

حي بين وجهين
لم يكن في الحسبان أن يخرج الحيُّ الصغير عن هدوئه المتآكل، وأن تتحوّل أزقته الضيّقة إلى ساحةٍ تتقاطع فيها ظلال الطيب أو ربما نقيضه. الأزقّة التي طالما كانت مجرّد ممرّات لغبار الأقدام، انكشفت فجأة كأنها شبكة أعصاب مشدودة، كل خيطٍ فيها ينقل همساً أو شبهةً أو نزاعاً صغيراً سرعان ما يتضخّم.
الحي لم يكن سوى جدرانٍ رطبة، وأبوابٍ تعرف طرقات ساكنيها أكثر مما يعرفون أنفسهم. لكن في كل مساء، مع انطفاء المدينة شمعةً وراء شمعة، كانت الحكايات تتناثر وتتكاثر:
– «سلمان مرّ على بيت الأرملة، ترك لها كيس طحين وأصرّ أن لا يعرف أحد.»
– «لا، رأيته يوزّع الأقلام على الصغار، ثم مضى كأنه لا يريد حمداً ولا شكوراً.»
وفي الزاوية الأخرى:
– «عادل قال إنّ المعرفة لا تُشترى، وإنّ تلك الأقلام تُفسد عقول الأطفال.»
– «الخير إذا لم يُمحَّص يفسد، مثل تفاعلٍ كيميائي خاطئ.»
شيئاً فشيئاً، صار الناس خندقين. أسماء سلمان وعادل لم تعد تُقال بهدوء، بل تُصرخ في الأزقّة والبيوت.
في المسجد، ألقى الشيخ سلام موعظةً غامضة عن العطاء والامتحان. لكنّ عيون المصلّين انقسمت بين الصفّ الأوّل حيث جلس سلمان، والزوايا حيث يقف عادل يراقب ببرود.
في السوق، لم تعد أم وليد تشتري البطاطس دون أن تهمس باسم سلمان، ولم تعد جارتها تفتخر بنجاح ابنها في الكيمياء دون أن ترفع اسم عادل.
حتى الأطفال انقسموا: فريق يرسم اسمه على الجدران بالطباشير «سلمان»، وآخر يردّ فوقه بكتابة «عادل». كأنّ الحي صار ساحة معركةٍ غير مرئية.
ثم جاء الاكتشاف: ورقة غامضة وُجدت بين أدوات سلمان، مكتوب فيها أسماء وأرقام.
– «دفتر ديون»، قال عادل بابتسامة ساخرة.
– «بل هي ديون سددها عن غيره»، ردّت أم فالح.
وهكذا تضاعف الانقسام.
ومع حادثة اختفاء الطفل، تصاعد التوتّر. كان الطفل «مروان» آخر من شوهد يلعب بالطباشير قرب جدارٍ يحمل اسمَي الرجلين. في الليل، لم يعد إلى بيته. بحثت أمه عند أبواب الجيران، وجابت الأزقّة تصرخ باسمه، لكن الجواب كان صمتاً أثقل من الليل.
بعضهم صرخ أن سلمان يعرف أكثر مما يقول: «لقد رآه آخر مرّة.»
وآخرون اتّهموا عادل بأنّ بروده يخفي شيئاً: «هو الذي شجّع الصغار على التمرّد.»
غير أنّ الحقيقة ظهرت فجأة: الفتى اختبأ بنفسه في غرفةٍ مهجورة عند طرف الحي. كان يخاف أن يُعاقَب لأنه كتب على الجدار كلمة «سلمان» ثم محاها ليكتب فوقها «عادل». اعتقد أنّ خصومة الرجلين ستجعله هدفاً للَّوم من كلا الطرفين. نام بين الأتربة والخشب المكسور، حتى عُثر عليه فجراً.
عاد الطفل، لكن الغموض لم ينطفئ، بل أشعله. إذ صار كل فريق يفسّر الحادثة بطريقته:
– «لو كان سلمان حاضراً لما خاف الصغير.»
– «بل لو لم يُضلّل عادل الأطفال بفلسفته لما هرب.»
ولم يطل الانتظار حتى انفجر كل شيء…
في إحدى ليالي الصيف الثقيلة، اجتمع الناس في ساحة الحي الصغيرة. البداية كانت بكلمةٍ من رجلٍ غاضب:
– «سلمان يشتري الناس بماله!»
فقابله آخر:
– «وعادل يشتري عقولهم بتشكيكه!»
الكلمات تحوّلت إلى صيحات، والصيحات إلى سباب، ثم دفعة واحدة، ارتفعت الأيدي. رُمي حجرٌ على الجدار فتهشّم زجاج نافذة. صرخت امرأة. اندفع شاب نحو آخر ولكمه. خلال دقائق، صار الحي كلّه دوّامةً من العراك: رجال يتقاتلون بالأيدي والعصي، نساء يصرخن ويشدّدن الأطفال بعيداً، حجارة تتطاير، دماء تسيل من جبهة شاب، رائحة غبار تختلط بعرقٍ محموم.
في قلب الفوضى، وقف سلمان يحاول التفريق بين المتعاركين، لكنّ أحدهم صرخ في وجهه: «أنت السبب!» ودُفع بقوّة حتى ارتطم بالحائط. وفي الجهة المقابلة، حاول عادل أن يعلو صوته فوق الضجيج: «العقل… التوازن!» لكنّ أحد الشبان قذفه بعلبةٍ فارغة وهو يهتف: «عقلك قتل الحي!»
وامتدّت الفوضى حتى منتصف الليل، ولم تُطفأ إلا حين تدخّل رجال الشرطة على أصوات صفّاراتهم. انسحب الجميع إلى بيوتهم مثقّلين بالكدمات والشكوك، لكن النار لم تنطفئ في القلوب.
في اليوم التالي، بدا الحي كمن خرج من حربٍ صغيرة: أبواب مكسورة، جدران مخدوشة، وجوه متورّمة. لم يعد أحد يسأل من هو الطيّب ومن هو الشرير؛ السؤال صار أعمق: من الذي حوّل الحي إلى مرآةٍ مشروخة لا يرى أحد فيها إلا صورته المتصدّعة؟
ورغم ذلك، وسط الخراب والوجوه المتعبة، بدأت بعض الهمسات تخرج خجولة، تقول:
– «ربما أخطأنا حين جعلنا الحي ساحةً لرجلين.»
– «الحي أكبر من سلمان وعادل.»
كانت أصواتاً قليلة، باهتة، لكنها بدت كظلّ موقفٍ ثالث يولد ببطء، يبحث عن توازنٍ لا يصنعه بطل ولا يهدمه خصم.
وسلمان، بوجهٍ متعب، مضى كعادته يوزّع ابتسامةً صامتة.
وعادل، ببرودٍ أشدّ، دخل صفّه ليشرح درساً جديداً.
لكنّ الحي كلّه صار ينظر إلى نفسه هذه المرّة، لا إلى الرجلين، كأنّ ظلاله أخيراً بدأت تُرى.