سحر خليفة في أصل وفصل
(أصل وفصل) 2009 هو الجزء الأول من رواية سحر خليفة الجديدة التي لا ندري من كم جزء تتكون، صدر الجزء عن دار الآداب في بيروت، ويقع في (654) صفحة من الحجم المتوسط 5،31 في 5،91سم. وقد اختارت الكاتبة صورة بالأبيض والأسود لنسوة فلسطينيات حقيقيات تظاهرن في فلسطين في القدس أمام مبنى الحاكم الانجليزي أيام الانتداب صورة للغلاف، غلاف الرواية. والصورة التي انتزعت من كتاب الدكتور وليد الخالدي ترد أيضاً في ص751 من الرواية، لتقرن سحر ما اوردته في روايتها عن مشاركة المرأة الفلسطينية في المظاهرات بالصورة.
وتري الصورة، نماذج نسوية فلسطينية مختلفة، فثمة نسوة متحررات، يرتدين التنانير والقمصان والبرنيطة، وثمة نسوة متلفعات بالسواد لا يبين من وجوههن شيء. وسحر لا تكتفي ببرهنة ما تذهب اليه، حين تكتب عن المرأة ونضالها، من خلال الصورة فقط، وإنما تلجأ، وهذا ما تفعله هي للمرة الأولى، الى توثيق كثير من الحقائق التي توردها، من خلال الاحالة الى كتب علمية وأشعار لأبرز شعراء فلسطين: ابراهيم طوقان. كأنما تريد ان تقول للقارئ ليس ما يرد في الرواية محض خيال، فلقد قاله، من قبل، أدباء ودارسون وأنا، هنا، إنما أعيد ما قالوه. نعم كأنما تريد سحر أن تقول هذا، فهي لأول مرة في تاريخها الكتابي، تكتب عن فترة زمنية لم تكن شاهدة عليها، إذ يرتد الزمن الروائي الى ما قبل ولادة سحر، يرتد الى بدايات الانتداب البريطاني على فلسطين، ويتوقف عند العام 1937، ولم تكن سحر ولدت بعد. إن استحضاراً للزمن الروائي لروايات سحر السابقة يقول لنا هذا، فلم نعد جواري لكم عالجت فترة الستينيات من القرن العشرين، و(الصبار) 976 عالجت فترة احتلال الضفة في العام 1967، و(عباد الشمس) 1979 كانت استكمالا للصبار، و(مذكرات امرأة غير واقعي) 1986 تأتي على حياة امرأة متحررة مطلقة عاشت في سبعينيات ق 20 وثمانينياته، و(باب الساحة) 1990 تتخذ من الانتفاضة الأولى مادة لها و(الميراث" 1997 تأتي على فترة أوسلو ومرحلة السلام، فيما تصور (ربيع حار) 2004 اجتياح نابلس في انتفاضة الأقصى، ولا تبتعد (صورة وأيقونة وعهد قدي) 2002 عن نهايات ق02
يرتد الزمن الروائي إذن في (أصل وفصل) الى مرحلة لم تكن سحر شاهدة عليها، خلافاً لبقية رواياتها، ولكن المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية نابلس/حيفا/القدس هو المكان الذي جرت فيه أكثر أحداث رواياتها السابقة، باستثناء حيفا، فهذه المدينة لم يكن لها حضور في روايات سحر السابقة، وسيكون لها-لحيفا-حضور لافت في (أصل وفصل).
ما يجدر، اعتمادا على ما سبق، الالتفات إليه في أثناء قراءة الرواية هو التصدير الذي صدرت به الكاتبة روايتها، لقد اقتبست سحر السطرين التاليين من باسكال وأدرجتهما في صفحات الرواية الأولى: (لا تقولوا لي لم أقل شيئاً جديداً، أسلوب ترتيب العناصر هو الجديد) ولهذا اخترت لمقالتي هذا العنوان (سيف القارئ المسبق).
في أثناء متابعتي لأعمال سحر السابقة والكتابة عنها كنت خلصت الى رأي يتمثل في أن روايات سحر تقول الثنائيات نفسها: المرأة/الرجل، والمستغِل/والمستغَل، والاسرائيلي/ والفلسطيني. وتتفرع هذه الثنائيات الى أخرى، حتى مكان روايات سحر كلها تكاد تكون نتاج مبنى ذهني واحد، بل هي كذلك. واعتمادا على هذا هل أبالغ إذا تساءلت: أمن الضروري أن يقرأ المرء روايات سحر كلها أم أن قراءة رواية واحدة تكفي للتعرف على هذه الكاتبة؟ ولا أريد أن أظلم سحر، فالقارئ مختلف، وقد يصل الى رأي مغاير لما أصل أنا إليه. وعلى الرغم من أنني، وأنا أقرأ سحر، أشعر أنني أقرأ رواية واحدة لها، فجديدها لا يختلف كثيراً عن قديمها، إذ لا أتوصل الى آراء جديدة لما كنت توصلت إليه بشأن سحر، إلا أنني أفضل ألا ألزم القراء برأيي هذا.
هل كان تصدير سحر روايتها بسطري باسكال ضربا من الدفاع عن نفسها؟ هل كانت آراء بعض النقاد حول ثنائيات رواياتها حاضرة في ذهنها؟ أكاد أجزم بهذا، وأكاد أجزم بأنها إنما اختارت سطري باسكال لأنها تدرك أن ما تقوله في (أصل وفصل)، في خطوطه العامة، اذا ما جردنا وبحثنا عن الأنساق، على رأي البنيويين إنما كانت قالته من قبل، ويستطيع الباحث والدارس، لروايات سحر، أن يمعن النظر في ثنائيات المرأة والرجل، والاسرائيلي/اليهودي والفلسطيني، ليرى أنها تكاد تكون متقاربة. هذا إذا غضضنا الطرف عن سارد سحر ولغته، وأكاد أجزم أنه واحد، وهو سحر خليفة، ما يجعلني حقا أتساءل إن كانت فكرة الكاتب الحقيقي والكاتب الضمني حقيقة، ويمكن أن يأخذ بها المرء دائما، فيميز ما بين كاتب حقيقي-أي مؤلف، وما بين كاتب ضمني داخل النص، وهي فكرة الناقد الروائي واين بوث التي اعتمد عليها أصحاب نظرية التلقي، فتكتبوا عن قارئ حقيقي وقارئ افتراضي. وإذا كنا نميز بين قارئ وقارئ، تبعاً للمستوى الثقافي، فهل حقاً يمكن أن نميز بين سحر خليفة مؤلفة رواياتها وبين راويها أو مؤلفها الضمن؟/
وأعود الى عبارة باسكال: (لا تقولوا لم أقل شيئاً جديداً، أسلوب ترتيب العناصر هو الجديد). واذا ما افترضنا أن سحر تعتقد به اعتقاداً تاماً، أدركنا أنها تقر بأن ما قالته مقول من قبل-هذا يعني أنها لم تأت بجديد، ولكن ما تؤمن به سحر هو أنها أتت بجديد في الأسلوب: أسلوب ترتيب العناصر هو الجدي) .
كما ذكرت آنفاً فقد اعتمدت سحر في بناء روايتها على كتب ودراسات وأشعار وكتب يوميات وصور و... و... وقارئ ما سبق، حين يقرأ رواية سحر هذه، يقول الجزء الأول من مقولة باسكال: لم تقل سحر شيئاً جديداً فقد قرأناه من قبل، ويبقى الجزء الثاني: ولكنها رتبت ما قرأنا ترتيباً جديداً، فالجدة لا تكمن في المعلومات، بل في الأسلوب. وهنا نتذكر ما قاله الأديب الألماني غوته عن الأدباء الكبار: "ليس الأدباء الكبار أدباء كباراً لأنهم يأتون دائماً بأشياء جديدة، وإنما هم أدباء كبار لأنهم اظهروا الاشياء، كما لو أنها تظهر لأول مرة". ثمة تشابه بين ما قاله باسكال وما قاله غوته، وتؤمن سحر بهذا الذي قالاه، وهو عموماً ما قاله النقاد العرب القدامى، وما قاله أيضاً بعض الشعراء العرب: "ما أرانا نقول إلا معادا مكروراً" و"المعاني مطروحة على الطريق، يعرفها العربي والأعجمي" و... و.... هل كان محمود درويش بالغ في التواضع حين نعت قصائده بأنها فسيفساء من نصوص الآخرين؟ وهل تولدت فكرة التناص من فراغ؟ ونص سحر الأخير - أعني روايتها، فقد أوردت كلمة رواية على الغلاف - يتناص مع نصوص سابقة كثيرة، وعبارة باسكال التي أوردتها خير تلخيص لروايتها: الأفكار مقولة من قبل، وهي واردة في كتب المؤرخين، وفي اليوميات، وفي الأشعار، وهناك صور تدلل على العبارات وتعززها، ولكن هذه الأفكار لم تكتب في نص روائي، كما كتب هنا.
وإذا ما عاد المرء الى الروايات الفلسطينية التي أنجزت قبل العام 1948، ابتداء من رواية خليل بيدس "الوارث" 1920 ومروراً برواية اسحق موسى الحسيني "مذكرات دجاجة" 1943 وبغيرها وانتهاء برواية محمد العدناني "في السرير" 1946، فإنه قد لا يجد تقاطعا معها، حين يقرأ المرء رواية سحر. قد يكون هناك تقاطع ضئيل جدا، فالروائيون لم يلتفتوا يومها الى التفاصيل، وكانت أشعار طوقان تلخص رؤيته، ورؤية سحر غالبا ما تنبني عليها، ولهذا نجدها تورد أشعار ابراهيم في الهامش، وليس هناك تعارض بين ما تفصل فيه سحر وبين ما اوجزه ابراهيم، والعكس هو الموجود، فثمة تطابق بين ما تكتب عنه وما كتب عنه ابراهيم، بل إنها تورد أشعار الشاعر لتعزز ما ذهبت إليه.
وإذا ما عاد المرء أيضاً الى روايات فلسطينية أنجزت بعد العام 1948، وارتد زمنها الروائي الى ما قبل العام 1937، مثل روايات أفنان القاسم "المسار" وناصر الدين النشاشيبي "حفنة رمال وحبات البرتقال"، فقد يعثر المرء على تقاطع ضئيل ايضاً، فالشخوص والمكان مختلفون اختلافا كبيرا. ولا أدري ان كانت سحر اطلعت على كتابات الكاتبين المذكورين، فقد أشارت الى فيصل حوراني واعتمدت على بعض نصوصه، ولم تشر إليهما.
واعتماداً على ما سبق، يمكن القول ايضاً ان سحر ليست أول كاتبة فلسطينية تكتب روايات يعود زمنها الروائي الى ما قبل العام 1948، أي إلى فترة لم تكن شاهدة عليها، فقد سبقها كثيرون.
وكان هذا الالتفات الى الماضي، بداية العقد الأول من القرن العشرين، لافتاً، وهنا يمكن الإشارة الى رواية ابراهيم نصرالله: "زمن الخيول البيضاء" ورواية فاروق وادي "عصفور الشمس". ولربما أثار المرء هنا العديد من الاسئلة: لماذا يستقي هؤلاء الكتاب رواياتهم الأخيرة من فترة زمنية لم يكونوا شهوداً عليها؟ هل كتبوا كل شيء عن زمنهم الذي عاشوه؟ هل يشعرون ان فترة ما قبل 1948 لم يكتب عنها روايات بما فيه الكفاية، والروايات التي عالجت تلك الفترة كانت الروايات العبرية؟
سأعود ثانية الى الجزء الأول من مقولة باسكال: "لا تقولوا لي لم أقل شيئاً جديداَ". هل قالت سحر في روايتها هذه شيئا جديداً أم أنها لم تقل؟
كما ذكرت، فثمة إقرار، هكذا يفهم من العبارة، أنها لم تقل شيئاً جديداً وأن الجدةّ تكمن في الأسلوب. لقد خطر ببالي شخصياً أن أنظر في صورة الآخر، اليهودي والانجليزي في روايتها، وأقارن هذه الصورة بتلك التي برزت لهذين في الأدب الفلسطيني منذ بدايات إتيانه على صورة هذين وحتى اللحظة. أنا كنت أنجزت رسالة دكتوراة وعدة أبحاث عن صورة اليهودي في أدبنا، وبحثا عن صورة الانجليز في أدبنا أيضاً، وأستطيع أن أقول ان صورة هذين - أي اليهودي والانجليزي - في رواية سحر لم تختلف في خطوطها العامة عما كتبه أدباؤنا الذين أنجزوا نصوصهم قبل إنجاز سحر روايتها، وان لاحظت مثلاً أنها تبرز صورة اليهودية تروتسكية هي روز ماير، ولم أقرأ من قبل عن نموذج مشابه تماماً لها. ويمكن قول الشيء نفسه عن صورة الحاكم الانجليزي الذي يكره اليهود ويميل الى العرب، فهذا ما لم أعثر عليه أيضاً فيما قرأت من نصوص وكتبت عنها، إذ صورة الانجليزي تبدو دائماً كارهة للعرب، وتقف الى جانب اليهود، وقد تتشابه صورة هذا الحاكم مع نماذج انجليزية كتبها أدباء انجليز في فترة معاداة اليهود في بريطانيا. طبعاً قد تتشابه صورة روز ماير مع مثيلات لها في كتب اخرى غير النصوص الأدبية، وقد تكون شخصية حقيقية حقا، فثمة يهود كانوا يدعون الى التعايش مع العرب. وروز هذه تدعو الى التعايش او الى انتاج فيلم عن شاعرين وأديبين، عربي ويهودي، وتحديداً عن السكاكيني وآلتر ليفين، لم تحضر شخصية الاخير في الرواية، وإنما استحضرت على لسان آخرين، وبدت شخصية ايجابية، ويبدو ان سحر اعتمدت فيما كتبت عنه على يوميات السكاكيني، فقد لجأ آلتر هرباً من الأتراك، الى بيت السكاكيني، وآواه هذا، لقد تذكرت وأنا أقرأ الاسم آلتر ليفين رواية الكاتب السوري ممدوح عدوان "أعدائي" 2000، وقد أنجزت عن صورة اليهودي فيها دراسة موسعة، ذلك أن ممدوح عدوان كتب عن آلتر ليفي الذي كان مطارداً من ضابط نابلسي هو عارف، وقد برزت صورة سلبية جداً لليهودي هذا فيها، فهل آلتر ليفين في رواية سحر خليفة هو آلتر ليفي في رواية ممدوح عدوان؟ اذا كانت الاجابة نعم، فيجدر معرفة المصادر والمراجع التي اعتمد عليها الروائيان سحر وممدوح في رسم صورة هذه الشخصية اليهودية، وتتبع التشابه والاختلاف فيما كتباه، وفي تصور العربي لها في الروايتين، وهذا، لا شك، أمر مثير ولافت، فرواية عدوان تكتب أيضاً عن زمن روائي لم يكن ممدوح عدوان شاهداً عليه، إذ تجري أحداث روائية ما بين العامين 1914 و1918، وهو زمن تكتب عنه سحر خليفة وتستحضر شخصيات يهودية عاشت فيه، ومنها آلتر ليفين.
ولا أريد أن أنهي الكتابة دون الإشارة الى أمرين، الأول أن رواية سحر لا تخلو من عنصر التشويق، فالمرء ما إن يبدأ قراءتها حتى تستبد به الرغبة لإنهائها، وهي إن اختلفت عن روايات سحر السابقة فإنما يكمن الاختلاف في أن صاحبتها تلجأ لأول مرة الى التوثيق في كتابة النص الروائي، وقد يكون هذا هو الجديد في الأسلوب. والثاني ان سحر مثل كتّاب كثيرين، أخذوا ينعزلون عن واقعهم، وبالتالي ما عادت صلتهم به كما كانت، وأرجح أن هذا هو السبب الذي جعلهم يعودون الى الماضي والكتب ليستعينوا بها على إنجاز نصوص جديدة تخصهم، وقد أكون مخطئاً