسطه هلال أبيض داخله نجوم وهو العلم الذي تبنته المملكة المصرية فيما بعد .

فبعد تصريح 28 فبراير 1922 ثم إعلان فؤاد الأول ملكاً على مصر أصدر الملك في 10 ديسمبر 1923 قانون العلم الأهلي الذي حدد علم الدولة المصرية في علم لونه أخضر يتوسطه هلال أمامه ثلاثة نجوم خماسية الأطراف ، وفسر البعض تلك النجوم الثلاثة بأنها تشير إلى أقاليم مصر مثل علم الخديوي إسماعيل أو أنه يشير إلى ديانات الشعب المصري الثلاثة وهي الإسلام والمسيحية واليهودية .

وكان هذا هو العلم الذي رفعته مظاهرات المصريين لمدة ثلاثة عقود من أجل احترام الدستور وجلاء الإنجليز وهو العلم الذي رفعه الرئيس عبد الناصر على مبنى الشركة العالمية لقناة السويس بعد تأميمها في 26 يوليو 1956 وقبلها على مبنى البحرية في يونيو كما أشرت سلفاً ، وهو نفس العلم الذي رفعه في مدينة بور سعيد يوم 23 ديسمبر من نفس العام بعد انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من المدينة بعد العدوان الثلاثي على مصر .
وبقيام ثورة 23 يوليو 1952 بدأت مرحلة جديدة من تطور نظام الحكم ومن تاريخ العلم المصري سواء من حيث اللون أو شكل العلم ولعل القادة الجدد تعمدوا ذلك لإبراز أن الثورة تمثل مرحلة مختلفة وليست استمراراً لما سبقها .. ولكن ذلك حدث بالتدريج .

استمر علم المملكة المصرية رمزاً لمصر رغم إعلان الجمهورية في يونيو 1953 . وإن كانت مصر قد عرفت خلال هذه الفترة علماً أخر وهو علم التحرير أو علم الضباط الأحرار الذي أصبح رمزاً للثورة وكان يتكون من ثلاثة مستطيلات عرضية متساوية الحجم بثلاثة ألوان وهي : الأحمر ويدل على الثورة والتوهج والإشراق ودماء الشهداء ، والأبيض رمز السلام والنقاء والصفاء ، والأسود للإشارة إلى الماضي البغيض الذي سعت الثورة للتخلص منه وتوسط العلم نسراً – نسر صلاح الدين - ناشراً جناحيه وكان هذا العلم يستخدم في المناسبات السياسية الشعبية . استمر هذا الوضع حتى 22 فبراير 1958 عندما إتحدت مصر وسوريا ونشأ كيان سياسي جديد هو الجمهورية العربية المتحدة.

مع قيام الجمهورية العربية المتحدة تم تبنى علم جديد يقارب علم التحرير يتكون من نفس الألوان الثلاثة وهي الأحمر والأبيض والأسود وبنفس الشكل والترتيب ويتوسط الشريحة البيضاء نجمان بلون أخضر يشيران إلى إقليمي الدولة مصر وسوريا . وكان المفهوم أنه كلما انضمت دولة عربية أخرى إلى دولة الوحدة فسوف يتم إضافة نجم جديد ، ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن فلم تنضم دول أخرى إلى الوحدة. وفي سبتمبر 1961 وقع إنقلاب عسكري في سوريا أدى إلى انتهاء الوحدة مع مصر . وبرغم ذلك كان القرار المصري هو الاحتفاظ بإسم الجمهورية العربية المتحدة والإبقاء على علمها وأستمر ذلك حتى وفاة الرئيس عبد الناصر في سبتمبر 1970.

وفي عام 1971 تم إبرام اتفاقية بين مصر وسوريا وليبيا لإنشاء إتحاد الجمهوريات العربية وإتخذ الإتحاد الجديد نفس شكل العلم مع إضافة نجم جديد وتم وضع صقر قريش وكتب إسم الإتحاد على قاعدة الصقر . ولكن مصر لم تأخذ بهذا العلم ولم تستخدمه كعلمها الرسمي وأقتصر الأمر على رفعه على مبنى الحكومة الاتحادية في مصر الجديدة وبعض المباني الرسمية الأخرى . وفي عام 1972 قام الرئيس أنور السادات بتغيير اسم الدولة ليصبح جمهورية مصر العربية ثم قام بعد ذلك بتغيير العلم لتحل علامة صقر قريش بدلاً من النجمين مع الاحتفاظ بنفس الألوان الثلاثة الأحمر والأبيض والأسود وكان هذا هو العلم الذي رفعته قواتنا المسلحة في حرب أكتوبر المجيدة . وفي 4 أكتوبر عام 1984 أصدر الرئيس حسني مبارك قراراً بإعادة علامة نسر صلاح الدين على العلم بدلاً من صقر قريش ويرسم النسر – وهو أقوى الطيور وأكثرها بأساً – بلون ذهبي ينظر ناحية اليسار يعبر عن قوة مصر ونهضتها .

وهكذا ... فإن تطور شكل العلم وألوانه ورموزه تلخص تطور نظام الحكم في مصر من الملكية إلى الجمهورية .. ومن اللون الأحمر إلى اللون الأخضر إلى الألوان الأحمر والأبيض والأسود .. ومن نسر صلاح الدين إلى صقر قريش إلى النسر مرة أخرى . تلك هي ثقافة العلم التي نعتقد في أهميتها لتكريس روح الوطنية والمواطنة بيننا جميعاً .

د . علىّ الدين هلال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى