الأحد ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم سلوى أبو مدين

زارنا الغيث

سوف أتحدّثَ عنْ والدي رحمهُ الله تعالى الذي رحل الأحد الماضي الأستاذ والأديب صاحب التنوير في تفعيلِ دور النقد وصاحب حِراك المشهدُ الثقافي عبد الفتاح أبو مدين

حكايةُ اختزنتهَا ذَاكِرتِي، لفتىً لم يتجَاوزْ عَتباتِ الطفُولةِ، خَاضَ رحلةً في معتركِ الحياةِ، بكلِّ مَا فيهَا من قسوةٍ، وفقدٍ، ومعاناةٍ.
ذاكَ الطّفلُ، الهَادِئُ، الخجُولُ، لمَ يَعرِفْ ما هُو اللّعبُ مع الصِغارِ، بل حفرَ في الصخرِ بيدِهِ الصغِيرةِ التي أصابتهَا الجُروحُ، وعَجَنَ الخُبزَ، ورفعَ الحِجَارةَ الثقِيلةَ في رَمضانَ والجوُّ قائِظٌ واجَهَ الأمواج المتُلاطمةَ بشجَاعةٍ، وتَحملتْ رُوحُهُ وجَسَدُهُ النحيلُ الكَثيرَ من المُعاناةِ والمُكابَدةِ، وذَاقَ مَرَارةَ الحَياةِ بكُلِ ما فِيهَا فقد كبرُ قَبلَ أوَانِهِ !

وتَمضِي الحَياةُ تاركةً في نفسِهِ ثقالاً من الأَلمِ والوحدِةِ، بَعدَ فقْدِ الأبِ، والأمِ الرّؤومِ.
حياةٌ صاغتها المعاناة وحكاية غرست في نفسهِ روحُ التحدي وربما ينجلي بعض هذا الحزن بقوله “حياتي ليس فيها شيء يستحق التسجيل ؛ لأنها حياةٌ من عاش اليتم، والفقر والجهل..

محطاتٌ لا تُغادِرُنيِ..

وهو يتكئُ علَى جِدارِ الفَقدِ بعدَ أنْ أصبحَ وحيداً في هذهِ الحَياةِ القَاسِيةِ، ولا يملكُ شيئاً فَعَمِلَ، وتَعامَلَ معَ أصحَابِ حِرفٍ مُختَلفةٍ، ولكنّ هذا البطلَ لم يَستسلمْ، ولم تُثنَ عَزيَمتهُ، فَخَاضَ تَجرِبةً أُخرى مُتسلِحاً بالثِقةِ باللهِ وَعَونِهِ، وبطموحٍ وإصرَارٍ، جَعَلتهُ يَشقُ طريقاً نحوَ التعليمِ، الذي لم يستطعْ مُواصلتَهُ، ثم البَحثَ عن العَملِ الذي حَصَلَ عليه بعدَ جُهدٍ، وكانَ الدّافعُ إلَى حُبِّ المَعرفةِ والقرَاءةِ، فأخَذَ يقرَأُ ويُقترُ على نفسِهِ ليقتنِيَ كِتَاباً.
كَم هي كثيرةٌ كلمةُ مُستَحِيلٍ، لكنهُ استَطاعَ أنْ يَمحُوهَا بالإرَادةِ والعزيمةِ وصنَعَ تاريخهُ بالعملِ والتعلمِ والإبداعِ.
أول من أصدر صحيفة الأضواء والرئد.

وبرزتْ مَوهِبتُهُ الأدَبيةُ في عَمِلهِ حتى وصلَ إلى ضفافِ النجَاحِ وشَغَلَ عِدةَ وظائِفَ، كانَ آخرُها رئَاسَةَ نادِي جِدة الأدبيّ.
ولنْ ننسىَ الجُهُودَ والتحدياتِ التي بذلهَا لإنشاءِ الصالةِ النسائيةِ في النادي فأشرَعَ لها الأبوابَ، وأعطيتْ المُثقفةُ، والمفكرةُ الفُرصةَ ؛ ليصلَ فكرُهَا وإبداعُهَا، ولتُشاركَ المُثقفَ على ذاتِ المِنبرِ، بعدَ أن كانتْ مغيبةً.

ولد أبي رحمه الله في شهر الميزانِ.. فهو رجلٌ متوازنٌ في حياتِهِ، يفكرُ بعقلانيةٍ، واتِخاذِ القراراتِ الموضُوعيةِ، يجنحُ إلى السلامِ والهدوءِ، كريمٌ، وصادقٌ في تعامِلهِ مع الآخرينَ. محبٌ لأسرتِهِ، هادئٌ، قليلُ الكَلامِ، لا يُقحمُ نَفسَهُ في شؤونِ أحَدٍ، ولا يُبدي رَأيهُ ما لم يُسألْ، وَفِيٌّ لأصدِقائِهِ، بسيطٌ غيرُ مُتكلِفٍ.

منصتٌ جيدٌ، منظمٌ في وقتهِ، ناجحٌ ومخلصٌ في عملهِِ، يعشقهُ حتى النُّخاع قَلقُه دافعٌ للعملِ، وهو بالنسبةِ لهُ عبادةٌ، ويمقُتُ الكسَلَ، كان يوصينا بالمحافظةِ على الصلاةِ وقراءة القرآن.

غرفةُ مَكتبهِ بتفاصِيلهَا الصغِيرةِ، الكُتبُ المُتنوعةُ، مَقعدُهُ الدافئُ، أمامهُ طاولةٌ تستلقِي عليها أقلامٌ ملونةٌ، خاصةً قلَمَ الحبرِ الأسودِ الذي لا غنىَ لهَ عنهُ.

الصحفُ والأوراقُ، تشغلُ حيزاً فوقَ مكتبِهِ، أما الكتابُ فهو أنيسُهُ.

يقضيِ مُعظمَ وقتِهِ بين صفحاتِهِ دُونما مللٍ، القراءةُ والكتابةُ ديدنُهُ، فهو يكتبُ ؛ لأنهُ يؤمنُ برسالتِهِ، والرسَالةُ أمانةٌٌ.

الحياةُ سفرٌ.. هكذا قال عنها يَهوَى السفرَ، يقضي إجازتهُ خارجَ الوطنِ، ينشدُ الراحةَ والاستجمامَ، يختارُ فَصلَ الشتاءِ، حيثُ الجوُ الباردُ، مستمتعاً بالقراءةِ والدّفءِ، ولقاءِ الأصدِقاءِ

وأخص بالذكرِ الأصدقاء الأوفياء الدكتور عبد الله الغذامي والدكتور عبد العزير السبيل كانا يسألان عنهُ في مرضهِ كما أنهُ ما فتأ يذكرهما وهو على سريرهِ الأبيض.

كانَ يهيئُ الأجنحةَ للتحليقِ، ويُوصي الشبابَ للتسلحِ بالقراءةِ الحرَّةِ، وتعلّمِ اللغاتِ الأجنبيةِ ؛ لأنها المُفتاحُ إلى النُجحِ والارتقاءِ، كما ويطلبُ منهُم الاعتدالَ في استخدامِ الإنترنت وعدمَ إضاعةِ الوقتِ، واستثمارهُ بِقراءةِ كتابٍ.

آمن برسالتهِ، وعمل بِجدٍّ وَدَأبٍ، حمل هموم الثقافة، فأصبحَ علامةً فَارقَةً على خارطتها، كانت مقولته المشهورة الثقافة مغارم وليست مغانم.

كان أبي همة إدارية وإرادة في العمل، فهو لم في الثقافة أو لها مآرب ذاتية ومنافع شخصية، ولم يكن بُحسن زخرفاً من القول، لكنه بعمله ودأبه وجلده ينفخ الروح في النفوس المتثاقلة أو المتشائمة.

علمنا أنَ الطموح لا سقف له، ولا حدودَ، كانَ يحرضُ الربيع على تلوين وجه الخريفِ الشاحب بأزهارِ بنفسجٍ، وفراشاتٍ.

تُدهشُني إنسانيتُهُ كأنها مطرٌ قادمٌ للتوّ، يدهُ الممتلئةُ بالخيرِ كبتلاتِ زهورٍ بيضاءَ. رغمَ قسوةِ الظروفِ التي عَاشهَا، إلا أنها زادتهُ تواضعاً، وكرماً، ووفاءً، وقلباً ناصعاً كالثلجِ.

أبي ذو القلب الكبير، فكلما ذهبتُ إلى زيارته يلقاني مبتسماً قائلأ: زارنا الغيث فأجيب بل أنت الغيثُ يا أبي وأطبع قبلة هادئة فوق جبينه.

ولأبي خمسة عشر كتاباً في النقدِ والدراسةِ والسيرة، أمواج واثباج، في معترك الحياة، وتلك الأيام، حكاية الفتى مفتاح سيرة ذاتية، الصخر والأظافر، حمزة شحاته ظلمه عصره، هؤلاء عرفت، الحياة بين الكلمات، وعلامات، الذين ضل سعيهم، من أحاديث الحياة، ألف صفحة وصفحة من الأدب والنقد، أيامي في النادي، الشيخ محمد الحافظ، واصدحي يا خواطري. وتحت الطبع أيام وليالٍ.

وقد حظى أبي رحمه الله بعديد من التكريماتِ والاشادات وأهمها وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى حيث قلده الوسام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله في المهرجانِ الوطني للتراثِ والثقافةِ في دورتهِ الثالثة والثلاثين من العام الماضي.

رحم الله أبي الرافدَ الكبيرَ ر والرمز الثقافي الذي أرسى دعائمها أدعو الله في علاه أن يغفر له ويسكنهُ جناتِ النعيم وجزاه الله خيرا على ما قدمهُ لوطنهِ من خدماتٍ تحسبُ له. هو من يعطونَ الحياة بسخاءٍ وإخلاصِ ولا تفرغ خزائنهم أبداً، ظلت خزائن أبو مدين واحة عطاءٍ لكلِ من يمرُ بها.

إنه عبد الفتاح ألأستاذ وكفى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى