الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ابراهيم الرياحي

سييرا دي لاغوار

كان جسم أمي متخشبا، أصابها الفالج منذ أعوام، لهذا لم يلحظها الماركيز دي كارثينا إلا حين خروجه، لكنها كانت أول من لمحته و جحظت عيناها، حتى كادتا تفارقان محاجرها، كنت منشغلا في خلط بعض الأصباغ لما إقتحم المركيز ورشتي في بيت خوان، يرفل في بزة سوداء مخملية كنست معها نشارة الخشب، إلتفت بسرعة إلى الوراء و أنا أرى نظرات أمي المرتاعة، كدت أن أهم بفتح قنينة صغيرة أربطها إلى عنقي، و أشرب سمها،لم يكن عندي شك أنهم جاؤوا لإعتقالي بعد أن بلغهم قتلي لأحد الأشخاص،الدون خوان صاحب البيت أخبرني أن عسكر المركيز يفشتون عني في كل مكان،أنا خيرينمو سبينوزا، لم أحمل في حياتي سوى فرشاة الرسم، المرة الوحيدة التي حملت فيها خنجرا قتلت به شخصا،رأيت المركيز يتشمم بأنفه مثل كلب خليطا من رائحة الشمع المذاب و زيت الكتان

"من منكما خيرينمو سبينوزا؟"

لم يكن سواي في الغرفة،و كلب خوان باسط ذراعيه،لم ترق لي أن يسويني ذلك الجلف بكلب، رمى برقعة مختومة بشمع أحمر على طاولتي،أخبرني أنه أمر من جلالة الملك فيليب الثالث نقع إصبعه في صبغة قرمزية ليرسم صليبا قانيا على ظهر الطاولة،ثم مسح إصبعه الذي تلطخ بكم قميص و هو يقول "ستحظى بشرف تمجيد تاج أراغون"

لم يذكر تفصيلا آخرا عن نوعية المهمة،تولى بظهره و أخبرني أن فرقة من الهوسار ستأتي لإصطحابي و حذرني من مغبة إفصاح السر لأحد،رأيته يتوقف عند رأس أمي يحملق إليها و يقول "و أنت سيحملونك على محفة إلى المحرقة"
وصل الدون خوان مالك البيت بعد لحظات من مغادرة المركيز،يطمئن على أمي و يرى فاعلية عقاره الذي وصفه لها،خليط من الزعفران و الأشنان و اليانسون، قال أنه سيعيد عافيتها،ظل يجس أطرافها قبل أن يتحول عنها و ربما لمح الرقعة المختومة بالشمع الأحمر، و المفضوضة، تلقفها و كرر كلمات مسموعة إهتز على وقعها جسم أمي، مرسوم طرد، إستئصال هراطقة،إنتصار للإيمان توقف الدون خوان عن القراءة و نقل بصره بين الظرف و بين أمي الثاوية على سدتها
فهمت لماذا رجع جسدها إلى تخشبه فهم الدون خوان أن الملك فيليب الثالث أصدر مرسوم لطرد المورسكيين من أرض أراغون و قشتالة، يريد أن يؤرخ هذه اللحظات الفارقة و أوعز إلى ثلة من الرسامين ليرسموا لوحات،و أنا واحد من الذين سيتعين عليهم رسم إحداها

حمل الصبي خيمنث صمغا قرمزيا جمعه من أمنان تنمو على أشجار البلوط،إكتشف أن المركيز دنس صبغه و رسم به صليبا،مضى وقت من الزمن يعمل خيمنث عندي يحمل لي الأدهان،جاء أول مرة يحمل أباه ليتداوى لدى الحكيم خوان،منذ أن مات والده صار لا يفارقني،حكى لي كيف أن أعضاء الخيرمانيا داهموا بيتهم و إفتكوا أخاه عنوه ليعمدوه في الكنيسة بإشراف الأسقف بيريرا،حاول أبوه التصدي لكن عضوا منهم دفعه فإرتطم رأسه

بقيت طول اليوم أترقب وصول عسكر المركيز،أتحفز مع كل قرقعة خيول أو صهيل،في نفس تلك الليلة حينما إجتمعنا حول ضوء الشمع الواني،أخبرني بأنه قادر أن يكتب آية قرآنية في عيني القديس بطرس يجعلها تقطر مع دموعه،و يجعل الهلال يشع من بؤبؤ عيني الملك فيليب نفسه،لم أخذ كلامه على محمل الجد،لا غرو أن خوان يريد تسليتي قبل أن تأتي فرقة من الهوسار تعتقلني،تابعت الدون خوان و هو يبسط كتانا رقيقا مثل تلك الأقمشة التي ألصقها إلى ألواح الخشب و أرسم عليها،ثم يعصر حبات الرمان حتى صار له عصير قرمزي غمس فيه ريشة و رأيته يكتب على الكتان،لا أعرف ماذا خط،بل بدا لي أنه لم يكتب شيئا،و لكن حينما قرب ضوء الشمعة منها لمحت حروف الألخميادو،نظرت إلى خوان الذي تنصر و حول مثلنا عن ديانته،

"ربما تريد أن تحملنا إلى محرقة يا خوان أو أن تتطاير رؤسسنا من تحت مقصلة"

ظل خوان هادئا فيما واصلت

"كيف تريد مني أن أجعل من لوحة يريد أن يخلد فيها الملك نفسه رقا للغتنا المحظورة"

رعانا الدوق خوان منذ كان عمري إثني عشر، كفلني أنا و أمي التي رضيت أن تعمل عوض عن أبي، إعتقلته عصابة الخيرمانيا من تحت شجرة زيتون، لم تفارقها أمي منتظرة عودته، صارت شجرة جاثمة، تتيبس و تمد عروقها في الأرض، قالت لي مرة و هي تدفن حبل سرة أخي في تراب بيتنا أنها تريد أن تبقى أرجلنا مشدودة إلى أرضنا، و أفئدتنا معلقة إلى بلنسية، وقبل أن يصيبها الفالج باحت لي بسر من شأنه أن يهز جبال سييرا دي لاغوار قالت لي بأن إسمي ليس جييرنيمو سبينوزا إنما موسى عبد الله

لم أشأ أن أخبر أحدا بهذا السر،حتى خوان سانشيز إكتشف الأمر من خلال فرشاتي على لوح الرسم،كنت أؤدي صلاة الظهر بحركات الفرشاة

جاءت فرقة في الصباح أخدتني إلى البلاطّ،من حسن حظي أن أمي كانت راقدة لم تنتبه،وجدت عددا كبيرا من الرسامين حشرهم الملك فيليب الثالث،تعرفت على أحدهم لاحقا كان فرانثيثكو بيرالتا،أخبرني بشئ كدت لا أصدقه،بأن فيليب لم يجمعنا لمجرد أن نرسم لوحات له،بل لأن القائد ميلني الثائر الموريسكي في جبال سييرا دي لاغوار لم يكن سوى رساما مثلنا، كان يرسم أيقونات لقدييسيين قبل أن يثور، لهذا صار فيليب يتحيط

حضر الأسقف بيريرا و دوق ليرما فرانثيثكو غوميز دي ساندوفال و المركيز كاريو دي توليدو، ثلاثتهم كونوا لجنة،رشقتنا أعينهم كالسهام،و رغم أن ثلاثتهم أجمعوا أن تحتل صورة الملك المبجل فيليب الحيز الأكبر للوحات، لوحات الطرد،فقد رجع كل واحد من الثلاثة في غفلة من الآخرين،بطلب أن يكون حضوره لافتا أكثر من الملك نفسه، و نكتب بالقشتالية إسمه إن إستدعى الأمر ذلك

كيف سأرسم مشاهد الطرد،إن كانت اللوحة ستعج بهم،و كل واحد من ثلاثتهم يبغي أن يخلد فيها نفسه و يمسح أكبر قدر من اللوحة،

كانت أصعب لوحة هي لوحتي بلا شك،لم تكن المواضع مكشوفة و منبسطة كما هو الشأن في لكانتي و فيناروس،صعد مليني إلى أعلى سييرا دي لاغوار و تبعه أغلب الأهالي، خلت أن المركيز دي كارثينا و بتوصية من الملك سيتخلى عن فكرة رسم لوحة تطارد ميليني و رفاقه، لأنهم ستظهرهم في مظهر الأبطال و هذا ما يريده فيليب، و ما زاد يقيني أنه تلكأ في مراجعتي على عكس بقية الرسامين،الذين كان يراجعهم كل يوم، لكن ذلك اليوم جاءني خطاب من المركيز يطلب مني الحضور، رافقت عسكر المركيز إلى سييرادي لاغوار،تقطعت أنفاسي و أنا أصعد السفح،و ندفت بعض الثلوج،لم يلزمني المركيز القتال معهم و تعقب الثائرين، كانت مهمتي الأولى أن أسجل الوقائع بعيني و أرسم تضاريس الجبل و الطبوغرافيا، حالة واحدة لا سبيل فيها إلا حمل السلاح و مواجهة الثوار، حينما ينقص عسكر أرغونة بالأمس إستأجر الدون خوان سفينة لمباردية ليهاجر إلى إفريقية،قبل أن تنتهي مهلة ثلاثة أيام، باع كل شئ حتى البيت الذي سكناه،فيما هاجر خيمنث إلى المملكة الفرنسية يحمل برقية إلى الملك هنري الرابع،رفض خوان و خيمنث أن يبقيا و يأخذ حيزا من اللوحة رغم مقترحي، ضرب عسكر المركيز دي كارثينا حصارا حول جبل سييرا دي لاغوار،كان هدفهم قطع الطريق عن المؤونة أن تصل الثائرين،ركز على كل طريق و فج فرقة تراقبه،إن لم تقتلهم السهام و الرماح سيقتلهم الجوع،كان المركيز حريصا على تفاصيل اللوحة بمثل حرصه على المعركة،لم يهتز حينما نقل له الراهب بيريرا أن وفدا من مور بلنسية هرعوا للمملكة الفرنسية،و من غير المستبعد أن تطل علينا جيوش البروتستانت في أي وقت،

في تلك الليلة بينما عسكرنا أسفل الجبل تهاطلت علينا كسف من الحجارة رماها الثائرون، لم تحدث ضررا كبيرا،مزقت بعض الخيام و أصابت بعض الجنود، إحدى الحجارة سقطت على لوحتي و ثقبتها مما أجبرني على إعادة الرسم، و لكن حينما تمعنت في الحجارة وجدتها حجارة الرحى التي كانت في بيت الدون خوان،أذكر أنه فك آلة الرحى مرة و كتب عليها كتابة الخميادو، الدون خوان في أعالي جبل دي لاغوار يرابط مع إخوانه، لم يسافر

نفدت حجارة الثائرين بعد أن نفدت مؤونهم مما أجبر الكثير منهم على النزول و الإستسلام، صعد عسكر المركيز لكنهم لم يجدوا أثرا لميليني، ألزمني أن أصوره مقتولا برمح صليبي رغم أن ذلك لم يكن صحيحا، و مما لم تره عيني ،بحسب مركيز دي كارثينا فاللوحة بلا معنى و لا قيمة إذا لم يظهر فيها ميليني مدحورا

ثلاث سنوات قضيتها مع اللوحة، و لم تظهر بعد للعلن،ثلاث سنوات و سكان سييرا دي لاغوار يتقاطرون أمام عيني من هامة الجبل مثل جدائل تنسدل من مفرق رأس،و ثلاث سنوات تمخر سفنهم البحر و متوجهة إلى إفريقية، و تبدو صواري سفنهم المنتفخة مثل أهلة ضئيلة إنتظمت في السماء ثلاث سنوات ما يزال الرمح يخترق صدر القائد ميلني


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى