رؤية نقدية لقصة مسافات لسمير الشريف
النص:
هم محقون فيما ذهبوا إليه، يقهرهم صمتك، ويحيرهم !! ألا تحس معاني الخوف تتضح بها مفرداتهم؟
يظنونك سخيفاً وتافهاً، ولكنهم أمام صمتك المتواصل يعيدون حساباتهم وينقسمون على أنفسهم ويتيقن الشك في أعماقهم.
مجبرون على ذلك فأنت قفل الأسرار المؤتمن على ما يكنون، حتى خطوات أنفسهم تحصيها عليهم، ألم يحدث أن فاجأتهم بما يدور في خلدهم؟
يتعجبون، يخلطون الجد بالهزل ويخرجون من المأزق كسمكة لعوب، هم وأنت يعرف كل منكم خطورة وأهمية الآخر، لا تجرؤ ولا يجرؤون على وضع النقاط على الحروف.
(أشعل جمرة) (شيشتك) التي انطفأت، وأنت غارق في التفكير، رائحة الذكرى تهب عليك مختلطة برائحة (التمباك)، ما الحيلة أمام هذه المهنة اللعينة التي أكرهت عليها؟ كل الوظائف لا تمكث فيها شهراً حتى يأتيك كتاب الإعفاء والسبب؟ تقرير الأطباء بعد الفحص وهذا المرض الخبيث.
مجبر على قبول هذه المهنة، وإلا ستظل كلبا جائعا يجوب في ضياع أزقة البيوت التي تعشش في أنقاضها الفئران.
حتى المختار.. الذي يفترض أن يقدر ظرفك يرفض أن يخدمك لوجه الله، واشترط عليك التوسط لدى البلدية مقابل زواجه من ابنتك الكبرى، رضيت برغم الغصة التي اعترضت حلقك لكنك تعرف. الحال والدنيا والناس.
ماذا تصنع وأنت تقضي عمرك في هذه المهنة تحت هذه الزيتونة الهرمة؟ تنفث دخان الشيشة تكركر طول الوقت تشارك الحاج لطفي لعب السيجة.
مهنة لا تساوي مجموع الحسرات التي تنزل على قلبك حجارة ثقيلة، لكنك تعودت وأصبح مرأى الموتى لا يثير في نفسك إلا قشعريرة مؤقتة لا تلبث بعد الدفن أن تزول، عندما رضيت بها ضحك عليك الأقارب، هزأوا مرددين "ألم يجد المتعوس غير حراسة القبور؟
فسروا رضاك كسلاً يعفيك من الجد والعمل، أولئك الذين ما دقوا بابك وسألوك الحال كخلق الله.
" ظهرك دب فيه الخدر لطول هذه الاتكاءه على جذع الشجرة.
انهض، حرك دمك........... ولت تلك الأيام، مشكلتك مع الذين يحرجونك رغم معرفتهم أن الدفن بدون ورقة ممنوع "حتى الموت بحاجة إلى شهادة دخول !!!".
يلاطفونك، لكنك لا تصبر عندما ترى نظرات الشك في عيون موظف البلدية وكأنه يقول إنني أعرف اللغز".
ً ما عليك إلا أن تكون شجاعاً وتقف في وجوههم، امنعهم ما استطعت وإلا فأزح عن كاهلك المسؤولية أمام موظف البلدية على الأقل".
نظرات الاستغراب أطلت من عيونهم مستنفرة عندما حاولت أن تمنعهم لكنك طيب القلب فلم تسأل لماذا هؤلاء لا يدفنون موتاهم إلا بعد منتصف الليل، ولا يشاركهم إلا صفير الريح وصرير الجنادب، وأصوات المساحل؟
"هذه الصرة: التقطها، لا تطأها، ربما تكون لأقارب أحد الموتى وفيها من الشيء المهم الذي قد يسأل عنه صاحبه".
هددوك بالأمس إذا أخبرتهم أنك ستنقل ما حدث لمسؤول البلدية، ما حدث حكيته بالضبط "للحاج لطفي" ترى.. هل صدق فيما قال؟
"أولئك هم من يقتلون القتيل ويسيرون في جنازته".
لماذا تكذب على نفسك، هل تظنها واحداً ممن تنطلي عليهم أكاذيبك؟ قل إذاً إنك خفت وارتجفت حتى النخاع.
لا موجب للنوم هذه الليلة في البيت، سيارتهم مرت بجانبك عدة مرات، وذلك المتخفي خلف نظارته، يسلقك بنظراته النارية الملتهبة والتي سرعان ما يحولها عن وجهك حالما تنظر إليه، السر في دفن الموتى بعد منتصف الليل لا يهمك الآن، ولا يهم أن تعرف من هم الموتى.. حتى أولئك الرجال الملثمون، المهم أن تنام خارج البيت هذه الليلة، وعند ذاك الصديق تلعبون الورق وتشربون الشاي بالنعناع وتكركرون الشيش، ولا بأس عندئذ من الحديث عن أيام زمان التي ولت........ يجب أن تنام، وليقل الناس ما يقولون، المهم أن تسلم أنت، عساك تهتدي مع صديقك لطريقة تعالج فيها المشكلة وتتخلص من وجع الرأس. الخير في المشورة.... إلى بيت صديقك هاهي الشمس تجر أذيالها نحو المغيب، لا تتلكأ، فالتأخير ليس في صالحك، أم تراك راجعت نفسك فيما حاولوا وضعه في جيبك ليلتها ولذت بصمت طويل؟
لم يرتسم في ذهن زوجته أية علامات استنكار، لهذا التأخير حتى هذه الساعة من الليل.
تساءلت في داخلها بحسرة "ما فائدة أن يعود مبكراً؟ تنهدت بلوعة واستقر في بالها أنه لا شك يجلس الآن في بيت صديقه فوق الجلود الصوفية التي يفرشونها، يلعب الورق ويعض على مبسم خرطوم الشيشة الذي لا يفارق فمه.
انتهت من ترديد عجنة الغد، حركت يديها داخل العلبة المليئة بالماء الملوث، ظهراً لبطن، نهضت وبدايات جيوش النوم تغزو أطراف جفونها، قلبت في ذهنها إمكانية أن تترك الباب مفتوحاً حتى لا يوقظها عندما يعود، لكنها خافت اللصوص الذين انتشروا بشكل مريب.
عندما دست جسدها في الفراش، اتكأت على الوسادة........... ربطت نظراتها بثقوب الباب الذي واربته، منتظرة
ماذا تقول عندما يعود؟ هل تصرخ فيه؟ هل ينسل بجانبها مكفراً عن تأخيره هل..؟ (وارتسمت أمام ناظريها فقاقيع هلامية متناثرة) … انخفض رأسها بهدوء ليتكئ على ساعدها المكشوف..
عصر اليوم التالي، حملت غداءه على صينية القش المزركشة، حيث يطيب له تناوله تحت تلك الشجرة العجوز التي يمتد ظلها دائرة كبيرة واسعة عندما يكون السكون شاملاً إلا من حفيف الأوراق التي يحركها النسيم وصرير الجنادب الذي لا يتوقف.
كان مكانه خالياً، غير مستلق كالعادة، على الجذع الضخم المقشر اللحاء، لأول مرة تحس بدبيب الخوف يسري في جسمها خدراً لا تقوى على رده، وإن بداخلها أداة تدق بعنف، وتذكرت في تلك اللحظة فقط أن لها قلباً.
انقبض قلبها …
هجمت خواطر محزنة على قلبها، وشعرت بنفسها تتنهد بصوت مسموع، ركنت صينية القش، غطتها بجريدة قديمة بعد أن نفضت عنها الغبار.
نادت بصوت عال، أنها لأول مرة تتجاوز المألوف، زوجها سيغضب حتماً فهو لا يكره في المرأة إلا زعيقها.
خرج صوتها حاداً ممزقاً تمتزج فيه الحيرة بالخوف. لم يجبها غير الصمت وانقطاع صرير الجنادب.
انتظرت، دارت حول نفسها، نظرت بعيون ذاهلة، ليس من عادته أن يتأخر عن الرد إذا كان في مكان بعيد؟…
صرخت منادية،جاوبها الصمت.... سقطت في حلقها أمواس حادة، ونبتت في حنجرتها أشواك مدببة.
تحركت، خطت بارتباك، امتدت يدها بوهن، حركت باب المقبرة الحديدي المغلق بلا أقفال. صر بحزن ثم انفتح. مسحت بعينيها أرض المقبرة الواسعة، أحست أنها تشم رائحة الموت أول مرة، تتذوقها بقلبها، بكل خلجة فيها.
بانشداه.. شهقت وبعمق انغرست نظراتها وتسمرت فوق كومة من تراب مازال رطباً، تعلن عن نفسها بين شاهدين.......
أدركت معاني الضيق والحيرة التي كانت تكفن حياة زوجها، تذكرت تفاصيل ما كان يقصه عليها نتفاً مما يحدث له.
انهارت......... دافنة وجهها في التراب المبلول،… خيطان من دموع تسابقا على وجنتيها في اللحظة التي كانت فيها خيوط الشفق الأحمر يجرها الغروب لتعلن المغيب.
نص ابداعي جديد على قلة نتاج أديبنا العزيز :
فالعنوان يشي بصدق عن ماهية ومضمون القصة بين الحق والباطل بين الهدف والطريق المتعثر.
وكالعادة تنضح وتضج قصص الاديب سمير الشريف بعبارات القهر واللوعة والحرمان...
تتجسد بعبارات واضحة المعالم تصل باداء متميز للمتلقي بسرعة:
يقهرهم صمتك
يظنونك سخيفاً وتافهاً
خطورة وأهمية الآخر
رائحة الذكرى
كلبا جائعا يجوب في ضياع أزقة البيوت
الزيتونة الهرمة
يسلقك بنظراته النارية الملتهبة
وليقل الناس ما يقولون
وهذه من السمة البارزة في نصوص الاديب سمير.
ننتقل لامر آخر وهي السمة الروائية في الجمل المتلاحقة:
خرج صوتها حاداً ممزقاً تمتزج فيه الحيرة بالخوف. لم يجبها غير الصمت وانقطاع صرير الجنادب.
انتظرت، دارت حول نفسها، نظرت بعيون ذاهلة، ليس من عادته أن يتأخر عن الرد إذا كان في مكان بعيد؟…
صرخت منادية،جاوبها الصمت.... سقطت في حلقها أمواس حادة، ونبتت في حنجرتها أشواك مدببة.
تحركت، خطت بارتباك، امتدت يدها بوهن، حركت باب المقبرة الحديدي المغلق بلا أقفال. صر بحزن ثم انفتح.
مسحت بعينيها أرض المقبرة الواسعة، أحست أنها تشم رائحة الموت أول مرة، تتذوقها بقلبها، بكل خلجة فيها.
وهو وان مر بسلام عبر القصة إلا انه يبقى يميز النص الروائي بامتياز.
وتتجسد معاني الحسرة والقهر حصرا في نهاية القصة المليئ بالقهر كذلك:
بانشداه.. شهقت وبعمق انغرست نظراتها وتسمرت فوق كومة من تراب مازال رطباً، تعلن عن نفسها بين شاهدين.......
أدركت معاني الضيق والحيرة التي كانت تكفن حياة زوجها، تذكرت تفاصيل ما كان يقصه عليها نتفاً مما يحدث له.
انهارت......... دافنة وجهها في التراب المبلول،… خيطان من دموع تسابقا على وجنتيها في اللحظة التي كانت فيها خيوط الشفق الأحمر يجرها الغروب لتعلن المغيب.
انه الواقع العربي قليل الحلية الواقع العربي السلبي الواقع الذي يخط من العمر عبثا كي يمر ويمر فقط...
عبارات ابداعية جديده رغم عدم سطوعها في النص لتجعله أكثر ضياء بل كرست ظلمة الواقع:
ويخرجون من المأزق كسمكة لعوب
مهنة لا تساوي مجموع الحسرات التي تنزل على قلبك حجارة ثقيلة
أدركت معاني الضيق والحيرة التي كانت تكفن حياة زوجها
وبدايات جيوش النوم تغزو أطراف جفونها
ربطت نظراتها بثقوب الباب الذي واربته، منتظرة.
خيطان من دموع تسابقا على وجنتيها
الحبكة قوية كرست وخدمت النص والفكرة تماما.
وأسئلة تركت إشارات استفهامية:
لماذا هؤلاء لا يدفنون موتاهم إلا بعد منتصف الليل، ولا يشاركهم إلا صفير الريح وصرير الجنادب، وأصوات المساحل..
تلك القتامة في النص والتي تترك المتلقي بين دهاليز الفراغ والقهر يتساءل:
هل فعلا الواقع في عمق الحياة بهذا الشكل؟
أكتفي بهذا القدر ولك كل الدعاء الحسن أديبنا العزيز