الجمعة ٣١ آذار (مارس) ٢٠٢٣
بقلم روعة أحمد سنبل

شجرةُ القبّعاتِ الصّوفيّة

النص الفائز بالمرتبة الأولى في مسابقة ديوان العرب التاسعة في الكتابة للأطفال

الصّبيُّ النّشيطُ فوّاز، يحبُّ المغامراتِ واكتشافَ الألغاز، يعيشُ في الجزيرة المَنْسيّة، وهي جزيرةٌ فقيرة، بعيدةٌ وصغيرة، لو بحثتُم في الخريطة، فستجدونَها بعدَ كثيرٍ من العَناء، وسطَ المحيط، كبقعةٍ صغيرةِ سوداء.

سكّانُ الجزيرةِ قليلون، وفيها عشرون طفلاً فقط، ومدرسةٌ وحيدة، وهناك، قربَ المدرسة، يقعُ بيتُ فوّاز.

انتهى دوامُ المدرسةِ قبلَ قليل، فخرجَ الأطفال، وضعوا حقائبَهم وسطَ السّاحة، عندَ الشّجرة اليابسة، وراحوا يلعبون، كان فوّاز يركضُ ضاحكاً، وفجأةً تجمّدتْ حركتُه، واختفتْ ضحكتُه، هل تعرفونَ لماذا؟

"احذرْ يا فوّاز، لقد اقتربتَ من بيتِ الجدّة الرّماديّة".

سمعَ صديقتَه يارا تقولُ هذا، فتوقّفَ في مكانه.

كانت الجدّةُ الرّماديّةُ عجوزاً وحيدةً نحيلة، لا تخرجُ من بيتِها إلا مرّاتٍ قليلة، لكنّها تراقبُ الأطفالَ من نافذتِها دوماً، فيخافونَ منها، ويطلقونَ عليها هذا الاسمَ لأنّ كلَّ أشيائِها رماديّة، خصلات شعرِها، وثيابها البالية، وعكّازها، وستارة نافذتِها العالية.

ركضَ فوّاز مبتعداً، ولم يجرؤْ هو أو أصدقاؤه على النّظرِ إلى النّافذة، تابعوا لعبَهم، لكنْ، بعدَ دقائق، حدثَ أمرٌ جعلهم يقرّرون العودةَ إلى بيوتِهم مسرعين.

نفختِ الرّيحُ بإصرار، فتجمّعتِ الغيومُ السّوداء، وهطلتِ الأمطار، رفعَ الأطفالُ معاطفَهم الرثّة ليغطّوا رؤوسَهم، لكنّ قطراتِ المطرِ بلّلتْ شعرَهم، فارتجفتْ أجسادُهم، "ليتَ لدينا قبّعاتٍ صوفيّة" قال فوّاز، واقتربَ من الشّجرةِ ليأخذَ حقيبته، وكانت أمنيتهُ الصّغيرة، هي أمنيةُ كلِّ أطفالِ الجزيرة.

في منتصفِ تلكَ اللّيلةِ الشّتويّة، هبّتْ عاصفةٌ ثلجيّة، وعندَ الشّجرةِ اليابسة، حدثَ أمرٌ صعبُ التّصديق، لم يرَهُ سكّانُ الجزيرةِ لأنّهم كانوا يغطّونَ في نومٍ عميق، لكنْ، في الصّباح الباكر، رأى فوّاز وأصدقاؤه شيئاً عجيباً.
كانت الأغصانُ الخمسةُ للشّجرة اليابسةِ النّحيلة، قد اكتستْ بأوراقٍ خضرٍ جميلة، ومن كلِّ غصنٍ تدلّتْ قبّعةٌ صوفيّة، بخطوطٍ خضراء وبُنيّة، حدّقَ الأطفال بالشّجرة بدهشة، ثمّ مدَّ فوّاز بتردّدٍ يدَه المرتعشة، قطفَ قبّعةً وارتداها، فشعرَ بدفءٍ يحتضنُ جسدَه كلَّه، ثمّ تجرّأ أصدقاؤه وقطفوا القبّعاتِ الأربعِ الباقية.

ظلّ فوّاز يفكّر بالقبّعات، " لا بدّ أنّ شيئاً حدثَ في اللّيل، وقد يحدثُ مرّةً أخرى، يجبُ أن أكتشفَ هذا اللّغز"، قال ليارا، ثمّ نظرَ إلى الشّجرةِ السّحريّة، وابتسمَ فقد خطرتْ له خطّةٌ ذكيّة.

في تلك اللّيلةِ تناولَ فوّاز عشاءَه بسرعة، "تصبحانِ على خيرٍ" قال لوالدَيه، ودخلَ غرفتَه، لكنّه لم ينم، بل جلسَ عند النّافذة، وأخذَ يراقبُ الشّجرة، فعلَ أشياء كثيرةً كي يبقى مستيقظاً، قرأ قصصاً مشوّقةً خياليّة، ورسَمَ، ولعبَ بعضَ التّمارينِ الرّياضيّة، وقبلَ منتصفِ اللّيل، شعرَ بالنّعاس الشّديد، بدأ يتثاءب، وقرّرَ أن يغمضَ عينيه قليلاً، ولن تصدّقوا ما حدث!

"هيّا يا فوّاز، حانَ وقتُ المدرسة" سمعَ صوتَ أمّه، ففتحَ عينَيه، ورأى أشعّةَ الشّمسِ في الغرفة، واكتشفَ أنّه غرقَ في النّوم.

نظرَ نحوَ الشّجرة، فرأى خمسَ قبّعات، وشعرَ بخيبةٍ كبيرة، لكنْ، هل تعتقدونَ أنّه سيستلم؟ بالطّبعِ لا.
"لن ألعبَ اليوم" قال فوّاز ليارا بعد المدرسة، وذهبَ إلى البيت، كتبَ واجباتِه، ثمّ نامَ ساعتَين، واستيقظَ نشيطاً.

تلك اللّيلة، شربَ فوّاز ثلاثةَ فناجين من الشّاي كي يطردَ النّعاس ويراقبَ الشّجرةَ، وعند منتصفِ اللّيلِ تماماً، اتّسعتْ عيناهُ دهشة، فقد شاهدَ أحدَهم يقتربُ في الظّلامِ من الشّجرة، ألصقَ فوّاز وجهَه بالنّافذة، وفجأةً حدثَ أمرٌ غريب.

سطعَ من الشّجرةِ ضوءٌ أخضر مبهِر، جعلَ فوّاز يغمضُ عينَيه، وحين فتحَهما بعدَ بُرهة، كان الضّوء قد انطفأ، لم يرَ أحداً عند الشّجرة، بل رأى قبّعاتٍ جديدة، فشعرَ بالخيبة.

"لن أستسلم" قال فوّاز بإصرار.

وفي اللّيلة التّالية، خرج بهدوءٍ من بيتِه قبلَ منتصفِ اللّيل، واختبأ خلفَ جدارٍ قريبٍ من الشّجرة، وبعد دقائق، سمعَ صوتَ خطواتٍ وطرقاتِ عكّازِ على الأرض، فارتجفَ خوفاً، وأعتقدُ أنّكم قد تتوقّعونَ السّبب.
نعم، لقد رأى الجدّة الرّماديّة.

اقتربتِ الجدّةُ من الشّجرة، وهمستْ:

"مرحباً أيّتها الشّجرة، لقد صنعتُ القبّعة الأخيرة، نفدتْ خيوطي الصّوفيّة، وما زال في الجزيرةِ خمسةُ أطفالٍ يشعرونَ بالبرد، هل ستساعدينني اللّيلةَ أيضاً؟"

بيَدٍ مرتجفةٍ علّقتِ العجوزُ القبّعةَ على أحدِ الأغصان، فاهتزّتِ الشّجرة، وهمستْ:

"سأساعدكِ طبعاً".

سطعَ الضّوءُ من الشّجرة، وحين انطفأ، ظهرتْ قبّعاتٌ جديدة، ابتسمتِ العجوز، شكرتِ الشّجرة، وذهبتْ إلى بيتِها.

خرج فوّاز من مخبئِه، فسمعَ صوتاً يخاطبُه.

"ها قد اكتشفتَ اللّغزَ يا فوّاز"، قالتِ الشّجرة.

ضحك فوّاز، وشكرَ الشّجرةَ على القبّعات، فقالت:

"الشّكرُ للجدّةِ الطّيّبة، فقد أرادت أن تساعدَكم، وكانت حزينةً لأنّها لا تملكُ سوى سُترةٍ صوفيّةٍ بُنيّة، وأخرى خضراء، تكفي خيوطُهما لصناعةِ أربعِ قبّعاتٍ فقط. صنعتِ القبّعةَ الأولى وعلّقتْها على غصني، ليأخذَها أحدُكم صباحاً، لكنْ، حين لمستْني أصابعُها الحنونة، أورقتُ وصرتُ شجرةً سحريّة، رغبةُ الجدّةِ بالعطاءِ جعلتْ أغصاني تثمرُ قبّعاتٍ صوفيّة، وحبُّها للخيرِ جعلَ أجسادَكم دافئة".

شعرَ فوّاز بالنّدم، لكنّه ابتسم، فقد خطرتْ له خطّة.

في مساءِ ذلكَ اليوم، طُرقَ بابُ الجدّةِ ثلاثَ مرّات، وهو أمرٌ لم يحدثْ منذُ سنوات، وحين فتحتْ، رأتْ فوّاز ويارا، ومعهما أطفالُ الجزيرة، يحملون خبزاً وحليباً وفاكهةً كثيرة، فرحتِ الجدّة بالهدايا الّتي في أيدي الأطفال، وفرحتْ أكثر بالحبِّ في عيونِهم.

لم تعدِ الجدّةُ بعد ذلكَ وحيدة، ولأنّها مريضةٌ ولا تخرجُ من بيتها، صارَ الأطفالُ يزورونَها، ويساعدونَها، وحينَ يلعبونَ في السّاحة، ينظرونَ دوماً نحوَ نافذتِها، ويلوّحونَ لها.

حدثتْ هذه القصّةُ منذُ زمنٍ بعيد، لكنَّ الشّجرةَ اليابسةَ ما زالت في منتصفِ كلِّ شتاء، تُثمرُ قبّعاتٍ صوفيّةً لأربعِ ليالٍ متتالية. إنْ زرتُمْ يوماً الجزيرةَ المَنْسيّة، فيمكنكُم أن تروا الشّجرةَ السّحريّة، وإنْ حالفكمُ الحظُّ، قد تحصلونَ على قبّعةٍ جميلةٍ صوفيّة.


مشاركة منتدى

  • مع السلام والاحترام
    شكرًا لكل المسئولين في ديوان العرب على نشر قصة رائعة جدًا ونقية وسماوية.

    تسجل السيدة روعة أحمد سنبل رقماً قياسياً في كيفية دعوة الأجيال الصغيرة والأطفال وتذكيرهم بأناقة لإعادة اكتشاف الكنوز المخبأة على شجرة اليابسةِ وكيف يمكنهم بأعجوبة التقاط هدايا حقيقية وغير متوقعة من هذه الشجرة المهملة والمنسية، وكيف يمكن للهدايا المخفية أن تحميهم من أضرار العالم الخارجي.
    رسالة جميلة أخرى في هذه القصة الرائعة هي كيف يعيش الحب في قلب الجدة القديمة والمنسية، وكيف يمكن أن يزدهر ويخلق معجزات حقيقية.
    علاوة على ذلك، فإن مدى الحب والتضحية من الجدة يفوق كل التوقعات
    التي تذكر مرة أخرى بالجمال والكنوز المخبأة في قلب الجدة.
    في رأيي أن هذا هو الانعكاس الحقيقي للأمهات السوريات في الوقت الحاضر يحمن أطفالهن في ظل ظروف حرب غير عادلة للغاية، ورعب ومشقة.
    مع أطيب التمنيات للسيدة روعة أحمد سنبل.

  • احسنت ولا فض فوك كتبتي لاعظم واخطر عنصر في المجتمع وعليه اقول/الطفل هو كنز وقوة بشرية حقيقية، والطفولة كمرحلة عمرية، قد تظهر مرحلة عابرة، لكنها في الاصح تشكل اللبنة الأساسية لهوية رجل المستقبل، ان البذور التي يتم زرعها في هذه الحقبة، هي التي سوف تعطي اكلها في المستقبل، مكونة النسق الإقليمي والثقافي للمجتمع بأجمعه. ومرحلة الطفولة هي المرحلة الحاسمة في بناء معالم وسمات شخصية الفرد مستقبلا، في ابعادها الجسمية والعقلية والنفسية والثقافية. .وينجم عن ذلك ان سمات شخصية الافراد تصبح هي الناتج للتكوين الذي تم ترسيخه خلل فترة الطفولة ولهذا يجب تحصين الطفل من كل ما يدفع به نحو الاستلاب والتغريب او الانحراف وهذ يبدا منذ الطفولة الاولى، حيث اصبح يتفاعل الطفل في وقتنا الحاضر ، مع ثقافات جديدة تحملها وسائط الكترونية ، تكون لها تأثير وجاذبية خاصة لديه، وبذلك يصبح الطفل متلقي بامتياز للرسالة الإعلامية والثقافية المباشرة او غير مباشرة ،ويتفاعل معها بعفوية تامة، وغالبا ما يقع ،بسرعة ، مع العلم أصبحت هذه الثقافات هي المنافس للوظيفة التربوية والثقافية التي كانت تقوم بها الاسرة والمدرسة ، والسؤال الذي يطرح هنا كيف نضمن النمو المتوازن لأطفالنا والحفاظ على هويتهم الثقافية والاجتماعية في ظل عولمة جارفة لم تكتف بغزو البلدان؟ والاجابة يايها الكتاب اكتبوا لطفل حتى لا يذهب بفكره بعيدا ... وشكرا لكم.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى