«طائف جديد» في سوريا
لا يمكن الجزم الآن بمصير مهمة المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي، وهل ستؤول هذه الوساطة للفشل أو ستكلل بالنجاح، وربما كان الدبلوماسي الجزائري المخضرم من الذكاء والحنكة الدبلوماسية بمكان، بل والواقعية الشديدة، حين لم يستهن بطبيعة مهمته أو يقلل من خطورتها، إذ من اللحظة الأولى أعلن أنها في غاية التعقيد والصعوبة، بل والمهمة شبه المستحيلة، لكنه قبِل التحدي، راغباً في توظيف خبراته السابقة في ملفات شائكة كالملف اللبناني والعراقي وغيرها على امتداد خريطة العالم، وربما طامحاً إلى نجاح مدوٍ في سجله الدبلوماسي الطويل، مع ترك مساحة لعدم المغالاة في التوقعات بشأن مهمته وإمهاله الوقت الكافي لينضج تصوراته، ورؤيته للحل دون ضغوط تحت أي مسمى.
إن كانت خطوات الإبراهيمي الأولى بدت بطيئة، ولم تؤشر إلى اختلاف عن سلفه في ذات المهمة كوفي عنان، غير أن اختياره للدبلوماسي المغربي مختار لماني مساعداً له، بعد خبرته السابقة في أوضاع مشابهة في العراق كرئيس لبعثة الجامعة العربية ببغداد، ثم انتظار نتائج مبادرة الرئيس المصري محمد مرسي، واجتماع لجنة الاتصال الرباعية في القاهرة التي تضم كلاً من مصر والسعودية وإيران وتركيا، عكس بصورة ما نهج الإبراهيمي، وكيف أنه يريد أولا ترتيب أوراقه بشكل متأن، خاصة أنه يريد توظيف كل الفرص المتاحة لبلورة تحرك فاعل في ملف يبدو مستعصياً على التسوية.
وتجيء مبادرة الإبراهيمي للتوصل إلى هدنة مؤقتة خلال عيد الأضحى كمحاولة لإنقاذ مهمته من الفشل، وضخ الدماء إليها بعد أن كادت تلقى مصير سلفه كوفي عنان نتيجة التوقعات السلبية إزاءها، وبقاء مواقف كل الأطراف السورية على حالها من التصلب، وتواصل التجاذبات الإقليمية والدولية .
وفي ذات الوقت تعد محاولة استكشافية جادة لإرادة عناصر الصراع الداخلي والخارجي باتجاه الحل من عدمه، وفي ذات الوقت توريط الأطراف الإقليمية تحديداً التي تعد معظمها جزءاً من المشكلة في البحث معه عن مخرج من النفق المظلم الذي آل إليه الوضع السوري لما يزيد على العام ونصف العام ومحاولة أيضاً لكسر الجمود في المشهد، وإحداث اختراق في جدار المواقف المتشددة والاستقطابات شديدة الوطأة.
ولذا وجدناه يقوم بزيارات مكوكية شملت السعودية وتركيا وإيران ومصر، فضلاً عن سوريا للقاء رموز نظام الأسد، مع اتصال مباشر مع قادة المعارضة المسلحة، غير أن الزيارات ذات الدلالة الخاصة كانت لكل من العراق ولبنان اللذين تتشابه أوضاعهما كثيراً مع الحالة السورية، من حيث التكوين السكاني ذي التعدد العرقي والمذهبي مع حساسية الموقع الجغرافي الذي يجعل من كل منهم ساحة لتأثيرات إقليمية ودولية، وما يجري بالداخل يحدث أصداءً مسموعة لدى جيرانه، إضافة إلى حدة الصراع السياسي الذي وصل إلى الاقتتال بين مكونات الشعب المختلفة.
فضلاً عن أن ما يحدث في سوريا ينعكس سلباً على كل من العراق ولبنان بحكم الجوار الجغرافي والصلات المذهبية والمصلحية.
وفي كلا الملفين العراقي واللبناني كانت ثمة مساهمة واضحة للأخضر الإبراهيمي في التوصل إلى تسوية سياسية بين فرقاء مساحة الثقة بينهم تكاد تكون منعدمة، غير أنه يجب النظر إلى أن نجاح الوساطة في الحالة اللبنانية تطلب التقاء الإرادة العربية ممثلة في الجامعة العربية والإرادة الدولية ممثلة في الولايات المتحدة، فضلاً عن قبول الجار السوري بعد أن تم ترك مساحة تأثير سياسي وعسكري له في الداخل اللبناني، ودعم النظام السعودي الذي أوجد لنفسه مساحة تأثير ما في لبنان، أسهم في التوصل إلى »اتفاق الطائف« ونزع فتيل الحرب الأهلية، وفق صيغة الحكم الثلاثية القائمة حتى اللحظة بين السنة والشيعة والمسيحيين الموارنة .
وذات العناصر أيضاً تحققت في الحالة العراقية، من توافق عربي ودولي، وإن كان اللاعب الأكبر في المعادلة هما طهران وواشنطن اللذان ما إن اتفقا على مساحة مشتركة لكليهما ولأنصارهما في العراق، حتى تمت تسوية الأزمة السياسية، وإيجاد سلطة حاكمة عراقية بعد صدام حسين تحل محل الحاكم الأمريكي بول بريمر الذي كان وجوده على رأس بلد عربي كرمز لاحتلال مباشر، خصماً يومياً من رصيد الولايات المتحدة عربياً ودولياً، وسبباً لتأجيج العنف والفوضى الأمنية.
المحاصصة
ولعل بعد مرور سنوات على تجربة التسوية السياسية في كل من العراق ولبنان، نجد أن نهج المحاصصة الطائفية الذي جرى اعتماده في الحالتين وكان الإبراهيمي طرفاً فاعلاً فيه، وإن مثّل حلاً في البداية، إلا أنه لاحقاً أنتج أزمة دائمة تعلن عن نفسها من وقت إلى آخر، أحياناً نتيجة صراعات داخلية، وأحياناً أخرى لتدخلات خارجية بفضل التوافق الهش القابل للاختراق والتفجر، وكلنا يرى الأزمات السياسية التي تشتعل من وقت إلى آخر داخل العراق بين رئيس الحكومة »الشيعي« ورئيس الدولة »الكردي«، أو بين رئيس الحكومة وبين رئيس البرلمان »السني« أو حتى بين رئيس الحكومة ونائب رئيس الجمهورية »السني« كما في أزمة المالكي وطارق الهاشمي الأخيرة التي أسفرت عن ملاحقة نائب الرئيس قضائياً وتجريمه، ما اضطره إلى الهرب إلى تركيا .
فضلاً عن الوضع الأمني المتردي حتى بعد إعلان واشنطن إنهاء مهمة جنودها في العراق، والوضعية شبه الانفصالية لإقليم كردستان على يد الأكراد، وحالة الاحتقان السياسي غير المنتهية .
ولا تخفى على أحد الصراعات الحادة داخل لبنان بين الفصائل المختلفة التي لا تلبث أن تتحول من وقت إلى آخر إلى صدام دموي حاملة لواء الطائفية، رغم دوافعها السياسية في الأساس، وحتى بعد خروج سوريا من لبنان عقب الضغط الداخلي والدولي المتصاعد إبان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وكانت الاتهامات تُوجه طوال الوقت إلى دمشق أنها هي من تؤجج هذه الصراعات لتحقيق مصالحها، وأنها تخل بالتوازن الدقيق بين مكونات الشعب اللبناني لفرض وصايتها .
بل إن الأخضر الإبراهيمي نفسه، وبعد انتهاء مهمته في العراق، أعلن في أحد المنتديات في عام 2006 أن أكبر خطأ ارتكبه في العراق هو مبدأ »المحاصصة« في الحكم، وإنه لم يكن يدري أن الصورة ستكون هكذا في العراق .
ومن ثم فإن العودة إلى هذا السيناريو في سوريا، ستكون له ذات الآثار الفادحة، وربما على نحو أكثر خطورة.
وقد كان أهم تصريح خرج به الإبراهيمي خلال جولته الأخيرة أن الوضع في سوريا مرشح للامتداد خارج حدودها، وسيأكل الأخضر واليابس، ولهذا التصريح دلالته، خاصة أنه صدر في بيروت بعد أن امتدت بالفعل شظايا انفجار الوضع في سوريا داخل الأراضي اللبنانية، وقد شهدنا اشتباكاً بين مؤيدي النظام السوري ومعارضيه في لبنان على قاعدة طائفية أكثر من مرة خاصة في طرابلس، بل وإيقاف وزير لبناني متهم بالعمالة للنظام السوري والتآمر على أمن لبنان، وذات الموقف ذي البعد الطائفي تكرر في العراق من اتهام لحكومة المالكي من قبل غريمه السني طارق الهاشمي بتقديم دعم لوجستي ومقاتلين إيرانيين وعراقيين لدعم نظام الأسد عبر بغداد .
من هنا يأتي التحذير من هذا السيناريو القائم على التقسيم والاستقطاب الطائفي والسياسي، فسواء تمت التسوية على قاعدة المحاصصة أو استمر الوضع على هذه الوتيرة فإنها تمثل خطراً داهماً، وبرميل بارود قابل للانفجار، والتوسع بطول وعرض الإقليم كله حالاً أو مستقبلاً .
رؤيتان إيرانية وروسية
ومن هنا أيضاً تبرز صيغ أخرى تبدو أكثر ملاءمة للوضع السوري من إعادة إنتاج «طائف لبنان» أو «طائف العراق»، لو تعلم الإبراهيمي من الدرسين اللبناني والعراقي، وسعى إلى تفكير ابتكاري خارج الأطر المكررة، وإذا تمعّن في مقترحات أخرى من قبيل المقترح الإيراني الذي تم تقديمه للإبراهيمي خلال زيارته الأخيرة بشأن اللجوء إلى خيار الصندوق الانتخابي لحسم الصراع بين السلطة والمعارضة، أو الطرح الروسي بخصوص حكومة انتقالية تجمع شخصيات من السلطة الحالية والمعارضة، وقبل كل هذا ضرورة الوصول إلى هدنة، أو وقف لنزف الدم اليومي لإيجاد أرضية للحوار السياسي.
ولعل المزاوجة بين الرؤيتين الإيرانية والروسية مع نقاط كوفي عنان الست، خاصة ما يتعلق بالعمل على وقف نزف الدم والمظاهر المسلحة، مع الأخذ في الاعتبار «النموذج اليمني» الذي لعبت السعودية تحديداً دوراً بارزاً فيه، خاصة مع طرح اسم فاروق الشرع الذي لقي قبولاً لدى أطراف عدة ليلعب دوراً توافقياً خلال الفترة الانتقالية، علاوة على آلية تحرك إيراني تركي مصري كما اقترح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال لقائه مع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في باكو مؤخراً، كل هذا يمكن أن يعمل على الضغط على طرفي الصراع للجلوس إلى مائدة واحدة، وبإمكانه أيضاً أن يقود إلى معاونة الإبراهيمي وإنجاح مهمته، وإخراج سوريا من مأزقها الراهن، فالحل في سوريا في الأساس يحتاج أولاً إلى إرادة وتوافق بين الأطراف الإقليمية، وفي مقدمتها إيران وتركيا والسعودية مع تحييد الدور القطري أو دفعه إلى اتجاه مغاير، وأيضاً ثمة حاجة ملحة إلى توافق الأطراف الدولية على تصور مشترك، خاصة واشنطن وموسكو، وساعتها ستكون الأطراف الداخلية مهيأة للتسوية، خاصة أن السلطة وفق وضعيتها الراهنة غير قادرة على حسم الصراع لمصلحتها ولو طال أمده، ولا المعارضة المتشرذمة والموزعة بين الخيار المسلح ولعبة السياسة والتجاذبات الإقليمية والدولية بمقدورها الانتصار، وتبقى صيغة «لا غالب ولا مغلوب» هي العنوان الصحيح لصراع الداخل السوري، وصيغة «تلاقي المصالح الإقليمية والدولية عند نقطة ما» هي الفيصل في معركة الإرادات، وإن كان الأمر على ما يبدو يحتاج إلى بعض الوقت ومزيد من الجهد الدؤوب للإبراهيمي وفريقه، مع الحفاظ على الحيادية التي بدأ بها، رغم الانتقادات الموجهة إليه من بعض القوى الرغبة في التحيز لمواقفها، وذلك حتى تصل هذه القناعات إلى كل الأطراف، ويدرك الجميع أننا إزاء حالة استقطاب كبرى ووضع أشبه لأجواء الحرب الباردة التي لن تسمح لطرف أن ينفرد بالقرار، وتمرير الأمر لمصلحته، ومن دون توزيع الأدوار واقتسام الغنائم بشكل مرضٍ لن يستتب الوضع لأي أحد .
ولا مفر في الأخير من مائدة التفاوض، خاصة أن التدخل الخارجي المسلح كما كان في العراق أو حتى ليبيا غير وارد في الحالة السورية بعد أن أدرك الجميع كم هو باهظ على الصعد كافة، وتكلفته السياسية والأمنية أكثر من عائده المحتمل، وأظن أن الإبراهيمي يدرك ذلك جيداً، ومن ثم يكثف اتصالاته إقليمياً ودولياً بجانب الداخل السوري لبناء أرضية تلتقي عندها كل الأطراف وتكون موطئ قدم للانطلاق إلى تسوية مرضية للجميع، لكن الرهان على توفير مناخ يسمى بإنضاج هذه الوساطة ووصولها إلى مسار آمن، إن كان بالفعل ثمة رغبة في وقف نزف الدم والإبقاء على سوريا، وعدم تفكيكها لمصلحة مشاريع إقليمية ودولية .