صراع الديني والمدني في تونس
بدت الذكرى الأولى لانتخاب المجلس التأسيسي في تونس كاشفة لمدى عمق الأزمة السياسية التي يعيشها الشارع السياسي التونسي مؤخراً، وحدة الاحتقان المتصاعد بين الفرقاء السياسيين الذين لا يستطيعون حتى اللحظة إيجاد أرضية مشتركة يلتقون عندها، بعد أن انهار بمرور الوقت التوافق الهش بين القوى المتناقضة في الاتجاهات والمصالح، وظهر حجم التباين الكبير في الرؤى، وصارت الهوية الأيديولوجية معوقاً رئيساً للتقارب، أو حتى للتوصل لحلول وسط، ما قاد إلى انقسام المجتمع التونسي بشكل حاد إلى معسكرين، يمكن توصيفهما ب«القوى الدينية» التي تضم الأحزاب والحركات الإسلامية، و«القوى المدنية» التي ينضوي تحتها أحزاب وحركات يسارية وليبرالية ونشطاء وفنانون وإعلاميون، الفريق الأول متهم بأنه »يرغب في فرض الهيمنة والمغالبة بحجة امتلاك الأغلبية، وأن ثمة تمويلاً خليجياً له لنشر الفكر المتشدد في مجتمع منفتح حضارياً«، بينما الفريق الثاني يستشعر الخوف والتهديد للهوية المدنية للدولة ومحاولة «أسلمة مؤسسات المجتمع»وفرض توجه بعينه يتسم بالتشدد والإقصاء، وتُوجه له في ذات الوقت الاتهامات بأنه «يقف في وجه الإرادة الشعبية، مستنداً إلى أفكار مستوردة، وأنه يتلقى تمويلاً من الخارج، وجزء كبير منه من أنصار بن علي، وأصحاب الرؤى العلمانية الراغبة في عرقلة الحكومة ذات التوجه الإسلامي والقيام بانقلاب على الشرعية».
تبدو مساحة الثقة بين الطرفين منعدمة تماماً، بل وتزداد اتساعاً في ظل غياب آلية للحوار المشترك وتبادل الاتهامات المتواصل، والمعارك الإعلامية بين الجانبين .
وفي المقابل، تبدو أغلبية الشعب عازفة عن السجال الذي ترتفع درجة حرارته يوماً تلو آخر، وإن اشتكت بشكل واسع من سوء الأوضاع المعيشية والأمنية، ورأت أن حكومة «حركة النهضة الإسلامية» لم تف بوعودها، ولم تحقق لها ما تصبو إليه من طموحات في أعقاب إزاحة نظام الديكتاتور زين العابدين بن علي، إلا أنها على ما يبدو تؤجل انحيازاتها، وموقفها الحاسم من كل من معسكر السلطة ومعسكر المعارضة، ربما من منطلق إعطاء مهلة أخرى للنظام الجديد، وعدم التسرع في الحكم على أدائه، سيراً وراء دعايته السياسية، وحديثه عن عمق المشكلات المتراكمة من النظام القديم، ووجود عراقيل تضعها أمامه أطراف داخلية وخارجية، أو انتظاراً للانتخابات المقبلة لجعلها مناسبة حقيقية للحساب والتصويت العقابي، وربما لأن البديل لم يتبلور أمامها بعد بشكل واضح، ولا تريد الرهان على المجهول، والدخول في حالة من الفراغ السياسي والأمني، خاصة أنها لم تتعاف بعد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية للثورة .
ولهذا كانت مثلاً إشاعة حدوث انقلاب عسكري عقب انقطاع الإرسال التلفزيوني عشية الذكرى الأولى للانتخابات، والانتشار الواسع لأفراد الجيش، مثار قلق واسع في بلد يبحث عن الاستقرار، ويعيش شعبه حالياً حالة عدم يقين وانعدام التوازن نتيجة الصراعات السياسية المحتدمة التي صار يغلفها العنف الدموي بشكل مطرد مؤخراً، وسط ثورة الإحباطات العامة التي أعقبت ثورة تطلعات متصاعدة ما بعد زوال نظام بن علي .
وربما عزوف الجماهير عن صراع السلطة والمعارضة يقيد فرص كل فصيل في حسم المعركة لمصلحته، والاكتفاء فقط بتسجيل نقاط ضد الآخر، من دون قدرة على تسديد «الضربة القاضية» لغريمه .
إلى الشارع
ومع ذلك يبقى الشارع ساحة رئيسة للصراع السياسي، وثمة حرص من كلا الفصيلين على إحداث توازن مع خصمه السياسي في استقطاب الجماهير، وعدم تركه بمفرده، خشية ميل ميزان القوى لمصلحة الآخر، وهو ما تجلى في الذكرى الأولى لانتخاب الجمعية التأسيسية، فبينما نزلت المعارضة الليبرالية واليسارية، احتجاجاً على حركة النهضة الإسلامية والسلفيين، رافعة شعارات تندد بما أسمتها «الديكتاتورية والعنف السياسي» ومطالبة بحل المجلس التأسيسي وتسلم السلطة بعد انتهاء الأجل المتفق عليه بين القوى السياسية من دون إنجاز المهام التي جرى التعهد بها، خرجت في المقابل مظاهرات مؤيدة لحكومة النهضة من قبل القوى الإسلامية وللاحتفال بالذكرى الأولى للانتخابات واكتساحها لها، وسط تبريرات لتردي الأحوال من قبل السلطة الحاكمة ممثلة في وزير العدل المنتمي إلى حركة النهضة نور الدين البحيري، وإرجاع الأمر إلى صعوبة الأوضاع، ودعوته إلى تفهم الظروف التي تسلّم فيها الائتلاف الثلاثي الحكم، وإلى ضرورة الوعي بحجم الاستحقاقات المطروحة على الحكومة .
وإن كانت المعارضة التي حشدت لأسابيع لما أسمته »إسقاط حكومة النهضة« والمجلس التأسيسي، لم تسفر احتجاجاتها عن تحقيق هدفها المعلن، ولا عن حتى إسقاط وزير الداخلية المتهم بفرض التثقيف الديني على رجال الأمن، وغض البصر عن الانتهاكات التي تحدث للمعارضة من قبل أنصار النهضة والسلفيين، التي قادت مؤخراً إلى مقتل أحد كوادر حزب «نداء تونس» المعارض، فإن المعادلة ليست صفرية تماماً، ولا يمكن اعتبار الأمر هزيمة سياسية للقوى المدنية، إذ إن ثمة مكاسب تحققت رغم ذلك من وراء ضغوط المعارضة لا يمكن إنكارها، في إطار محاولة حكومة النهضة امتصاص الغضب المتنامي، وإظهار الجدية في الأداء تمثلت في الشروع في مناقشة المسودة الأولية للدستور، وفي تحديد مواعيد الانتخابات البرلمانية والرئاسية الجديدة بحلول يونيو/حزيران المقبل، فضلاً عن الدعوات التي انطلقت إلى إزالة حالة الاحتقان والتجاذب السياسي عبر حوار وطني جامع ومراعاة مصلحة الوطن، مع إجماع رموز الائتلاف الثلاثي الحاكم في جلسة خاصة أمام المجلس التأسيسي بمناسبة مرور عام على انتخابه، وهم منصف المرزوقي رئيس الجمهورية، وحمادي الجبالي رئيس الحكومة، ومصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي، وحديثهم بصوت واحد عن ضرورة نبذ العنف واللجوء إلى الحوار وتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد وتوفير الشروط اللازمة لإنجاح الانتقال الديمقراطي، والإسراع بالدستور والانتخابات .
الجماعات السلفية
حتى تصريحات رئيس حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي الأخيرة، وإن بدا أنها مؤيدة للسلفيين ومدافعة عنهم وتحمل نبرة تهديد، إلا أنه حين يقول احذروا «شيطنة السلفيين، فإنهم بهذه الطريقة قد يصلون إلى الحكم خلال الخمس عشرة سنة المقبلة، ونحن نتحدث إليهم كمواطنين وليسوا أعداء»، فإنه في سياق آخر يمكن تأويل خطابه على أنه دعوة لاحتواء مثل هذا التيار، وتوجيهه في المسار الصحيح حتى لا يذهب في طريق التشدد .
غير أنه لا يمكن تحميل المعارضة المسؤولية عن حالة الاستقطاب الواسع وحدها، واعتبار أن حراكها مغرض أو مجرّد تربص مجاني بالسلطة الحاكمة أو حتى مكايدة للإسلاميين بحسب الاتهامات المتواترة من حركة النهضة ورموزها، فثمة إشكاليات في الأداء وتراجع ملموس في مناخ الحريات وانتهاكات على أكثر من صعيد، فضلاً عن تردي الأوضاع المعيشية والخدمية، وكلها مثلت نقاط ضعف أبرزتها المعارضة، واستخدمتها كسلاح ضد القوى الحاكمة الجديدة .
وهذه المشكلات في إدارة المرحلة الانتقالية محل متابعة ورصد وانتقاد حتى من المؤسسات الأجنبية المحايدة، فبحسب تقرير أخير لمنظمة العفو الدولية، فإن وضعية حقوق الإنسان في تونس بمرتبة »خطوة إلى الأمام .. خطوتان إلى الخلف«، راصدة عديداً من التراجعات في هذا الملف، سواء ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، أو استهداف المعارضين، والتضييق على الاحتجاجات، بل واللجوء إلى العنف الجسدي بحق المحتجين .
كما بدا أن السلطات التونسية عاجزة، أو غير راغبة، في حماية الأفراد من هجمات على أيدي جماعات يعتقد أنها تنتمي إلى التيار السلفي، فضلاً عن مد حالة الطوارئ .
الدستور الجديد
وترى المنظمة أن الدستور الجديد، الذي ستنتهي صياغته في الأشهر المقبلة، يعد اختباراً حاسماً سيبين ما إذا كانت مرساة تونس قد استقرت حقاً في ميناء حقوق الإنسان وحكم القانون أم لا .
ويبدو بالفعل أن الدستور والإسراع في إصداره هو المحك الآن، وسط سيادة روح توافقية باتجاه تكريس المساواة ودولة العدل والقانون، وتحقيق شعارات الثورة الأولى التي عادت لترفع من جديد «عدالة .. حرية .. كرامة وطنية» هو المخرج من المأزق الراهن، خاصة أن قطاعات واسعة الآن في الشارع السياسي التونسي تنظر إلى حكومة النهضة وحتى إلى المجلس التأسيسي على أن شرعيتهما انتهت بمرور المدة الزمنية التي جرى الاتفاق عليها لإنجاز مهامهما، بل إن البعض طالب بأن يتولى الجيش السلطة لحين إجراء الانتخابات، أو تشكيل كيان يضم الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني لرسم خريطة طريق جديدة للبلاد، وعدم ترك الأمر بيد حكومة النهضة، ومن ثم فإن محاولات الاستئثار وفرض رؤية تيار بعينه سواء في المجال العام أو في بنود الدستور ستعمل على استفحال الأوضاع، وستقطع الطريق أمام أي إمكانية لبناء توافق وطني، وإعادة بناء تونس الجديدة .
وثمة حاجة ملحة أيضاً من جانب حكومة النهضة في العودة إلى إرسال رسائل طمأنة للمجتمع التونسي، وفي مقدمتها الفئات الأكثر انزعاجاً من خطاب وممارسات حزب الأغلبية، وعكس ذلك في إجراءات على الأرض، يتقدمها كبح جماح الجماعات السلفية، وحل رابطات حماية الثورة المتهمة بالتواطؤ مع حركة النهضة في استهداف المعارضين واستخدام العنف المفرط .
ووفق هذا السياق التصالحي المطروح، لو تم تعديل حكومي جرى خلاله إشراك رموز معارضة، أو حتى الاستعانة بتكنوقراط يسهمون في حلحلة الأوضاع، وتسهيل الحياة اليومية للمواطنين، ستكون خطوة على الطريق الصحيح .
ولا شك في أن مطلب تغيير وزير الداخلية المثير أداؤه للجدل والانتقاد والمتهم بإدارة الأمن بمنظور حزبي، سيكون له الأثر الكبير، في احتواء قدر لا بأس به من التوتر بين السلطة والمعارضة، حيث سيكون مثل هذه الإجراءات مقدمة مريحة ومشجعه لحوار وطني حقيقي يقرب المسافات المتباعدة، ويخفف من حدة الاحتقان الذي إن لم تتم السيطرة عليه فسوف يتصاعد إلى حد الانفجار الكبير الذي لن يكون في مصلحة أي أحد، وسيلحق الأذى بالجميع حكومة ومعارضة، ف«الشرعية التوافقية»، بحسب مقولة أحد رموز المعارضة، يجب أن تعلو «الشرعية الانتخابية»لمصلحة مستقبل تونس، وهو قول له حجيته، وإن كانت مهمة التوافق ليست بالسهلة، وتتطلب إعلاء المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية الضيقة.