الأربعاء ١٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

رجل الكرمات

كان حضوره متواضعًا، لا يعرفه الناس جيدًا في المدينة، لكنه يترك فجوة صغيرة في الهواء، ضبابية، كأنها سؤال لا يجرؤ أحد على صياغته. يمشي كعابر، كحلم يمر بين الأزقّة، لكنه في الحقيقة يزيح طبقات من الوجع عن الناس، ليس بأسلوب الطبّ، ولا طقس مألوف، ولا خرافة تُروى على حافة الليل، بل بطريقة تشبه المنطقة الفاصلة بين الحلم ونهايته، حيث يعترف الغريب بما لا يعترف به العالم.

كل مرة يمرّ فيها، ينبعث في المارّين شعور قديم، كأنهم يعرفونه قبل أن يروه، كأن المدينة خبّأت صورته في ذاكرة لا تخصّ أحدًا بعينه، ذاكرة تتنفس بعيدًا عن الأعين.

وفي صباحٍ غير مختلف عن غيره، تشابكت حكاية الرجل مع ستّة أشخاص لم يجمعهم رابط سوى أنّ المدينة قرّرت أن تُلقي بهم في المصير ذاته، دون استئذانهم.

سليم، الطفل، يهمس لنفسه وهو يركض خلف ضوءٍ لا يُرى إلا بعينيه:

ـ هل هو حقيقي؟ أم حلم يمرّ بين الجدران؟

يضع الرجل يده على كتف عجوز ترتجف، فانطفأ الارتجاف كما تنطفئ موجة ترتطم بصخرة مطمئنة. منذ ذلك اليوم، صار سليم يتبعه بشغف، طفل يحاول الإمساك بخطّ ضوء يتلوّى أمامه، يشعر بأن كل لمسة للرجل تحمل وعدًا بغير المرئي.

حسّون، بائع الخضار، يراقبه من بعيد:

ـ والله، هذا الرجل سامع شي… شي ما نسمعه إحنا.

مدحت، المدرّس المتقاعد، من خلف كتبه:

ـ لا أعرف كيف، لكن كل شيء يبدو… مختلفًا حين يمرّ. وكأن شيئًا يُنتزع من تحت أقدامنا، حجر من أساس العالم.

جلال، الشرطي، بنبرة حادة:

ـ لا أحب هذا. كل ما لا يُفسَّر… خطر محتمل.

أمّ رِيام، تتنهّد بصمت:

ـ لا أعرف، شيء في داخلي يهدأ حين يكون هنا… شيء لا أعرف له اسمًا.

الدكتورة ليلى، تكتب في دفترها:

ـ كل حركة له… كل ميل للجسد… كأنها تجربة على مستوى الانفعال الخفيّ في العقول.

كلما وضع الرجل يده على جرح داخلي، تحرّك شيء في الهواء. لم يكن ضوءًا، ولا ظلًّا، لكنه موجود: يراه سليم، يسمعه حسّون بصمتٍ موجز، تشعر به أمّ رِيام كشهيق يتأخر عن الوصول، ويكتب مدحت في ذهنه: حدث غير خاضع للقوانين المألوفة.

لم يعرف أحد ما يتمتم به الرجل، ولا ما يخرج من أصابعه حين يهدأ الألم. كل ما عرفوه أنّ شيئًا يتغيّر بعد لمسه، كأن العالم يتنفّس بشيء أخفّ، شيء خفيّ يترك أثره في العيون والهواء والذاكرة. أفعال الرجل كانت تبدو كالكرامات، لكنها بلا إعلان، بلا شهرة، مجرد أثر صامت يعيد ترتيب المكان والناس داخليًا.

وفي تلك الليلة، اجتمع الستّة حوله بلا موعد، كأن يدًا خفية رتّبت خطاهم. تبعوه عبر أزقّة ضيقة، ضوءها منطفئ، حتى وصلوا المقابر. جلس عند قبر قديم، حجره بلا اسم، كأنه صفحة لم تُكتب بعد.

سليم، يختبئ خلف صخرة، يهمس:

ـ ما الذي يحدث هنا؟

حسّون، يلمس الهواء:

ـ والله ديحجي وياه… شيء غريب.

مدحت، يشدّ معطفه:

ـ نظرياتي… ربما سقطت كلها.

جلال، يضع يده على مسدسه:

ـ القانون لا يكفي هنا… شيء يخرج عن السيطرة.

أمّ رِيام، تتنهد فجأة:

ـ ترك شيئًا هنا… شيء داخلي.

الدكتورة ليلى، تبتسم بخبرة:

ـ لم يذهب… لقد غيّر مكانه فقط.

ومع أول خيط فجر، اختفى. لا عباءة، لا خطى، لا ظلّ. بقي فقط دفء خفيف فوق التراب… دفء يشبه أثر يد غادرت للتوّ، أثر يهمس: “أنا هنا، لكن بطريقة أخرى.”

وقف الستّة حول القبر، كلّ واحد ينطق بما يعكس قلبه:

ـ سليم: رجع لحد ينتظره.

ـ حسّون: الأرض خذته.

ـ مدحت: هناك تفسير… يحتاج وقتًا.

ـ جلال: هرب.

ـ أمّ رِيام: ترك أمانة هنا.

ـ الدكتورة ليلى: لم يذهب… لقد غيّر مكانه فقط.

وكانت المدينة تنفّس من جديد، أخفّ، أكثر غموضًا، وكأنها تحفظ سرّ رجل الكرمات بين جدرانها وأزقّتها، سرًّا لا يحتاج إلى تفسير كامل، سرًّا يعكس فعل الإنسان حين يكون حاضنًا للغير، بلا حاجة للشهرة أو الاعتراف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى