الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم حمدان طاهر

صرخة سعيد

تبدو المدينة من بعيد كجمرة مشتعلة ما إن تخمد نيرانها حتى تأتي يد غريبة لتذكي حرائقها، هذا هو قدرنا ولا بد من القبول به، هكذا قال سعيد وهو يتحدث مع نفسه بعد إغفاءة قصيرة من خفارته المعتادة في مشفى الشفاء، ذلك المكان الذي لا يهدئ ولا يتوقف ذكره في وسائل الإعلام . منذ ثلاثة أيام لم يذهب إلى بيته ويرى عائلته الصغيرة، من بعيد ومن خلال الجوال يطمئن عليهم، لكل إنسان حكاية تنسجها الحياة بظروفها وأقدارها، ورغم كل ما مر به سعيد، يزعم إنه له من اسمه نصيب، فقد أكمل دراسته وتخرج بصفة معاون طبي وتزوج المرأة التي يحب ورزق بولدين في غاية الجمال والذكاء، أشياء ثمينة حصل عليها من هناء عائلي وطمأنينة أنسته أيام وذكريات القرية المؤلمة حين سلبت أرضه وموت أبيه حسرة عليها، أكثر ما يحزنه اليوم هذه الحرب اللعينة التي تقتل كل الأشياء الجميلة، الحرب يا لها من كلمة فظيعة لا يألفها الإنسان وإن طالت, فهي التي تفرق الأحباب عن بعضهم تُيتم الصغار وترمل النساء، الحرب يعني أن تبحث عن أبسط الأشياء فلا تجدها، يصبح الحصول عليها فرحة مؤقتة ممزوجة بمرارة غريبة، قبل السابع من تشرين الأول كانت الأمور طبيعية، تكدرها بعض الانتهاكات التي يقوم بها العدو هنا وهناك، إنه كدر اعتاد عليه الجميع . كان منهاجه اليومي يتضمن إيصال الأولاد إلى المدرسة وهو أحد أسباب غبطته اليومية معهما، يطيب له في المساء مراجعة دروسهما واللعب سوية، أحياناً يذهبون في جولة مسائية للتبضع أو لتناول الطعام خارج البيت، إنها لحظات نادرة لا تقدر بثمن، لا يعرفها إلا من عاشها وعرف معنى أن تكون الحياة لأجل هدف كبير.

انقطعت سلسلة أفكاره على وقع أصوات عالية وصراخ وهي تؤذن بوصول وجبة جديدة من الجرحى والشهداء إلى المشفى، هرول مسرعاً نحو صالة الطوارئ ليشارك مع زملائه لإسعاف الجرحى, وهو يساعد الطبيب خالجه شعور غريب وتعب مفاجئ أسفل قدميه، كان بالكاد يقف عليهما وهو الذي يشهد له الجميع بالنشاط والحيوية، ربما كان الأمر يعود إلى سهره المتواصل، لكن السهر ليس بجديد عليه إنها مهنته التي نذر نفسه لها من أجل خدمة الناس والتخفيف من أوجاعهم، ربما يعود ذلك إلى الحلم الغريب الذي رآه قبل أيام، لقد كان الأمر بالنسبة له وكأنه حقيقة، كانت رؤيا ملهمة إعادته إلى قريته القديمة حيث يجلس مع زوجته وطفليه وهم ينظرون إلى أشجار الزيتون الخضراء وهي تمد أغصانها نحو برد شتائي شفيف, فجأة يظهر والده ويصطحب معه الأطفال والزوجة دون كلام أو إشارة، كانت يد والده ثقيلة وقوية وهو يحاول استخلاص عائلته من قبضتها، حاول كثيراً وفي النهاية أخذهم والده ومضى بعيداً. وكلما تذكر تلك الرؤيا يقول إنه مجرد حلم، هكذا حاول إقناع ظنونه المخيفة.

بعد أن انتهى من عمله سمع بوصول عدد من العوائل التي قضي عليها بالكامل جراء الغارات المعادية، اقترب من الجثث المغطاة بالأقمشة البيضاء، توزعت الجثث بشكل تراتبي فكل عائلة صفت في جانب، تسمرت عيناه على يد امرأة خرجت من الشرشف الأبيض, اليد ما زالت طرية رغم صفار الموت، هل كانت اليد تنادي عليه، اقترب أكثر، أنها يد يعرفها. هكذا حدث نفسه وهو يرى الخاتم الذهبي الذي نقش عليه (سعيد)، كانت ثلاث جثث مسجاة بهدوء وقسوة على الآسرة المتحركة، تجمد الدم في عروقه وغارت عيناه ولم يعد يرى شيئاً, أطلق صرخة مدوية تشبه نداء الغريق, صرخة نبهت الجميع لهول الفاجعة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى