الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
بقلم ليلى بورصاص

ذكرى.. لها ماض

وقفت أمام أطلال البيت العتيق.. أحست بروحها تفارقها.. وتطير إلى عالم غير هذا العالم.. كم مر من الزمن لم تر فيه هذا البيت.. أتراه سنين أم أكثر.. لم تعد تحسن العد.. مضى زمن ليس بالقليل.. أتراها نست ذكرياتها في هذا البيت؟ رفعت رأسها إلى أعلى.. لازالت أحواض الأزهار الحجرية في مكانها.. لم تنس كم قاسمتها الأسرار وكتمتها.. كم رسالة زرعت فيها بعد أن قرأتها بكل جوارحها.. كم من الدموع ذرفت على تربتها بصمت.. لكم أحبت هذا البيت الذي شهد طفولتها وأجمل أيام صباها.. لقد تركته بملء إرادتها.. وعادت إليه مسلوبة الإرادة.. أتراه الشوق ما أعادها؟ أم أن للماضي سحر لا يقاوم؟ أنها تذكر آخر أيامها فيه: حليمة.. لن تذهب بعد اليوم إلى المدرسة كفاك تعليما.. أحست الدنيا خلت من البشر.. أحست انه قد القي بها من عل.. ولكن لماذا؟ سعاد وفاطمة لا زالتا تدرسان.. لماذا أنا؟ لم يجبها الآمر.. فطن إلى نضوج جمالها المبكر.. خاف أن يلطخه الفرنسيون الأوغاد.. وان فعلوا من يستطيع الوقوف بوجههم.. من يستطيع أن يقول لا أو يحاسبهم.. رفضت وأعلنت رفضها: أريد أن أتعلم.. يجب أن أتعلم.. لن نستطيع محاربتهم ونحن جاهلون.. هذا أروع شيء.. تجادلينني يا بنت الكلب.. وتريدين أن تحاربيهم.. لم يبقى إلا أن تصعدي إلى الجبل.. خذي.. لم تحس ألما للصفعة.. فقد اعتادته.. لكن قلبها كان ينزف دما على ضياع مستقبلها.. ألقيت محفظتها في طشت مليء بالماء والصابون.. فاختلط لون الرغوة الوسخة بلون الحبر مكونا لونا غريبا.. دفعت إلى والدتها وأوكل إليها مهمة تعليمها أشغال البيت.. لتعدها إلى مصير كل مثيلاتها.. وحذرت من أن ترى الشارع أو يراها.. الكلام جدي والرجوع عنه مستحيل.. وإتمامها لتعليمها صار ضربا من الخيال.. في لحظة ضعف وقوة.. حزن ونشوة.. قررت مصيرها.. إذا لم يسمح لها بإنهاء تعليمها.. فهو الطريق الآخر.. من كن يملكن عقلها لا يمكن أن يكن نكرة.. لا يمكن أن يعشن في الظل.. لا يستطعن أن يكن مجرد خادمات وتابعات.. إذن انه الطريق المقدس.. في لحظة رحبت فيها بالموت.. اقتطعت قطعة من ليل سرمدي.. نظرت إلى البيت العتيق نظرة وداع وغاصت في الظلمة الساكنة.. رامية بعرض الحائط دموع أقرب الناس إليها.. لكن أليس لكل شيء ثمن؟ لا يمكن أن نحصل على كل شيء في هذه الحياة.. لا بد من تضحية ما.. ترى ماذا حدث بعدها؟ علمت أن والدها اقتيد عشرات المرات إلى أقسام الشرطة والدرك الفرنسيين.. وأنه قضى أكثر من ليلة بأكثر من سجن.. وان والدتها لزمت فراش المرض مدة ليست بالقصيرة.. ساءها ذلك وبكت لأجلهم آلاف المرات.. لكنها مشت في طريق اللاعودة.. إما النصر وإما الاستشهاد.. في العودة هلاكها وهلاك من يحملون معها راية الجهاد.. منحوها ثقتهم وأضحت واحدة منهم.. فلتشفع لها نيتها الحسنة.. وحبها للوطن.. في حينها لم تفكر هل سيغفر لها من آلمهم رحيلها وآذاهم.. إنها الآن تفكر.. ترى ماذا تقول لهم، هل تعتذر؟ هل تختبئ خلف النصر العظيم الذي شاركت في تحقيقه؟ هل يقبل اعتذارها المصحوب بمعزوفة الحرية؟ هل تشفع لها رفرفة الراية عاليا؟ إنها تذكر أن أول علم وطني سمعت عنه من صديقة لها.. أخوها كان في الجبل مع الخاوة.. عندما زارهم في إحدى المرات.. اخبرهم أن الراية الوطنية نصف أخضر ونصف أبيض ونجمة وهلال حمراوين.. أحست بخشوع وهي تستمع لهذا المزج النادر للألوان.. وعند عودتها إلى البيت حاولت رسمه على ورقة رسم.. لم تشعر إلا ووالدها يركلها ممزقا الورقة.. هل تريدين هلاكنا؟ هذا ما جنيته من تعليمك.. إنها تشعر الآن برغبة في الابتسام وهي ترى كل هذه الرايات تزهو وترقص على أنغام الطبيعة غير عابئة بكل تلك الوساوس والمخاوف.. بعد كل هذا ولا يسامحونها؟ بعد كل هذا ولا يغفرون لها؟ استجدت شجاعتها التي لم تخذلها يوم اتخذت القرار.. ورافقتها طيلة سنين الكفاح المقدس.. لم تخشى ما خشيه أشجع الرجال.. لم تخشى شرذمة الاحتلال.. ولا تابعيهم.. لكنها الآن تخشى الدخول.. تشعر برعب وخوف شديدين.. اكتسحتها رعشة.. شعرت أن المسافة بينها وبين الباب تزداد.. إنها تسير وتسير.. لكنها لا تصل.. وفي مثل اللحظة التي رحبت فيها بالشهادة.. رحبت بأية نازلة تأتي من المجهول.. ولجت البيت العتيق.. مرحبة بمصير مجهول.. لم تجد في البيت أثرا لحياة.. نادت أول الأمر وجلة.. ثم فزعة.. خرج شيخ غريب من إحدى الغرف.. كشف لها عن وجه اليقين الأليم..

التفتت إلى البيت العتيق.. لا خوف و لا فرح.. انه الحزن الدفين.. سيلازمها بقية حياتها.. انتهى العذاب.. انتهت الوساوس.. فلتمضي نحو الأفق.. ولتنعم بطعم النصر.. ستظل بلابل العذاب الخفي تلاحقها حينا من الزمن.. فليكتنفها الله برحمته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى