ديجـــــا فو
(1)
الساعة تدنو من الثالثة قبيل العصر: قيظ.. عرق غزير.. زحام.. ضوضاء.. أنا أمقت الحر الشديد.. أمقت العرق.. أمقت الزحام.. أمقت الضوضاء.. فما ظنك حين يجتمع الأربعة معًا؟
داخل الميكروباص كان الجو ألطف قليلاً رغم ازدحامه بالركاب، لكن الهواء المندفع عبر النوافذ ذات الزجاج المهشم كان له وقع لطيف، بمجرد نزولي من الميكروباص استقبلت القيظ، وعدت أتصبب عرقًا بغزارة، إنها الأملاح الزائدة التي لا أحاول التداوي منها إلا حين تصل إلى درجة احتباس البول، ثم أقلع عن العلاج عند زوال هذا الاحتباس، كففت عن ارتداء الثياب البيضاء لأنها تحتاج إلى غسيل يومي للتخلص من هذا العرق، وما يجلبه من بقع داكنة بفعل اختلاط الماء والتراب والملح، لكن الثياب ذات الألوان الغامقة تجلب المزيد من الحر والعرق، خياران أحلاهما مر: ثياب بيضاء وحر أقل، لكن مع غسل تلك الثياب بمعدل يومي، أو ثياب غامقة وحر أشد، لكن مع مرات غسيل أقل! اضطررت إلى الخيار الثاني، لأن الأول يضمن بلاء الثياب بشكل أسرع، مما يكلفني شراء غيرها على فترات متقاربة!
أطالع الجسر العلوي فوق شريط القطار، كالعادة السلم الكهربائي معطل، سأضطر للصعود على قدميّ، لأعبر الجسر من الناحية الأخرى، حيث يستقبلني الزحام والضوضاء، في ذلك الطريق الضيق الذي تآكل اتساعه بفعل الباعة الجائلين، وبضائع المتاجر المفترشة بالخارج، مع تكدس الدراجات البخارية و"التكاتك" والسيارات، وسيل عرم من المشاة من كل الأصناف، رجال – نساء – أطفال – شباب – شيوخ – عجائز..
إن محاولة السير حتى الوصول إلى البناية التي أقطنها دون الارتطام بأحد وهم كبير، أجهز العبارة التي لا أفتأ أرددها باستمرار سواء كنت أنا المخطئ في الاصطدام أم صاحب الحق: "لا مؤاخذة يا ....." ويتباين المنادى بتباين نوعية الطرف الآخر: "يا سيد – يا آنسة – يا مدام – يا كابتن – يا حاج – يا حاجّة ......" إلى آخر هذه الألقاب!
ضوضاء تخترق الأذن بعنف، بحدة، بقسوة، لماذا يصر أصحاب المتاجر على تشغيل الأغاني ورفع صوتها لأعلى مدى؟ ولماذا يصر سائقو السيارات والدراجات والتكاتك على إصدار أصوات النفير بهذا الشكل المفرط، بالإضافة إلى الأغاني الصاخبة؟ لسبب ما يصر أصحاب المتاجر والسائقون على إرغام المارة جميعًا على الاستماع لتلك الأغاني الصاخبة معهم، ولا يكتفون بالاستماع إليها وحدهم!!
أضع الجريدة فوق رأسي لأتقي الشمس الغاضبة المحتقنة دون سبب، وأسد إحدى الأذنين بأصبعي لأتقي جزءًا من الضوضاء والصخب، وفمي يردد دون توقف: "لا مؤاخذة يا .....!"، وفجأة ..! ينعق ذلك النفير من خلفي، لأكتشف أني – من حيث لا أدري – أعترض طريق أحد التكاتك، وحين أبادر بالانحياز عن الطريق أصطدم بذلك العابر الأصلع المكتنز، الذي يمسك في يده – لسبب ما غير مفهوم – بزجاجة عصير مانجو مفتوحة، ليندلق جزء منها على قميصي، وأشعر ببرودتها على جسدي تحت الثياب، وحين أجفل من الحدث الجديد أجد حذائي قد داس – دون قصد – على قدم أحدهم، لأفاجأ بقبضتين قويتين تدفعانني بخشونة، مع صوت أجش غاضب يقول لي في حدة ومقت:-
– "انتبه يا أعمى القلب والنظر!"
وحين أرفع رأسي إلى صاحب الصوت والقبضتين أجد ذلك الكهل النحيل، ذي الشعر الذي شاب أكثره، وتسللت التجاعيد إلى وجهه الغاضب المحتقن، ينظر إلىّ بمقت شديد من خلال عينين ضيقتين، أتعجب من تلك القوة التي يملكها رغم نحوله وهيئته الواهنة، أنا أكثر شبابًا وصحة منه، ومع ذلك لا أملك تلك القوة، لكني لا أجد سوى عبارة: "لا مؤاخذة يا سيد" سبيلاً لتجاوز هذا الموقف المهين!
أريد أن أعود إلى بيتي بأي ثمن، لأغتسل من هذا العرق المقزز، وأغسل بقعة العصير عن قميصي قبل أن تلتصق به وتتيبس، ثم يصعب إزالتها دون أثر، ثم أشعل المكيف وأتمدد على السرير غير المرتب، وأنام حتى المساء! عبارة: "لا مؤاخذة" تؤمّن لي تجاوز أي موقف، لكنها لا تؤمّن لي تجنب الوقوع في تلك المواقف من الابتداء! أريد أن أعود إلى بيتي بأسرع وقت... بأسرع وقت!
– "ماذا تعمل سيد (علاء)؟ أعني ما مهنتك؟"
– "مدققًا لغويًا بإحدى الصحف!"
– "ماذا؟!"
– "مدققًا لغويًا.. أقرأ ما يكتبه المحررون من سخافات، وأحاول إصلاح تلك الجرائم التي يرتكبونها في حق اللغة العربية، لا تتخيل إلى أي درجة وصل جهل هؤلاء القوم بالنحو والصرف والبلاغة وكل علوم اللغة.. لكنهم في النهاية يحملون لقب (صحافيين)، و(إعلاميين)، وهم أجهل من الدواب بلغتهم الأم، فضلًا عن العلوم والمعارف الأخرى!"
– "لماذا لم تعمل صحافيًا أنت الآخر ما دمت تلك المعرفة؟!"
– "لأني أفتقد للحظ والطموح.. وأهم شيء: الواسطة!"
– "هل تربح جيدًا من هذا العمل؟"
– "ما يكفي لتناول وجبات سريعة في الإفطار والغداء والعشاء + وجبتين أو ثلاثة شهريًا بمطاعم نصف فاخرة، ودفع إيجار الشقة، وفواتير الماء والكهرباء والغاز، وثمن أكواب الشاي على المقاهي، وشراء بعض الكتب على فترات متباعدة، والكشف عند الطبيب عند الحاجة، وتعاطي بعض الأدوية الخفيفة، وشراء بعض الثياب والغيارات الداخلية كل عدة أشهر، ليس أكثر من ذلك!"
– "لماذا لا تبحث عن عمل آخر أكثر عائدًا؟"
– "لأني لا أصلح لشيء آخر!"
– "لم تقول هذا؟ "
– "قصدت أني لا أطمح في المزيد.. قانع بما أنا عليه"
– "أليس لك أسرة؟"
– "تزوجت ذات مرة، لكنها لم تحتمل الحياة معي سوى أقل من عامين، ورحلت بطفلتي الوليدة، التي لم أعد أذكر شيئًا من ملامحها، لتتزوج بآخر وترحل معه إلى حيث لا أدري، ولا أهتم بأن أدري!"
– "إذن تعيش بمفردك؟ هل تتحمل هذه الحياة؟"
– "وهل توجد حياة أخرى؟!"
(2)
العتبة، شارع (كلوت بك).. ليس في هذا المقهى أي شيء مميز سوى أنه قريب من سور الأزبكية، حيث سوق الكتب القديم، الذي فقد زخمه وما كان له من قيمة وعبق.. وسوى أن الشارع الذي يطل عليه المقهى أقل صخبًا من شوارع القاهرة الأخرى، وسوى أن أكواب الشاي أكبر سعة مما بالمقاهي الأخرى..
أجلس وأضع الجريدة – التي أحملها بحكم العادة ولا أقرأها – على الطاولة الصغيرة، وأشرب الشاي ببطء، ويمر الوقت في تأمل الناس والسيارات والشرود، والاستماع إلى التلفاز دون النظر إليه.. لحسن الحظ لا توجد مباريات كرة هذا المساء، وبالتالي لن أكون مرغمًا على التسكع في الشوارع لأني لا أحتمل ضجيج المتجمهرين بالمقاهي، وهم يهللون كل دقيقتين صياحًا أو سبابًا مع كل لعبة!
سأجلس قرابة ساعتين، أتأمل الناس والسيارات، وأشرب كوبي الشاي، حتى يصل بي الضجر إلى منتهاه، ثم أقوم وأحاسب على الشاي، وأتجه رأسًا إلى سوق الكتب، أطالع العناوين والأغلفة بحثًا عن كتاب لم أقرأه من قبل، ويكون عنوانه لافتًا ومثيرًا..
أنحني لأطالع العناوين عن قرب، أحتاج بالفعل إلى تفصيل نظارة طبية، أقول هذا لنفسي منذ أشهر دون أن أتخذ خطوة عملية، (إنهم يعودون ليلًا).. (ستيفن كينج).. لا.. لا أحب قصص الرعب، مؤلفات (ستيفن كينج) تصلح للسينما أكثر من الأدب الروائي.. ثمة رواية أخرى. أنحني مجددًا: (كريستين)، أيضًا لـ (ستيفن كينج)!! ألا يوجد روايات لغير هذا الرجل هنا؟ لأبحث في مصفوفة كتب أخرى.. ممم لا شيء جديد! أعتقد أني قرأت كل شيء ها هنا!!
– "تقرأ كثيرًا !!"
– "القراءة بالنسبة لي نوع من المخدرات الرخيصة، أنا أقرأ لأغيب عن الوعي، في السابق – تصور – كانوا يقرءون من أجل اكتساب الوعي!!"
أين قرأت هذا الكلام؟ مممم لا أذكر! واثق من أني قرأته قريبًا، يضايقني أني لا أذكر أين ولا متى، لكن المقولة تعبر عني جيدًا.. أنا لا أدخن، ولا أتعاطى مخدرًا ما، ولا أستمع إلى أغانٍ، ولا أتابع أفلامًا ولا مسلسلات ولا برامج، ولا أحب الكرة، ولا أرتاد بيوت الدعارة، وليس لي أصدقاء من أي نوع! ماذا تبقى لي لأتحمل الحياة سوى العمل والقراءة؟ لكني بحاجة ماسة إلى نظارة طبية..
(كيف تتعامل مع الناس؟) من مؤلف هذا؟ (ديل كارنيجي)! لا أحب التعامل مع الناس مطلقًا، أنا غريب في كوكب غريب عني، لن أحاول حتى قراءته.. (قواعد السطوة) لـ (روبرت جرين).. هذا العنوان يبدو مثيرًا لي.. (قواعد السطوة)! ربما هذا ما ينقصني: السطوة.. هل للسطوة قواعد؟ أظن أن السطوة هي القدرة على تحدي أية قواعد! لكن العنوان يبدو مثيرًا، سأشتري هذا، وأتسلى بقراءته حتى أغيب في النوم والكتاب يغطي وجهي! لن أركب المترو، فسوف أحتاج إلى مواصلة أخرى بعد النزول حتى أصل إلى الحي الذي أقطنه، سأنتظر الأتوبيس، لن يكلفني سوى السير لمسافة أطول بعض الشيء، لكن ماذا يضيرني من السير؟
الساعة تدنو من الحادية عشرة، لقد اقترب منتصف الليل، لكننا بالصيف، ليس منتصف الليل بالوقت البعيد المخيف، القاهرة المدينة الساهرة صيفًا وشتاء، لكنها في الصيف أكثر يقظة وصخبًا.. ما زال الزحام على أشده رغم تأخر الوقت، الأتوبيس مزدحم، سأضطر للوقوف حتى يسعفني الحظ براكب قريب يصل إلى محطته، فأهرع لأتخذ مكانه قبل أن سبقني إليه راكب آخر، لن ادع أحدًا يسبقني إلى مقعد شاغر قريب، حتى لو كان امرأة، وضميري لن يؤنبني، أعرف كيف أسكت ضميري: إنها امرأة، ما الذي يدفعها للبقاء خارج الدار كل هذا الوقت؟ هي غير ملتزمة، والوقوف في الحافلة أهون عقاب لها! هذا المنطق سيسكت ضميري حتى أصل، وحين أصل سأكون قد نسيت كل شيء عن الأمر، وبالتالي لن يصحو ضميري ليؤنبني!
الحرارة أقل وطأة من النهار، فلا توجد شمس غضبى محتقنة، تنفث غضبها علي رؤوسنا، لكن الجو حار رغم ذلك، الضجيج بالليل أشد منه بالنهار، كأن انخفاض الحرارة يعوضه ارتفاع الضجيج، العرق أقل، لكن الزحام كما هو.. كتل متلاطمة من اللحم البشري المتنوع، رجال – نساء – أطفال – شيوخ – عجائز..
آه إنها (يوتوبيا).. (أحمد خالد توفيق)، تذكرت الآن أين قرأت العبارة، هذا مفرح جدًا، أغتاظ جدا حين أنسى شيئًا أحتاج لتذكره، أعيد ترديدها مرة أخرى بيني وبين نفسي، مع ترديد الموضوع الذي قرأتها فيه:-
– "تقرأ كثيرًا !!"
– "القراءة بالنسبة لي نوع من المخدرات الرخيصة، أنا أقرأ لأغيب عن الوعي، في السابق – تصور – كانوا يقرءون من أجل اكتساب الوعي!!"
(يوتوبيا).. (أحمد خالد توفيق).. أعيد ترديدها مرارًا لأثبتها بذهني فلا أنساها مجددًا.. الجو أقل حرارة، لكنه أكثر ضجيجًا وصخبًا، العرق أقل لزوجة، لكن الزحام لم يزل على أشده، أسير حتى أصل إلى الجسر المعلق فوق شريط القطار، كالعادة السلم الكهربائي معطل، سأضطر للصعود على قدميّ، لأعبر الجسر من الناحية الأخرى، حيث يستقبلني الزحام والضوضاء، في ذلك الطريق الضيق الذي تآكل اتساعه بفعل الباعة الجائلين، وبضائع المتاجر المفترشة بالخارج، مع تكدس الدراجات البخارية و"التكاتك" والسيارات، وسيل عرم من المشاة من كل الأصناف..
إن محاولة السير حتى الوصول إلى البناية التي أقطن بها دون الارتطام بأحد وهم كبير، أجهز العبارة التي لا أفتأ أرددها باستمرار سواء كنت أنا المخطئ في الاصطدام أم صاحب الحق: "لا مؤاخذة يا ......" ويتباين المنادى بتباين نوعية الطرف الآخر: "يا سيد – يا آنسة – يا مدام – يا كابتن – يا حاج – يا حاجّة ....." إلى آخر هذه الألقاب!
ضوضاء تخترق الأذن بعنف، بحدة، بقسوة، لسبب ما يصر أصحاب المتاجر والسائقون على إرغام المارة جميعًا على الاستماع لتلك الأغاني الصاخبة معهم، ولا يكتفون بالاستماع إليها وحدهم!!
أضع الكتاب الذي اشتريته منذ أقل من ساعة فوق أذني لأتقي جزءًا من الضوضاء والصخب، وفمي يردد دون توقف: "لا مؤاخذة يا .......!".. وفجأة ..! ينعق ذلك النفير من خلفي، لأكتشف أني – من حيث لا أدري – أعترض طريق أحد التكاتك، وحين أبادر بالانحياز عن الطريق أصطدم بذلك العابر الأصلع المكتنز، الذي يمسك في يده – لسبب ما غير مفهوم – بزجاجة عصير مانجو مفتوحة، ليندلق جزء منها على قميصي، وأشعر ببرودتها على جسدي تحت الثياب، وحين أجفل من الحدث الجديد أجد حذائي قد داس – دون قصد – على قدم أحدهم، لأفاجأ بقبضتين قويتين تدفعانني بخشونة، مع صوت أجش غاضب يقول لي في حدة ومقت:-
– "انتبه يا أعمى القلب والنظر!"
وحين أرفع رأسي إلى صاحب الصوت والقبضتين أتبين على الأضواء المنبعثة من واجهات المتاجر ذلك الكهل النحيل، ذي الشعر الذي شاب أكثره، وتسللت التجاعيد إلى وجهه الغاضب المحتقن، ينظر إلىّ بمقت شديد من خلال عينين ضيقتين، أتعجب من تلك القوة التي يملكها رغم نحوله وهيئته الواهنة، أنا أكثر شبابًا وصحة منه، ومع ذلك لا أملك تلك القوة، لكني لا أجد سوى عبارة: "لا مؤاخذة يا سيد" سبيلاً لتجاوز هذا الموقف المهين!
– "هل سمعت عن شيء اسمه (ديجا فو)؟!"
(3)
لا أعرف عمله بالضبط.. لكنه موجود هنا منذ افتتاح الجريدة قبل خمسة عشر عامًا!
في السابق كانت مهمته تحميض الصور التي يلتقطها المصورون، يدخل تلك الحجرة الضيقة المظلمة هناك، وعلى الضوء الأحمر الباهت يقوم بعمله وهو يدندن أغنية ما لـ (عبد الوهاب) أو (أم كلثوم)، ويخرج بعد ساعة أو أكثر وهو يتصبب عرقًا، ويتحدث عن العمل الجبار الذي يقوم به، وعن لمساته الفنية – التي أدري ما دخلها في عملية تحميض الصور الفوتوغرافية
– التي تجعل الصور تخرج بهذه الروعة، ويقول في فخر:-
– "الصورة تمثل ثلاثة أرباع الخبر.. ضع صورة مناسبة لخبر تافه سيكون له قبول كبير عند القراء، إذا انعكس الوضع لن يكون للخبر قيمة مهما بلغت أهميته!"
ترى.. ماذا كان ليقول لو كان هو المصور؟ الآن تلاشت مهمة التحميض، واختفت كاميرات التصوير، الجوالات والمطابع الملونة تقوم بالأمر خير قيام، وبالتالي لم يعد للعم (جودة) أي وظيفة هنا، لكنهم عطفوا عليه، ورأفوا بشيبته، ومنوا عليه بوظيفة في قسم التحرير الفني، وهي وظيفة بلا وظيفة، وأصبحت أراه طوال الوقت يتحرك في المبنى جيئة وذهابًا، بقامته القصيرة، وقوامه النحيل، وشعره الأشيب المبعثر، الذي غزاه الصلع في المقدمة، وظهره الذي انحنى بشكل محدب، أحيانًا يحمل أوراقًا لا أدري ما هي، وأحيانًا أخرى يحمل صينية عليها أكواب بها مشروبات مختلفة، مما يجعله أقرب إلى عامل بوفيه، منه إلى منسق أو مصمم تحرير!
العم (جودة) دائم السخط، دائم التصعب، دائم الشكوى، اعتدنا هذا جميعًا، فلم نعد نجد صعوبة في تقبله، مع الوقت أصبح الأمر مغريًا لبعض المحررين الشبان بالسخرية منه، وتقليده باستهزاء، وتدبير مقالب خفيفة له، (خالد عطية) المحرر الشاب أكثرهم سخرية منه، ومع ذلك هو أكثر الناس هنا حبًا وتقبلًا للعم (جودة)..
رأيته ذاك الصباح يحمل كتابًا قديمًا ذا ورق أصفر عتيق، ويدور بالغرف والردهات حاملًا إياه بحرص شديد، كأنه يبحث عن شيء ما، لا ندري ما هو، طبعًا أثار هذا سخرية الآخرين بشدة، ولا أدري من أين ظهر (خالد عطية) ليختطف منه الكتاب، وهو يقول بنبرة مضحكة:-
– "خريطة الكنز!"
رغم استهجاني لمزاح هؤلاء القوم، لكني وجدت نفسي أبتسم رغمًا عني، بينما دمعت عيون الباقين من شدة الضحك.. لكنا فوجئنا بالعم (جودة) ينقض على (خالد) بعنف، ويتشبث بعنقه بطريقة الخنق، وقد احتقن وجهه بغضب عارم، وهو يقول:-
– "أعد إليّ الكتاب الآن، وإياك أن تمسه مجددًا !"
كانت المرة الأولى التي نرى فيها العم (جودة) بهذا العنف، كما أنها المرة الأولى التي يصل فيها سخطه إلى هذه الدرجة من الغضب الهادر، حتى (خالد عطية) نفسه بهت للموقف، وبدا عليه الرعب الشديد، وهو يعيد له الكتاب برفق، قبل أن يتدخل بعض الزملاء لإنهاء الموقف، ويستعيد العم (جودة) كتابه ويبتعد عنهم ساخطًا!
بعد دقائق كنت نسيت الموقف تمامًا، وانهمكت على عملي، لأصلح تلك الكوارث اللغوية، ولا أدري كم استغرقت من الوقت حين انتبهت إلى العم (جودة) يدخل الحجرة حاملًا مقعدًا خشبيًا، ويسير به منحنيًا لاهثًا، ليضعه أمام دولاب الأرشيف الذي يضم كمًا هائلاً من أعداد الصحيفة الورقية، قبل أن يغادر الحجرة مجددًا دون أن ينظر إليّ حتى، ليعود بعد قليل حاملًا الكتاب العتيق ذا الورق الأصفر الذي يوشك على التمزق، ويصعد فوق المقعد الخشبي بغية دس الكتاب بأحد الأرفف العلوية تحت كومة من أعداد الصحيفة، لكنه توقف فجأة وانتبه لوجودي، ونظر إليّ بحدة غريبة، ثم قال بصوت أقرب إلى الزمجرة:-
– "أنت هنا؟ ألم تغادر بعد؟!"
احتجت وقتًا لأستوعب السؤال، بدا لي العم (جودة) هذا اليوم مختلفًا عن أي يوم سابق طيلة الأعوام الماضية، بدا لي مرعبًا! قلت وأنا ابتلع ريقي بصعوبة:-
– "سأغادر بعد أن أنتهي من عملي هنا.. لقد أوشكت على الانتهاء بالمناسبة!"
أشاح بوجهه عني، ونزل من فوق المقعد، ثم وضع الكتاب في المكان الذي كان يقف به، ثم حمل الكتاب والمقعد معًا وغادر الغرفة منحنيًا لاهثًا!
العم (جودة) ليس طبيعيًا، لكن ماذا يعنيني من هذا؟ يحمل كتابًا عتيقًا ذا ورق أصفر يوشك على التمزق، لكن ليس لديّ أدنى فضول لمعرفة ما به.. ليس لديّ أدنى فضول لمعرفة أي شيء على الإطلاق!!
في اليوم التالي رأيت العم (جودة) كما اعتدت أن أراه دائمًا.. يتحرك في المبنى جيئة وذهابًا، بقامته القصيرة، وقوامه النحيل، وشعره الأشيب المبعث، الذي غزاه الصلع في المقدمة، وظهره الذي انحنى بشكل محدب، أحيانًا يحمل أوراقًا لا أدري ما هي، وأحيانًا أخرى يحمل صينية عليها أكواب بها مشروبات سوداء وصفراء وحمراء، مما يجعله أقرب إلى عامل بوفيه، منه إلى منسق أو مصمم تحرير! لقد عاد إلى طبيعته المعروفة.. دائم السخط، دائم التصعب، دائم الشكوى، يتحدث عن الجهد الجبار الذي يبذله ولا يقدرون قيمته، وعن المهنة التي تقصر العمر!
لكني فوجئت به قبل الظهر بقليل يأتي إليّ حاملاً صينية عليها كوبان من الشاي الأسود الثقيل، وضعها أمامي على الطاولة، وجلس على المقعد المجاور بصمت، وامتدت يده لتأخذ أحد الكوبين، وأشار بيده الأخرى داعيًا إياي لتناول الكوب الآخر دون أن يقول شيئًا..
فهمت.. إنه يدعوني لشرب الشاي معه، لا بأس.. الشاي هو الشيء الوحيد الذي لا أمانع مشاركة الآخرين فيه! واصلت عملي في إصلاح تلك الكوارث اللغوية، وبين الفينة والفينة كنت أمد يدي لألتقط كوب الشاي وأحتسي منه رشفة رشفة، دون أن ألتفت إليه مطلقًا، حتى سمعت صوته يقول في عمق:-
– "إنهم سخفاء جدًا.. تافهون جدًا جدًا.. جهلاء إلى درجة لا تطاق! أنت لست مثلهم!"
لم أرد، ولم ألتفت، أعرف عما يتحدث، ولا يعنيني إقراره أو نفيه، فلن يغير رأيي ولا رأيه شيئًا، ولاحظت نبرة التودد، التي لم أعهدها عليه من قبل، لكن ليرح نفسه، لست ممن يكترثون أو يتأثرون بالإطراء..
إلا أني فوجئت به يستطرد:-
– "بل أنت أسوأ منهم.. سيصيبك الجنون قريبًا، إن لم يكن أصابك بالفعل في هذه الآونة!"
حقًا؟ شكرًا لك.. لكن أرح نفسك أيضًا، فلست من النوع الذي يكترث أو يتأثر بالقدح أو الهجاء! لن أرد، ولن ألتفت مهما قلت! إلا أنه استطرد هو الآخر غير مكترث بتجاهلي حديثه:-
– "أنت تسير في نفس الطريق الذي سرت أنا فيه طواعية، وأصابني الجنون فعليًا، أنا المجنون الوحيد على سطح الأرض الذي يعرف أنه مجنون، ولا يستنكف الاعتراف بالجنون، لست مدينًا لك بنصح ولا أي شيء آخر. لكن احترس!"
لم أكن قد انتهيت من كوب الشاي بعد، حين اختطفه من يدي، وقام حاملاً الصينية ليغادر الغرفة منحنيًا لاهثًا، لا يلوي على شيء..
طبعًا لن أكترث بما قاله، الشيء الوحيد الذي أزعجني بالأمر: عدم إتمامي كوب الشاي الذي كان متقن الصنع جدًا، لكني سأقوم بعد قليل لصنع آخر مثله بنفسي.. وليذهب هو وشايه إلى حيث لا يعنيني، هو لا يعرف أنني لم أكن بحاجة لاعتراف منه لأكتشف أنه مجنون!
واصلت عملي في تركيز تام، تتطلبها تلك الكوارث اللغوية الشنيعة، سواء إملائية أو نحوية، بخلاف الكوارث العلمية، ولم أشعر بالوقت إلا حين انتبهت لدخول العم (جودة) الغرفة – قرب الساعة الثانية ظهرًا – حاملًا ذلك المقعد الخشبي، ويسير به منحنيًا لاهثًا، ليضعه أمام دولاب الأرشيف الذي يضم كمًا هائلاً من أعداد الصحيفة الورقية، قبل أن يغادر الحجرة مجددًا دون أن ينظر إليّ حتى، ليعود بعد قليل حاملًا الكتاب العتيق ذا الورق الأصفر الذي يوشك على التمزق، ويصعد فوق المقعد الخشبي بغية دس الكتاب بأحد الأرفف العلوية تحت كومة من أعداد الصحيفة، لكنه توقف فجأة وانتبه لوجودي، ونظر إليّ بحدة غريبة، ثم قال بصوت أقرب إلى الزمجرة:-
– "أنت هنا؟ ألم تغادر بعد؟!"
– "..................... !!"
(4)
كالعادة كل ليلة أصطدم بنظراتها الراغبة.. نظرات تحمل نفس النداء السحري الأخاذ لمصاصات الدماء وهي تحاول إغواء (جوناثان هاركر) – في (دراكيولا برام ستوكر) – تقول لي: "(علاء) – بدلا من (هاركر) – أقبل إليّ.. قبّلني..".. لكني – كالعادة كل مرة – أبادر بالفرار!
تسكن في الشقة المقابلة لشقتي، انتقلتْ إليها حديثًا مع زوجها، الذي عرفت من أول لقاء لي به على السلم أنه سكير، يبدو ذلك جليًا في نظرات عينيه الزائغة، ومشيته المضطربة، إنها تعرف الأوقات التي أعود فيها إلى الدار جيدًا، وكانت تأتي يوميًا تطلب شيئًا ما من أدوات المطبخ، أو تسأل عن شيء ما، أو تعرض خدماتها، وأنا أصدها بحزم، ثم بوقاحة، لكنها لا تتأثر ولا تكف عن محاولاتها..
مع الوقت كفت عن القدوم، واتجهت لأسلوب آخر، حيث تنتظرني عند عودتي على باب شقتها، ترتدي ثيابها المنزلية الأكثر إثارة، وتنظر إليّ بشبق!
لماذا أنا؟ ألأني جارها الأقرب؟ أم لأني رجل أعزب، وهي لديها قناعة راسخة – كأكثر الناس – بأن الرجل الأعزب أكثر استعدادًا لتقبل الإغواء؟ أم لأني أبدو لها غامضًا متوحدًا، ودائمًا الغموض يحمل نوعًا من السحر والإثارة، بما يكفي لجذب الآخرين؟ أم لكل تلك العوامل معًا؟ المؤكد ليس لوسامتي وهيئتي دخل في هذا على الإطلاق!
هذه الليلة كانت تقف بثياب شبه عارية، يفترض أنها مغرية، لأنها تكشف أكثر مما تستر، وتنظر إليّ ذات النظرة الشبقة، وقد اتجه القسم العلوي من جسدها إلى اتجاه معاكس لاتجاه القسم السفلي، في وقفة سيراها جميع الرجال على وجه الأرض مثيرة، عدا أنا..
عادة لا تقول شيئًا بلسانها، نظراتها هي التي تقول، تظاهرت بأني لا أراها على الإطلاق، وربما كنت لا أراها فعلا، واتجهت إلى باب شقتي، وأنا أبحث في جيوبي عن المفتاح، ليأتيني صوت زوجها المبحوح يصيح من الداخل:-
– "(نجاة).. أين أنتِ؟ ماذا تفعلين عندك؟"
ثم صوتها المائع وهي ترد في عدم اكتراث:-
– "أشم هواء.."
تبعته بضحكة خليعة، لا علاقة بها بسقوط المفتاح من يدي إلى الأرض، حين أخرجته من جيبي، لكنها حتمًا ظنت أن ضحكتها هي التي أحدثت هذا الأمر، فتنهدت بصوت مسموع، ثم قالت هازئة:-
– "نحن نُحِسّ إذن؟!"
ثم أتبعت قولها بضحكة خليعة أخرى، لكنها طويلة متقطعة بحيث استغرقت الوقت الذي احتجته لالتقاط المفتاح من الأرض، ودسه في ثقب الباب، والولوج إلى الداخل، وإغلاق الباب خلفي بشيء من العنف! وحين كنت أغير ثيابي اكتشفت أني للمرة الأولى أعرف اسمها!
– "هل يعني هذا أنك لست على علاقة بأي امرأة على الإطلاق؟ أي نوع من العلاقات التي تكون بين رجل وامرأة غريبة عنه، أعني من بعد طلاقك؟!"
ما دخل هذا فيما نتحدث عنه؟! لا.. ليس لي صديقة، ولا حبيبة، ولا زميلة، على الإطلاق.. بالطبع لي زميلات بالجريدة، لكن لا أذكر أني قمت بتحية إحداهن، أو حتى تلقيت تحية من إحداهن في مرة من المرات!
– "أليس هذا غريبًا؟ أنت ما زلت شابًا.. لماذا تتجنب النساء بهذا القدر؟"
– "ولماذا أقبل عليهن؟"
– "هل كان زواجك سيئًا إلى هذا الحد؟"
ما دخل زواجي بالموضوع؟ أنت تبتعد كثيرًا عن مجرى النهر، (هذا التعبير أيضًا قرأته ذات مرة، لكن أين؟ .... أين؟ .... لست أذكر!)..
زواجي لم يكن سيئًا، رغم أنه انتهى سريعًا، لكنه أيضًا حدث سريعًا، لم تواجهنا عقبات في إنشائه، ولا مشكلات في إنهائه، طلبت منها الزواج وهي وافقت، ثم طلبت هي الطلاق وأنا وافقت.. هكذا تم الأمر، دون أدنى مشكلة!
– "ألم تكن تحبها؟"
– "أنا لم أحب في حياتي قط! ولم أعرف الحب إلا في الروايات التي أقرأها.. أعرف أنه موجود من خلال الآخرين فقط"
– "أنت الآن في الثامنة والثلاثين. ما زلت شابًا. من الطبيعي أن تحب!"
– "الحب في الصبا مراهقة، وفي الشباب ضرورة، وفي الكهولة نزوة، وفي الشيخوخة جنون.. أنا لم أجرب حب الصبا ولا حب الشباب، وحاليًا أتأرجح بين الشباب والكهولة، لا أعرف كيف أصفه في هذه المرحلة، لكني أعرف أنه لن يحدث الآن، ولا مستقبلًا!"
– "من السيئ أن تمضي حياتك دون وجود امرأة!"
– "وربما كان الأسوأ وجودها.."
العجيب أن طلاقي لم يمض عليه إلا بضع سنوات قليلة، ولا أذكر من ملامح زوجتي – أو طليقتي – شيئًا، أذكر أني أنجبت منها طفلة، لكني أحيانًا أشك في هذا، وأقول: لعلي أتوهم هذا الأمر، أحاول في بعض الليالي استرجاع ملامح طليقتي من الذاكرة، فأكتشف أنها باهتة جدًا، أنجح في استعادة مواقف حدثت، وعبارات قيلت، لكنها تبدو لي كأنها مصورة بكاميرا تصوير تقف على مسافة بعيدة، بحيث لا تظهر وجهها عن قرب!
أحاول أن أقارن بينها وبين ...... ماذا كان اسم جارتي؟ لقد نسيته بسرعة.. لكن على الأقل أذكر ملامحها، ووقفتها، ونظرتها الراغبة..
المدهش أني أذكر بداية لقائي بطليقتي في نفس هذه البناية، لكنها كانت تسكن بالطابق الأسفل مني، لم تحدث بيننا علاقة، فقط لقاءات كانت صامتة في البدء، ثم تسللت إليها بعض الكلمات الخاطفة المقتضبة، مع نظرات كانت تطول رويدًا رويدًا، حتى كانت تلك اللحظة حين التقيتها في الميكروباص مصادفة، وجاءت جلستها بجواري، لم نتبادل أي حوار، أو نظرات، لكننا حين نزلنا، كان أول ما استطعت قوله لها على مدخل البناية:-
– "هل تقبلين أن تتزوجيني؟"
أذكر أنها بهتت ولم ترد، لكن الرد جاء بالقبول بعد عدة أسابيع حين كدت أن أنسى أني قلت هذا!! أتذكر هذا الآن وأنا على مدخل البناية، عائد من عملي نهارًا، وأصعد السلم بخطوات منهكة، الحر شديد، جسدي يتفصد عرقًا، أنفاسي لاهثة، خطواتي متعثرة، أريد أن أصل إلى شقتي بأسرع ما يمكن، لكني منهك غير قادر على الإسراع..
حين أصل إلى الطابق الذي أسكن به، أجد جارتي تقف على باب شقتها بثياب شبه عارية، يفترض أنها مغرية، لأنها تكشف أكثر مما تستر، وتنظر إليّ ذات النظرة الشبقة، وقد اتجه القسم العلوي من جسدها إلى اتجاه معاكس لاتجاه القسم السفلي، في وقفة سيراها جميع الرجال على وجه الأرض مثيرة، عدا أنا..
عادة لا تقول شيئًا بلسانها، نظراتها هي التي تقول، تظاهرت بأني لا أراها على الإطلاق، وربما كنت لا أراها فعلا، واتجهت إلى باب شقتي، وأنا أبحث في جيوبي عن المفتاح، ليأتيني صوت زوجها المبحوح يصيح من الداخل:-
– "(نجاة).. أين أنتِ؟ ماذا تفعلين عندك؟"
ثم صوتها المائع وهي ترد في عدم اكتراث:-
– "أشم هواء.."
تبعته بضحكة خليعة، سقط معها المفتاح من يدي وأنا أخرجه من جيبي، دون أن يكون لضحكتها علاقة بالموضوع، لكنها حتمًا ظنت أن لضحكتها الأثر المباشر، فتنهدت بصوت مسموع، ثم قالت هازئة:-
– "نحن نُحِسّ إذن؟!"
ثم أتبعت قولها بضحكة خليعة أخرى، لكنها طويلة متقطعة بحيث استغرقت الوقت الذي احتجته لالتقاط المفتاح من الأرض، ودسه في ثقب الباب، والولوج إلى الداخل، وإغلاق الباب خلفي بشيء من العنف!
(5)
لماذا أنا هنا؟!
سمعت بالتأكيد عن الـ (ديجا فو).. أنت تعرف أني أقرأ كثيرًا، وأمتلك قدرًا من الثقافة والمعرفة، وهذه ظاهرة كلنا يعرفها، وإن كان أكثرنا لا يعرف أن اسمها (ديجا فو)!
(ديجا فو) كلمة – بل عبارة – فرنسية تعني: "شوهد من قبل"، أي: شعور ينتاب المرء في موقف ما بأنه شاهد هذا الموقف من قبل، هناك تفسيرات علمية عديدة لهذه الظاهرة، قيل: إنها ترجع إلى شذوذ بالذاكرة، حينما تعطي للمخ إشارات خاطئة بأننا عشنا هذا الموقف من قبل، لكننا لا نستطيع تذكر الموقف السابق، وهذا يكون بسبب تشابك في الأعصاب المسئولة عن ذاكرة المدى القصير والبعيد، حيث تختزن الأحداث في الذاكرة، قبل أن ترسل إلى قسم الوعي بالمخ لتعالج هناك! وقيل: إن الأمر يتعلق بحاسة البصر، حيث يحدث اختلال في سرعة تسجيل الحدث بين العينين، حيث تسبق إحداهما الأخرى في تسجيله وإرساله إلى المخ! وقيل: بل مرتبط بتفاوت وصول الدم إلى المخ عبر الشرايين المختلفة!
كما هناك تفسيرات نفسية، يقال: إنها من بوادر الإصابة بالفصام، وغيره من الاضطرابات النفسية، تسبب هذا التشوش والارتباك.. وهناك تفسيرات ميتافيزيقة: مثل دعوى تناسخ الأرواح، حيث يزعم البعض أن هذا الموقف حدث لك من قبل في حياة أخرى عشتها قبل هذه الانتقال إلى الحياة الحالية!!
أعرف كل هذا وأكثر، لكني اؤكد لك أن ما يحدث لي ليس من قبيل الـ (ديجا فو)! هذه المواقف تتكرر حقيقة بنفس تفاصيلها الجزئية، أعرف الديجا فو جيدًا، وأعرف أن ما يحدث لي لا يمت إليه بصلة.. ثم إن الديجا فو – حسب علمي – يحدث مرة واحدة للموقف الواحد، وبشكل خاطف لا يتعدى لحظات قليلة جدًا، لكن في حالتي أنا يتكرر الموقف الواحد أكثر من مرة، بنفس تفاصيله، ويستغرق وقتًا أطول من مجرد لحظات خاطفة..
– "تعني أن موقف الاصطدام في الطريق المزدحم تكرر أكثر من مرة؟"
– "خمس مرات حتى الآن.."
– "نفس الرجل الأصلع المكتنز، والآخر النحيل الأشيب؟"
– "ونفس زجاجة العصير المفتوحة، لقد لوثت أربعة قمصان لي حتى الآن!"
لماذا أنا هنا؟!
ما لا يعرفه هذا الطبيب أني قرأت في علم النفس أكثر مما درس هو، وأظنني أعرف عن هذا العلم أكثر مما يعرفه هو، لماذا أخذت هذه الخطوة؟ هل كنت بحاجة إلى تفسير ما يحدث لي إلى هذه الدرجة الملحة، بحيث أقوم بخطوة أعرف يقينًا ألا جدوى من ورائها، سوى خسارة الأموال؟ أم أني كالغريق الذي يتشبث بقشة في عرض البحر، وهو يعرف أنها لن تنقذه من الغرق!
المحزن أني كنت أعرف هذا من أول لقاء، حين انتظرت ساعة أو أكثر في صالة الانتظار مع آخرين، حتى حان دوري، لأجده يجلس خلف ذلك المكتب الأنيق، ويطلب مني الجلوس على المقعد المقابل، ثم يسألني عن اسمي وعنواني، وما الذي أشكو منه مبدئيًا، ثم ينقلني إلى المقعد المسطح الأشبه بالنقالة، ويواصل طرح الأسئلة..
كنت أعرف أنه لن يفعل شيئًا سوى طرح هذه الأسئلة، ثم مد الجلسات جلسة وراء جلسة، وكل جلسة بحسابها، وفي النهاية يعطيني دواء للاكتئاب، ويطلب مني تغيير المكان، والحصول على إجازة من العمل، أعرف هذا منذ البداية، فلماذا أتيته؟
– "أود أن أسألك عن عائلتك؟ أين هم منك؟"
بالطبع لي عائلة ككل الناس، لم أخلق من صخرة كناقة سيدنا صالح، ولم أخرج من بيضة كما يحكون عن الملكة الآشورية (سميراميس)! كان لي أب وأم، ماتا منذ سنوات بعيدة، لي إخوة وأخوات – لم أعد أذكرهم جيدًا - كنت على تواصل معهم منذ سنوات، ثم انقطع الاتصال تدريجيًا، حتى تلاشى نهائيًا، ولم أعد حتى أحتفظ بأرقام هواتف لهم! لست أفتقدهم بالتأكيد، وواثق أيضًا من أنهم لا يفتقدونني! كف عن الأسئلة، وأجبني أنت: ما الذي يحدث لي؟
– "لا أستطيع أن أجيبك الآن.. أحتاج إلى مزيد من .......!"
لا.. لا مزيد من الوقت أو المعلومات، لقد أخطأت بالمجيء منذ البداية، أجب الآن وإلا لن أعود إليك مجددًا..
– "ممم حسنٌ.. أعتقد أنها أزمة منتصف العمر!"
– "لم أبلغ الأربعين بعد.. أعرف جيدًا ما تتحدث عنه!"
– "سن الأربعين هو الوقت الاعتيادي لحدوثها، لكن لا يمنع من حدوثها قبل ذلك، ولا تأخرها لما بعد!"
– "أعرف أعراضها جيدًا، لست أشعر بأي حنين للماضي والذكريات، بالعكس، أفر من أية ذكريات، لا اشعر بتوتر، ليس لي زوجة أفقد اهتمامي بها، وأكتشف عيوبًا جديدة بها، ليس عندي أية رغبة، ولا أبذل أية محاولة لرأب صدع في حياتي، أو عيش مراهقة جديدة!"
– "في الحالات النفسية الأعراض ليست ثابتة، في حالتك أنت اختلطت بالوهم، تتوهم تكرار أشياء تحدث، لأن هذا التكرار يعبر بشدة عن الرتابة المهيمنة على حياتك، حتى عقلك الباطن استسلم لها وأصبح يختزن لك المشاهد والأحداث ليعيدها إلى ذهنك مرارًا وتكرارًا، أو ربما يحاول إنذارك للتخلص من هذه الرتابة!"
أنت تتحدث مثل العم (جودة) بالضبط.. لست مجنونًا لأتوهم أشياء لا تحدث، أنا واثق من أن ما أراه حقيقة لا وهمًا..
– "سيد (علاء).. هذا شأن التوهم دائمًا.. يبدو حقيقيًا جدًا، بحيث يثق المتوهم من أنه حقيقة!"
لا.. أنت مخطئ.. وأنا كذلك مخطئ حين قدمت إليك منذ البداية.. لا مزيد من الأسئلة والجلسات!
– "ما يزعجك أكثر هو إدراكك أنك لم تحقق شيئًا بحياتك على الإطلاق! زواجك انهار سريعًا، أسرتك لم تتشبث بك، ساخط على عملك، لم تكتسب أصدقاء قط.. تشعر كما لو كنت عالة على الحياة، عالق بها دون الدخول فيها، كالمتفرج على مباراة، لكنك حتى فقدت الرغبة في المشاهدة، والحماسة في التفاعل مع الأحداث التي تعترضك!"
اصمت.. اصمت.. لن آتي هنا مجددًا، مهما حدث!
ساعة أو أكثر أقبع في صالة الانتظار مع آخرين، أخيرًا حان دوري، أدخل غرفة الكشف بتردد، ها هو هناك يجلس خلف ذلك المكتب الأنيق، ويطلب مني الجلوس على المقعد المقابل، يسألني عن اسمي وعنواني، وما الذي أشكو منه مبدئيًا، ثم ينقلني إلى المقعد المسطح الأشبه بالنقالة، ويواصل طرح الأسئلة..
– "ماذا تعمل سيد (علاء)؟ أعني ما مهنتك؟"
لأفاجأ بقبضتين قويتين تدفعانني بخشونة، مع صوت أجش غاضب يقول لي في حدة ومقت:-
– "انتبه يا أعمى القلب والنظر!"
لماذا أنا هنا؟!
– "أود أن أسألك عن عائلتك؟ أين هم منك؟"
لكنه توقف فجأة وانتبه لوجودي، ونظر إليّ بحدة غريبة، ثم قال بصوت أقرب إلى الزمجرة:-
– "أنت هنا؟ ألم تغادر بعد؟!"
صوتها المائع وهي ترد في عدم اكتراث:-
– "أشم هواء.."
تبعته بضحكة خليعة، سقط معها المفتاح من يدي..
– "أليس لك علاقة بأي امرأة على الإطلاق؟!"
لماذا أنا هنا؟!
أعرف أنه لن يفعل شيئًا سوى طرح هذه الأسئلة، ثم مد الجلسات جلسة وراء جلسة، وكل جلسة بحسابها، وفي النهاية يعطيني دواء للاكتئاب، ويطلب مني تغيير المكان، والحصول على إجازة من العمل، أعرف هذا منذ البداية، فلماذا أتيته؟
- "هل سمعت عن شيء اسمه (ديجا فو)؟!"