

حُلمٌ بذي فجر
حديث القلب والحب
أحب أم لا أحب؟ ماذا يعني هذا؟"
ربما لا يهم في زمن مزدان بالعتمة، يصنع فيه ظلام الليل نورًا خافتًا خفيًا لا يكفي – إن عثرنا عليه – لرؤية من نحب؛ أو لنُحبهم إن رأيناهم.
ولربما أيضًا ليست المسألة تحديد الحالة التي يعيشها القلب…
هل ينبض؟
هل يقرأ؟
هل يكتب؟
هل يتدفق فيه الدم عشقًا… أم غيظًا… أو غضبًا؟
ليس بالأهمية الكبرى أن نعرف ما الذي يعنيه كل هذا… أو هل يعني هذا شيئًا أصلًا؟ برغم أهمية الحب في ذاته. ولا يقتصر على حب رجل لامرأة؛ لأنه اختزال بسيط لمعنى أكبر، رغم أنه نموذج راقٍ يمكن أن يُطرح".
العائد – بيت لا يموت
لم يكن أحدٌ ينتظر عودته
لا هو، ولا المدينة.
الرجل الذي غاب طويلًا حتى انقطعت أخباره، عاد ذات صباح كما لو أنّ شيئًا في الذاكرة استيقظ فجأة، أو كأنّ حلمًا قديمًا فيه قرر أن يتمشّى في شوارعٍ مدينة لم تنسَ ملامحه.
عاد ليس كعابرٍ في ذاكرة مدينةٍ حفظها عن ظهر قلب، وحفظته، أحبّها وأحبّته.
عاد كمن نذر نفسه لمهمّة لا يعرف إن كُلِّف بها اصلا، لكنه قرر أن يحملها على كتفيه.
جاء بلا حاجة إلى امتطاء صهوة جواد يركض به على حافة سفح جبلي كما لو كان يحمل بريد خليفة يعرف طريقه جيدا ولا يحيد عنه.
أي وسيلة نقل حديثة كانت تكفي، ما دامت ستبلّغه غايته.
عاد ....
وفي ملامحه، لم يكن التعب ظاهرًا، رغم أنه تعب سرمدي سكت عنه كي لا يشرفه بالحديث عنه، فهو لا يتحدث الا عن كل أمر ينفع ويخدم، ويعتبر الحديث عن التوافه مضيعة للوقت وإنهاك وفوقها سقوط منه في فخ من يراهم في الحضيض، وبذا يكون قد أسهم في تعطيل نفسه عن عظائم رامها.
عاد وعينيه كانتا تحملان كل ما لم يُقل ولن يقوله.
كان يرتدي بزّة المحارب، لم تتزين برتبةٍ على كتفيه، كأنّه تحرّر من خداعٍ أزليٍّ لم يكن يومًا من موروثنا، وحرّر غيره معه، ليتلمّسوا طريقهم معًا نحو بداياتٍ شاقّة، تهون قساوتها من أجل من يحبّ ويعشق.
دخل بيته القديم كما لو أن كل شيء فيه ينتظره.
نظر إلى الجدران. كانت كما تركها.
الصور نفسها، المواقع ذاتها، التفاصيل لم تتغير.
لكن شيئًا ما في قلبه تغيّر.
خلع حذاءه بهدوء، كأنه في الوادي المقدّس.
بدّل ثياب السفر بثياب أخرى تليق بالمقام.
قال دون أن ينظر إلى أحد:
"لا يليق بي أن أبدو أعلى في حضرة من تعلّم النُّبل قبل أن يُعلّمه لنا، هأنذا بلا رتب او القاب."
ثم مضى إلى الداخل.
هناك، في الغرفة التي كان فيها والده، وجد وجهًا لطالما افتقده، وإن لم يعترف لنفسه بالحنين.
الرجل الذي قيل إنه مات، كان جالسًا كما لو أنه لم يغادر المكان يومًا.
يبتسم، ابتسامة من يعرف سرًّا أو علما او لربما صنعة لا يشاركه فيه أحد.
قال بصوته الهادئ، وهو ينظر إليه:
– ما الذي أعادك بعد كل هذا الغياب؟ كدنا ننسى ملامحك.
فأجاب ببساطة:
– ربما المدينة... أو الحلم.
أو أنني تعبت من الهروب.
ضحك العجوز، وقال:
– المدينة لا تعود إلا لمن أعادها أولًا إلى قلبه، ومع ها الزمن لا يعود.
هي حلم، لا يُرى بعين التائه.
لكنك، على ما أظن، لم تختر أن تكون منهم.
في زاوية الغرفة، جلس رجلان.
أحدهما يشبه الأب، والآخر وجهه كمرآة قديمة مغطاة بالندى، حفرتها السنون حتى كادت تنسى ما تعكسه.
كان ابن عمّه العقيد… نعم، كان عقيدًا فعلاً، لكن المرض أثقل عليه.
والعمر لم يكن رحيمًا.
وفي لحظة غريبة، كأنّ الزمن اعتذر، ظهر وكأنه شاب صغير، بهيبته القديمة، كما لو أنّ آلة خفية أعادته للحظة قصيرة…
فقط ليُرى كما أحبّ أن يتذكره الجميع.
لا شيء يدوم.
الحياة تنقلب فجأة.
لكنّ القلب حين يحنّ… يتذكّر.
والحوار في تلك اللحظة لم يحتج إلى كلمات.
القلوب كانت تتحدّث:
نبضًا، حبًا، وحنينًا.
حديث العودة والبناء
سأل الأب، وبدا أن السنين لم تُثقل صوته:
– تبدو بروح الشباب. كيف هي أحلامك الآن؟
أجابه بهدوء:
في البداية، خُدعتُ بالمكاسب.
ظننتُ أنني إن أخذتُ أكثر، أملك أكثر.
لكنّي اكتشفت أن ما كنتُ أريد بناءه لا توجد مواد أولية له في الاسواق.
أشياء لا تُباع… ولا تُشترى"."
أعطوني، ثم زادوا بالتدريج، فقلت: كل هذا قليل.
رفعوا "القيمة" او "السعر" بشكل بدى مغري، وشجّعني أحدهم على القبول، فقلت:
ما طلبتُه دوما ليس كثيرًا، لكني لا أجده معروضا للبيع، غيري يبيع كل يوم وكل ساعة بل ويسخر من "حنبليتي" ومستعد ان يبيع امرأته لو وجد لها مشتر.
امامي مدينة تنتظر أن تُرمَّم.
لا بالإسمنت، ولا بالطوب، بل بالعدل، والعِلم، والخُلُق.
قبل أن يأتيني العرض، كان هناك حرمانٌ مقصود، وإهمالٌ متعمّد.
تجاهلتهم ومشيت.
كنتُ أستطيع أن أُعمّر هناك، وفعلاً ساهمتُ قليلًا،
لكن إعمار رصيفٍ هنا… أولى.
أريد أن أُعيد للبيوت معنى الأمان والجوار والمحبة،
وللشوارع طعم الانتماء،
وللناس حق الحُلم دون تكبد أي ثمنٍ.
أما من سقط في الطريق… فلن ألتفت له وسأمضي متقدما.
الطريق طويل، يُتعب بعضهم،
ويُغري بعضهم،
ويُنسِي بعضهم من كانوا… وما أرادوا أن يكونوا.
بعضهم صار يعيش دون حلم، دون أمل، المعيشة المادية المجردة على أهميتها سيجد الانسان نفسه في النهاية انه كان يطارد سرابا!
سوى أن يأكل، ويشرب، ويجد من يأتيه آخر الليل.
وهي أحلام مشروعة،
لكنّ ثمنها إذا غلى كثيرا مما يتصور الناس، وجب الحذر والترقب والتوقف عن الركض خلف شهوات.
شرف الإنسان… كزجاجةٍ إن كُسِرت،
لا تُرمَّم،
ولا يُعاد إليها ما فاض منها.
بعضهم خدعته الدنيا.
وبعضهم خدع نفسه.
وما يزال يطوّقها بالوهم،
وهو يعلم أنه نام على ضميرٍ لم يكن يومًا حيًّا… ليوقظه.
المشكلة الأكبر أنه يعيش بداخل بالونة من حلم وينسى ان حياتنا أطول حلم في الحياة نفسها بسلبياته وايجابياته.
لا عيب أن يحلم الانسان، لكن العيب أن يدرك أنه عاش طيلة حياته في حلم ويطارد الاحلام السيئة او الكوابيس او لعلها من تطارده.
المشكلة الأخرى أن هذا السين من الخلق فرح جدا بما ظن انه كسب، وظن ان هذا مخلد وسيخلده، ورأى كل مخالف، لا ليس مخالف وحسب بل مختلف انه لا يفهم "شايل السلم بالعرض".
ضحك أحد الحاضرين وقال، بنصف سخرية:
ومن يعطيك كلّ هذا؟
فقال ببساطة:
من لم يَعُد ينتظر العطاء،
بل صار هو العطاء نفسه.
البيت الذي لا يموت
في المساء، هدأت الرياح.
جلس الجميع على مائدة بسيطة، كما لو أن دنياهم عادت إلى نقطة البداية.
قال الأب، بصوته الذي لم يغيّره الموت:
– نأكل كما كنّا.
لا فرق بين ابنٍ وابن أخ وابن عم، وصديق أو جارٍ ولو جارَ، أكان ذا قربى او جنب!
من تقاسموا الخبز في الطفولة… لا تفرّقهم تقلبات الحياة.
صبّ أحدهم الشاي بهدوء،
وفي لحظة بدا فيها الزمن ساكنًا،
تكلّم العقيد، المريض الصامت، الذي ظلّ حتى الآن كظلّ لجسد:
– الحياة… ليست ما عشناه،
بل ما نتركه حين نرحل.
ثم عاد لصمته من جديد.
كأنّ الجملة أثقلت روحه،
أو كأنّ الصمت خُيِّر ليكون هو الخاتمة.
نظر الأب في وجوههم، وقال:
– كم من بيتٍ مات، لأنّ أهله ظنّوا الحياة في الجدران، لا في المحبة.
وكم من وطنٍ انطفأ، لأنّ من عاد إليه… عاد غريبًا.
أما هو، الرجل العائد، فلم يجب.
نظر إلى يديه:
تلك التي أمسكت بكل الاشياء،
ورفعت الحجارة،
وكتبت على الورق.
وحين تعبت يمناه، حلت محلها اليسرى
وقال في سرّه:
– كل بناء جديد بدأ بفكرة،
أضاءَ قليلاً، ثم عاش في ضمير من نُحب.
وفي آخر الليل، حين خفتت الأصوات وتراجع الصدى،
وقف أمام المرآة القديمة ذاتها،
المغطاة بما يشبه الصدأ.
لم يكن ينظر لوجهه،
بل يبحث عن وطنٍ في الملامح.
قال همسًا:
– كلما اقتربتُ من الوصول، وجدتني أبحث عن أبي.
وكلما نلتُ رتبة، خلعتُها أمام من يستحقّ.
ثم ابتسم، كمن فهم الدرس أخيرًا.
وغفا، في بيتٍ لا يموت…
ما دام فيه الحبّ يُؤكل كما يُؤكل الخبز.
قصيدة ملحقة
نداءٌ ... من زمن الأنبياء!
عادَ الضَّميرُ لِماضيهِ ’البَصيرِ’ فأبصَرا
قَشَعَ الدُّجى، فتَجَلّى الصُّبحُ مُنتَصِرا
أوقدَ في الأرواحِ نارًا لو خَبَتْ
ما عادَ رُكنٌ لِلقيامِ ولا شَعائِرُ تُجهَرا
ما بعدَ جذوةِ نيرانٍ وهفوتِها،
أشرقتْ رؤيةٌ، وأينع الفكرُ
ناموا على أمنٍ بفيءِ ديارِهمْ
وَهَبُّوا لإرساءِ دَّعائِمِ ومنابرا
ما كُلُّ مَن شادَ البناءَ بِمُلهمٍ
ولا مَن عَلّى صُروحًا تُبصِرُ القُرى
ليستْ دِيارُ العِزِّ تُبنَى بالحَجَرْ
يُعَمِّرُها الرِّجالُ، الحُرُّ إنْ ظَفَرا
كَمْ مِن دِيارٍ شامِخاتٍ شُيِّدَتْ
وأَصحابُها يَسقُونَ ماءَ الذُّلِّ مُكدَّرا
بِئْسُ بُنْيَانُ العَبِيدِ وَإِنْ عَلَا
فَالْعَبْدُ أَسِيرٌ وَلَوْ بَدَا مُحَرِّرا
لن تَبلُغَ المجدَ أَشباحٌ هامِدَةٌ،
لكنْ أُباةُ الضَّيمِ مَن خَطُّوا لهُ السُّفُرا
كَريمُ الطِّباعِ، لا يَرْنُو لِمَكرُمَةٍ
جَزاءَ فَضلٍ، بِهِ الأسلافُ قد فَخَرا
قَرَوا أضيافَ السِّنينَ طَعامَهُم،
فَزَكا القَليلُ، وبِالكِرامِ تَكَثَّرا
لَم تُغلِقِ الأيّامُ بابَ أَكارِمٍ،
كأنَّ مآثِرَهمْ غَدَتْ لِلمُقتَفي أَثَرا
يَشُعُّ في ظُلُماتِ اللَّيلِ مَنارُهُمُ،
لا تُطفِئُ العَتَماتُ نَجمًا نَيِّرا
هُم مَن إذا سَقَطَ الزَّمانُ تَقَدَّموا،
صُنّاعَ فَجرٍ لا يُطيقُ تَأخُّرا
فَعالُهُمُ في النّائِباتِ تَصَبُّرٌ،
وعِندَ المَغانِمِ ما باعُوا مَنِ اشترى
فشَدُّوا مِنَ النّاسِ أَفئِدَةً إِلَيْهِمُ،
ورَبِحوا قُطوفًا دانِيَةً ومُثمِرا
والمَرءُ، إنْ وَطَنَ القُلوبَ بِفِعلِهِ،
أَغْناهُ ذِكرُ النّاسِ عنْ أنْ يُشكَرا