الأحد ٧ آذار (مارس) ٢٠٢١
قراءة في المجموعة الشعرية
بقلم الهادي عرجون

«رقصة الحلاج» للشاعر عبد الباسط الشايب

مع ترنيمة الفجر البعيد، والأجراس تهمس للراعي بنشيد الفؤاد حين يقف للقصيدة وقد سكبت دمعها على بساط من دفتر الذكريات، والكل يسأل في غفوة، لمن تكتبون قصائدكم؟، لتطل علينا (رقصة الحلاج) حين تمضي تراقص طيفا رافعا يده إلى السماء فتنساب المراقصة روح تسبح بالأنغام، هذا المولود الجديد للشاعر التونسي عبد الباسط الشايب الذي اختار له هذا العنوان الذي يوحي بالمناجاة و الرقص الصوفي عند متبعي الطريقة الصوفية والتي تهدف إلى الوصول إلى مرحلة الكمال بكبح الشهوات والرغبات عبر المناجاة، وقد جاءت هذه المجموعة في 130 صفحة عن دار الفردوس للنشر والتوزيع حيث ضمت المجموعة 30 قصيدة تنوعت بين القصائد الموزونة المقفاة التي التزمت بعمود الشعر وقصائد التفعيلة حيث نلاحظ ان الشاعر عبد الباسط اعتمد فيها على السطر الشعري تقسيما داخليا للقصيدة وما تحمله هذه القصائد من عبق التاريخ و أنفاس الأصالة، يستحضر من خلاله أدواته التي اختارها ليقول المعنى، باستثناء قصيدة واحدة خرجت عن هذا السياق مهداة إلى الذبيح مبروك السلطاني وقد بين الشاعر ذلك بقوله:" قصيدة على غير ميزان مهداة إلى روح الشهيد مبروك السلطاني".

كما أن هذه القصائد تسير سيرا منسقا فالشاعر عبد الباسط الشايب يتقن كتابة الشعر العمودي وكذلك التفعيلة بمعايير عصرية، كما يمكن القول أنه قد أخلص للوزن الشعري وموسيقاه، فالشعر العمودي عموما بالمقارنة مع ميول الكثير من الشعراء إلى كتابة قصيدة النثر بحرفية و تقنيات عصرية جعلت من قصيدة النثر في تسابق مع الشعر العمودي الذي أصبح يشكل تحديا لشعراء هذا العصر، فهو من أصعب النماذج والأنماط الشعرية لمن يروم ركوبها والإجادة فيها، على الرغم من أن المعركة ليست معركة وزن وقافية كما يتصور الكثير من المهتمين بقضايا الشعر، ولكنها قضية فكر، فيجب علينا الدخول إلى أعماقه و جوهره لندرك أنه ينطلق من منبع واحد ويتغذى من شجرة واحدة.

وأنا أتصفح (رقصة الحلاج) لم أحاول أن أحكم عليها من خلال جبة القصيدة العمودية وقوافيها التي ألبسها لها عبد الباسط الشايب في أغلب قصائده، ولكن بغية الغوص في الشعر بما هو شعر دون تصنيفه أو تبويبه بل النظر إليه على أنه رؤية إبداعية وعمق شعري. هذا العمق الذي يحلق من خلاله الشاعر بأجنحة تحلق بنا نحو عوالم الدهشة والأحلام والأمنيات وما يعتمر في النفس من حرقة وألم ومن نقاء فكري ووجودي.

فقصيدة (رقصة الحلاج) التي حملت عنوان المجموعة والتي يمكن القول أنها استأثرت بالحيز الأكبر من المجموعة رفقة قصيدة (نفطة الكوفة الصغرى)، فهذه الرقصة، رقصة الحلاج التي اقترنت بالثورة على السائد حين تمضي تراقص طيفا رافعا يده إلى السماء كرقصة زوربا، التي تصل بك تلك النشوة، نشوة التحرر الذي يربطك بكل منغصات هذا العالم المادي، هو الهروب من هذا السواد، هو الالتصاق بالأرض التي تسير عليها. حملت جملة من الرموز التاريخية والبيئية والتي تختلف في أشكال بنائها من نص إلى آخر في مختلف نصوص المجموعة، وهذه الرموز التي وصفها عدنان حسين قاسم بأنها " تختلف باختلاف أشكال بنائها فمنها رموز تستغرق القصيدة كلها وتشكل محاورها وأخرى تعد جداول صغيرة تتدفق من شعاب جانبية وتصب في المجرى الكبير لتلتحم به".

بالإضافة إلى استخدم الشاعر الكثير من الرموز الدينية وقصص القرآن، ومن هذه الرموز وقصص القرآن نذكر منها :( قصة الخضر مع موسى/ قصة يوسف وأخوته/ قصة الملكة بلقيس/ قصة أهل الكهف/ عجل السامري) وغيرها من القصص، باستعمال أسلوبية التعبير والتأثير انطلاقا من جملة من المدلولات سواء كانت دلالة ايحائية أو تصريحية باعتماد على التناص القرآني ومثال على ذلك قوله:

"والخضر دارى في السفينة كيده"(ص91).
"يا صبر يوسف ان حدسي قاتلي"(ص92).
"يا غصن سرقوا صواع مليكهم ورموا به/ في الجب وانتبذوا"(ص93)
"يا غصن مريم جد بغامر ثمرة"(ص93).
"وسعى الينا السامري بعجله"(93).
"واتبع عصا موسى تحطم طوده"(ص95).
"ان الغزاة اذا استباحوا دولة"(ص105).
"كي يستعيد قميصي/ بالدم البصرا"(ص109).
"هل أخبروك برحلتي في تيههم/يوم اشتروا بالعجل ظل الجوهرة"(ص112)

و في سياق آخر يستعمل عبارات وردت في القرآن وذلك حين يقول في قصيدة عن الشهيدة (سارة الموثق) و يصفها بالمؤودة باستعمال عبارة (بأي ذنب قتلت) بقوله:"فبأي ذنب قتلت/ تلك التي هرع الربيع لدربها"(ص75)، وأيضا استعماله لعبارة (ألهاكم التكاثر) لتصبح (ألهاكم الخصام)، بالإضافة إلى استعماله لعدد من الرموز الأخرى والتي تناولها الشاعر عبد الباسط الشايب من زاوية مختلفة و مغايرة لا تتعارض مع النص الأصلي، فـ"استحضار النص القرآني والتناص معه في الخطاب الشعري يعني إعطاء مصداقية وتميز لدلالات النصوص الشعرية، انطلاقا من مصداقية الخطاب القرآني وقداسته واعجازه"(1)

مستعيرا بعض الأدواته الواردة في قصة يوسف مثل (البئر والذئب والقميص) حين يقول في نص (تسعون) ص(49) والذي يتحدث فيه عن التجنيد العقابي للطلبة في محتشد رجيم معتوق. فهو يقع في منطقة عسكرية نائية تبعد 160 كلم عن مدينة قبلّي قرب الحدود الجزائرية، رغم أن القانون التونسي يجيز تأجيل الخدمة العسكرية لكل مواطن يزاول تعليمه، إلى حد سن الثامنة والعشرين:

"يا أمة ...
ردي قميص مفارق...
نهشت ذئاب الليل
قلبا يخفق
ما مات يوسف
و الذئاب بريئة
إن الذئاب إذا أغارت
تشفق"

مع العلم أن الشاعر قد وظف هذه الرموز والتناص القرآني بطريقة فنية، حاول من خلالها الحفاظ على جوهر الفكرة مولدا منها معاني ومضامين مختلفة يقصد بها الواقع المعيش بتركيب أحداث تاريخية ودينية بأحداث واقعية معاصرة تبين موقف الشاعر من الوجود ومن حال هذه الأمة.
كما نلاحظ اعتماد الشاعر على تكرار بعض الثيمات كـ: (القصيدة/ القصائد / الشعر/ المشاعر/ أشعار/ الشعراء) في مختلف قصائده والتي يمكن القول أنها لا تقوم بنقل أحاسيسه ومعانيه فقط، بل تخوض معه عبء التجربة ومعاناتها لتتحول الأدوات الكتابية إلى فعل شعري: يقول في نص (قف للقصيدة) ص124:

"قف للقصيدة إن أردت غناءها
واكتب بنبضك ماءها
وسماءها
وافتح دفاترك القديمة واستعد
من عطر وجدك ما يمد رداءها
والزم دثار حروفها واكتب بها
نغما يزيح عن القلوب
شتاءها
فالدفء دفء قصيدة سكبت على
تعب الحياة فعطرت
أرجاءها"

فالقصيدة قد بدت قرين الشاعر، وغير منفصلة عنه، لذلك نجد اسم (القصيدة) بكل اشتقاقاتها اللفظية قد تكررت في النص (22 مرة)، وكذلك مفردة (الشعر) والتي تكررت بدورها (20 مرة)، فالقصيدة تصرخ بالشاعر أحيانا ويصرخ بها، يركض خلفها ليدركها فيصرعها وينفخ فيها من روحه ليصنع عالمه الشعري الخاص به.

ومن هنا جاءت هذه القراءة التي مردها الوقوف على الجوانب الوجدانية والعاطفية والفنية لدى الشاعر عبد الباسط الشايب مفعمة بلحظات الألم والحزن، ألم الحيرة والقلق على الوضع الذي آلت إليه الأمة العربية، التي يقول عنها تارة بأنها تلك (البلاد التي تعاظمت أنباؤها) داعيا تارة أخرى الى التمسك بأمل النصر والتمكن، حاثا الشعوب والأوطان إلى النهوض كما كنت سابقا والتي عبر عنها بقوله (ص 82):

" فاسبشري يا أمة خلاقة
لا تستكين لمن طغى وتوعدا
بسواعد تبني رحاب حضارة
ضربت لها كل الخلائق موعدا"

وبذلك يمكن القول أن الشاعر عبد الباسط الشايب قد أدرك علة الأمة ووجعها، رغم ما تشهده من صراعات ورغم ما تحيط بها من دسائس ومكائد، فهذا الوطن وهذه البلاد تبقى عصيةً، لذلك نرى التكرار المكثف لـ (الوطن، البلاد، الأمة) والتي تكررت مجتمعة حوالي 50 مرة في مختلف نصوص المجموعة، فمنها تعديد لما آلت إليه الامة من مسايرة السياق إلى أمة مرتابة، ومحرومة سلبت حماها، ومنها حث على النهوض والوقوف في وجه الظلم حين تتزين البلاد، هذه الأمة الخلاقة التي إذا ما سقطت نهضت بالكادحين ومن بالمجد يلتحف.

فالشاعر الذي يصف عذابات الوطن ويصف البلاد من خلال أحاسيس شعوب الأمة التي لا تختلف في مصيرها رغم ما تحمله هذه النصوص من نقد واضح وصريح لهذه الأمة التي نظر بعينين للشاطئ وهو يلف إليه الطفل السوري "إيلان" الغريق على شواطئ الهجرة محاولا بذلك ايقاظ أمة مرتابة حيث يقول:

"في أمة عمدت مسايرة
السياق...
"شيخون" خان، والشيوخ تملقت
كهزيمة في السبق
سابقت السباق..."(ص106).
وكذلك في قوله:
"آه على أمم ضاع الركاب بها
هل ينفع اللوم أم هل ينفع الأسف؟؟
هبوا إلى صنم تاه البشير به
كل العبيد على أعتابه وقفوا...
في مسخة لحديث صاح كاذبه
عودا إليه إذا لم يبق منعطف..."(118).

وبما أن الشعر نتاج للمشاعر والأحاسيس فقد أفرز لنا شعره جملة من العواطف الكامنة في نصوصه بدت صريحة تارة وخفية تارة أخرى، فالشاعر عبد الباسط الشايب لا يلجأ للغموض المبهم بل يلجأ للرمز الجلي ليعطي الفكرة شكلا محسوسا تقوده في رحلة دلالية ممتعة تتزين بأزياء متباينة، مع تصوير صور مألوفة محسوسة قادرة على نقل المعنى.

كما تقودنا إليها موسيقى الشجن بما تحمله نصوصه من أحاسيس، معتمدا على التنوع في مواضيع القصائد، ولكنه في مجملها قد التزم بصورة واضحة للتعبير عن هموم الوطن. وبذلك يلامس الشاعر الواقع ليعبر عن موقفه من الوطن والأمة وما يحدث فيها، وفي التعبير الفني عن ذلك الموقف.

وفي الختام إن البحث في نصوص عبد الباسط الشايب لا يمكن أن يلم بكل ما في شعره من أساليب وتقنيات استعملها لطرح أفكاره وبثها للمتقبل ومع هذا حاولنا إلقاء بعض الضوء على بعض الجوانب الفنية في شعرية من خلال مجموعته الشعرية (رقصة الحلاج)، كما يمكن القول إننا ونحن نقرأ قصائده تداهمنا جملة من الأسئلة دون أن تتركنا نرتاح من عبء هذه الأسئلة ولو قليلا لتعميق دلالة القصيدة ولكنه باستعمال أدوات الاستفهام (من/ هل/ كم/ هلا...) لا يقف عند حدود الاستفهام فقط، بل يقف على فضاءات وكأنها أجوبة لهذه الأسئلة، (لمن نكتب؟) هذا السؤال الذي طرح أكثر من مرة، وهذا ما يشير بأن وجع الكتابة من وجع القصيدة، فكل قصيدة من قصائده معجونة ومصبوغة بالوجع والخيبات والألم والرفض والظلم. وما لم يستطع أن يراه جليا قائما على وجعه الواقع، يحاول أن يسعفه الخيال لتحقيق سمو هذه الأمة ورفعتها وانتفاضتها أمام شعوب العالم.

 1) محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية في الشعر الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1995، ص126


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى