الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم ناجي الخشناوي

طوبى لمن تأخر

"الوطن ليس التعلق السخيف بالأرض أو بالعشب
الذي تطأه أقدامنا. إنه الكره العميق لمن يضطهد
الوطن، والحقد الأبدي على من يهاجمه"

خوسي مارتي

أنفق سعيد نصف الليل تقريبا وهو يتقلب فوق السرير الخشبي المركون في الغرفة التي استأجرها بالطابق الثاني في أحد "الوكايل" بتونس العاصمة.

منذ التاسعة مساء وهو يحاول أن يقنع نفسه أن النوم ضروري وواجب ولا سبيل لا إلى الأحلام ولا إلى التفكير. فقط النوم والراحة.

كان يرغب النوم ولا يرغبه في الآن نفسه، فقد كان منهوك القوى بسبب السفرة الطويلة من بلدته النائية في أقصى الجنوب. ألهبت جلدته الطرية أشعة الشمس الحارقة المنعكسة على بلور سيارة الأجرة. ولم تزده قوارير الماء التي كان يقتنيها كلما توقفت السيارة بمدينة ما، إلا عطشا أكثر. وكانت عيناه متورمتان لشدة الأرق وقلة النوم.

وهو لا يرغب في النوم خشية الاستغراق فيه فيفوته الوقت صباحا، بل قل فجرا، إذ عليه أن يصطف منذ الرابعة فجرا على الأقل مع من يصطف في الطابور.

الطابور الذي طالما كان يسخر من المصطفين فيه ويلعنهم كلما مر حذوهم، ها هو اليوم سيهلك تعبا وإرهاقا من أجل أن يحصل على مكان متقدم في ذات الطابور.

هكذا هو الزمن ما نعتقده تافها ولا قيمة له يصير بمرور الوقت مصيرنا مرهونا به، أو هكذا هي البلاد بقدر ما نحبها بقدر ما نتمنى الرحيل عنها. هذي البلاد الكذبة لا أمر فيها يحنو على منعطفات الروح سوى الغبار والهباء، لا جرى فيه نبع وطال ولا أورق على جنباتها حلم واخضرٌ.

بلاد يباب لا تنبت غير الرحيل. بلاد تماما مثل ثقب إبرة لا تحتمل إلا الجمل الوحيد الأوحد الذي يعلك اليابس والأخضر، كل الأخضر واليابس. بلاد كالثقب لا تحتمل إلا الخيط وبكرته فقط. فقط أما الباقي فليمت جوعا أو ليرحل تشردا، وإذا حدث وابتسم طفل نشوان بامتلاء بالونته الحمراء بالأماني فإنه لا يعلم من أين تأتيه وخز الإبرة، إبرة الواحد الأوحد، فتتطاير أمانيه هباءا وسط غبار البلاد، في بلاد الغبار... فليمكث الواحد الأوحد في البلاد، بلاد الغبار، وليرحل الطفل الصغير ويتلاشى في الغبار، غبار البلاد... اختلطت الرّوائح النّتنة في ثقبي أنفه الصّغير وهي متصاعدة إلى دماغه، سارية في كامل جسده، بقايا نصف دجاجة محمّرة ملقية تحت السّرير، رائحة فراش اكتظّ بمستعمليه الليليّين حتّى استحال خرقة سوداء، ورائحة التّجاويف والنتوءات البارزة على امتداد الجدران الأربعة المتآكلة تفوح كلّها في الغرفة الضّيقة الواطئة، حتّى أرضيّتها كانت لزجة طريّة الملمس لكثرة السّوائل المنسكبة عليها: ماء ومخاط، بساق وزيوت، خمر ومنيّ وحتّى البول. أعرف رائحة البول إنّها تلدغ الدّماغ.

يتخيّل الآن سعيد أحد بائعي البيض (المروّب) يعود سكرانا إلى مثل هذه الغرفة، يفتح أزرار بنطاله وهو يترنّح ويسكب بوله على الجدار ويستنزف آخر قطرات السّائل الرّغوي بين بنطاله والفراش ثمّ ينام وهو ماسك عضوه بيديه.

كان النّزيل الثّاني في الغرفة يغطّ في نوم عميق، يعلو شخيره ويخفت، تتخلّله تنهيدات طويلة متقطّعة أحيانا وأحيانا مسترسلة، ويبدو أنّه أحد باعة الشّوارع، فقد كان يضع بجانب السّرير كيسا بلاستيكيّا أسود اللّون محشوّ بالجوارب والقمصان المختلفة الألوان. هكذا حزر سعيد.

استعصى النّوم عليه وظلّت عيناه مفتوحتان رغم تطامن رأسه من النّعاس. سحب سيجارة من العلبة المدسوسة تحت الوسادة وأشعلها. على ضوء عود الثّقاب لمح عقارب ساعته. الثّالثة والنّصف فجرا.

ـ لا بأس سأنهي السّيجارة وأنهض، فالسّفارة قريبة من الوكالة.

قالها وهو يسحب نفسا عميقا من السّيجارة وينفث دخانها في فضاء الغرفة الضيّقة.
في تمام الرابعة إلا الربع كان سعيد أمام مدخل الوكالة يفرك عينيه. تنفس الهواء الجاف ملء صدره وهو يرفع رأسه نحو السماء. سماء خالية من الغيوم، لا تزال مخرمة بالنجوم الفضية المتلألئة.

  كم تبدو السماء قريبة في الفجر، أحسها تحط على رأسي وكتفي. إني أكاد أمسك السحاب بأصابعي هذه وأصنع منه قبعة مزارع آسيوي...

مضى يسرع خطاه في الزقاق الضيق وهو يضغط تحت إبطه إضبارة محشوة بعدة وثائق: شهادة بكالوريا، شهادة أستاذية، جواز سفر، مضامين وصور نصفية، كتيب متوسط الحجم فيه عناوين الجامعات والكليات بفرنسا...

أحس بنفحة هواء باردة تداعب وجهه وعبرته رعشة سرت من وسطه حتى صدغه وهو يعبر النهج الضيق المؤدي إلى الشارع الرئيسي.

خُيًل إليه وهو يُسارع الخطى، أنه يسمع وشوشة أو هكذا تناهى له الصوت المنبعث من سقيفة مظلمة. مد عنقه بين جنبات بابها الموارب فلمح جثة رجل يضع رأسه فوق عتبة أحد الدكاكين وفمه مفتوح كالسمكة تماما عندما تعلق بخيط الصنارة، وكان شخيره يسترسل في هدوء تام، لكأن هذا الملقي في ظلمة الشوارع نائم بين أحضان حبيبته أو تحت أهداب عينيها.

امتعض سعيد وتمتم بتهكم:

  "أشخر يا عم فأنت في أمان ما دمت في عيون أمن البلاد تنام."

واصل خطواته بنسقها المتسارع إلى أن توقف في إحدى المنعطفات أمام طاولة انتصب فوقها موقد يغلي على ناره سطلا حديديا تناصف بيضا.

  يومك سعيد. زوز مروبين بزايد فلفل أكحل بالله.

ألقى البيضتين المسلوقتين في جوفه ومضى يمسح فمه بظاهر يده اليمنى ويسحب باليسرى علبة السجائر من جيب قميصه. أشعل واحدة ومضى يدخنها بشراهة وباطمئنان من أكل بما فيه الكفاية ليقاوم مفعول التبغ على الخواء، وهو يستطيب رائحة الأفران والمقاهي المنبعثة من مداخل الأزقة الضيقة.

قبل أن يصل إلى الشارع الرئيسي اعترضه عامل البلدية بزيه الأخضر وهو يدفع عربة الأوساخ بتوئدة. طلب منه سيجارة فقدم له اثنتان وابتسم في وجهه وهو يقول له:

  الله يعاونك على وسخ ها البلاد.

  البلاد موش وسخة، العباد هم الوسخين.

قالها العامل وعاد يحني ظهره على كومة الأوساخ ينبشها قبل أن يرفعها إلى العربة.

دلف سعيد بين عرضتي قوس النصر في أول الشارع الرئيسي وهو يتبع حركة المارة في اختلاف اتجاهاتهم. أغلبهم كانوا نساء، إنهن عاملات المصانع أو منظفات المؤسسات والشركات الخاصة يتناثرن كل فجر فوق الأرصفة والشوارع...

ماذا يفعل الآن صاحب المصنع أو مدير الشركة؟ الأكيد أنه يدندن بلحن شرقي تحت ماء الدش الساخن المتدفق على جسده الممتلئ برائحة إحدى عشيقاته في احد النزل البحرية. هذا مؤكد.

تجاوز تمثال ابن خلدون المنتصب في قلب الشارع الرئيسي وانعطف إلى جهة اليمين حيث مبنى سفارة فرنسا. بمجرد أن أطل ببصره نحو نهج هولندا حتى تسمر في مكانه فاغرا فاه لهول ما شاهد، لاعنا حظه لتأخره عن الموعد، فرغم أن الساعة كانت تشير إلى الرابعة إلا ثلاث دقائق فجرا، فإن الطابور تمطط بطول النهج كما الحبل المستقيم، نساء ورجال ، شيوخ وعجائز، شبان مفتولي العضلات وشابات ناهدات. كلهم مصطفون في الطابور وهاماتهم تلوح كأنها أشباح جبًارة تتماهى مع بعضها البعض بفعل انعكاس الضوء والظلام على الحائط فوق الرصيف المحاذي لمبنى السفارة.

الباب مغلق. باب السفارة الحديدي الأخضر مغلق. والشرطي متسمر في مكانه المعتاد يرتشف قهوة ويدخن سيجارة، فالطابور مازال ساكنا دون حراك ولا عراك ما دام الباب مغلق، باب السفارة الفرنسية.

يا سفارة فرنسا. يا سفينة بلا أمواج، ميناؤك طفح بالمسافرين وأنت لا زلت راسية منذ سنين في مكانك... يا سفينة بلا ربان بوصلتك تعطبت وما عدنا نذكر وجهتنا منذ أن صدقنا أن ترابك أثرى هناك، وشتتتنا رياحك منذ أن نسينا أن ترابنا هنا أخضر مثل وشمة الخالة لو لم يجففوا من عروقنا الدماء وتتصدع فينا الأضلع ويختنق الصوت بداخلنا...

بدأ يتقدم بخطوات متثاقلة بعد أن سقطت آماله في الفوز بمكان متقدم في الطابور. كان كلما تقدم خطوة يتكشف له وضع أحد المصطفين.

نظر إلى شيخ مسن على حافة الموت يقتعد "كردونة" حاني الظهر على حائط السفارة وفي كفه حقة "نفة" يفتحها من حين لآخر ليحشو مسحوق الدخان تارة في فمه وطورا في أنفه.

ماذا ستفعل في فرنسا يا جدي؟ ألم تقاومها عندما كانت هنا؟ لماذا تلحقها هناك؟... وهذه عجوز ملفوفة في "ملية" حمراء وتفوح منها رائحة زعتر جبلي وجبينها موشوم بنجمة خضراء وهي تصر على كمشة أوراق بين يديها المضمختان بالحناء. هل ستذهبين إلى فرنسا يا خالة؟ هل ستقدمين عرض أزياء لدار "ايف سان لوران" بباريس؟ أم أنك ستمضين عقدا اشهاريا لعطر "نيفيا" أو "كريستيان دور"؟ حتى أنت يا خالة أصابتك حمُى الرحيل؟.

ابتسم سعيد من شدة الغيض وهو يتقدم بجانب الطابور متصفحا الوجوه الصباحية المتثائبة وهي متكأة على حائط السفارة أو مفترشة الرصيف المجانب لها، وكل واحد منهم يسبح في بحر خياله. الأكيد أنهم يختارون الآن بين السفر بالطائرة أو على متن الباخرة. بل إني أراهن على أن ذاك الشاب الناعس الآن فوق هذا الرصيف في نهج هولندا يرتب الكلمات والعبارات ليكتب الآن رسالة إلى حبيبته يصف لها شوقه وحنينه وهو يراود إحدى الفرنسيات الشقراوات أو الإفريقيات في شارع الأوبرا بباريس. إني أراهن أنه سيبدأ بكتابة رسالة عشق وحب لها الآن وهو لا يزال أمام السفارة وسيوقعها بتاريخ هذا الفجر.

كل المطارات في أضلعي نسفوها، دمروها، خربوها... وكل الموانئ في شراييني أغرقوها في مياههم العكرة... حتى حبيباتي، كل حبيباتي، صادروا شفاههن ومنعوهن من تقبيلي... ماذا تركوا لي... إني لن أختار لا الرحيل بالطائرة ولا الإبحار بالباخرة... لن أختار إلا الرحيل ولو زحفا على البطن...

ظل سعيد يزحف بتؤدة مثل دودة القز، مخلفا وراءه وجوها بملامح كسلى، ربما لتأخرها في نظام الطابور، ويستقبل وجوها أكثر إشراقا ربما لدنوها من باب السفارة الفرنسية...

أكلكم راحلون؟ من سيبقى في البلاد؟ لمن تتركوها؟ ألن تنتهي مواسم الرحيل في هذه البلاد المحطة؟ إلى متى نظل نواري خيباتنا وانكساراتنا وعجزنا بالرحيل والهروب؟ ألن ينتهي نط الضفادع فينا؟ ونعيق الغربان ألن يخرس؟...

تذكر يوم كان ينط من جدار إلى جدار في ساحة الكلية سنة تخرجه. كان يومها إحدى الإضرابات المشهودة في كليته. أغلب الطلبة فروا فزعين دامعين بفعل القنابل المسيلة للدموع. ظل هو ونفر معدود من الرفاق. تسلل إلى داخل الساحة كالمعتوه يطلي جدران أقسام العربية والتاريخ والمدرجات والمكتبة وحتى جدران المشربة طالها الطلاء الأحمر. صبغ كل الجدران بالطلاء الأحمر القاني بجملة واحدة ظل يكررها فوق كل الجدران "ليرحل ناهب البلاد... ليرحل جلاد الشعب..." وبعدها غاب عن الكلية أكثر من شهر وظل يردد الجملة إياها كل ليلة في هلوساته.

انكمش صدره وهو يتذكر ذلك، وقال وكأنه يخاطب أحدا: "علي أن أكتب بالرصاص في المرة القادمة. أعرف، ما دمت أكتب بالطلاء والحبر والطباشير فلن يرحلوا أبدا. علي أن أكتب بالرصاص ليرحلوا..."

بدأت المسافة الفاصلة بينه وبين الشرطي الرابض في مكانه دون حراك تتقلص كلما تقدم خطوة في اتجاه باب السفارة. شعر بثقل في ساقيه وكأن الدم تجمد في عروقهما وبدأ دوار حاد يعصف برأسه ثم بدت أجساد المصطفين في الطابور تأخذ ملامح عجائبية: نجمة الخالة الموشومة أنبتت ضلعا سادسا فوق جبينها! الشيخ المسن استحالت حقة النفة في كفه إلى علبة سجائر من نوع فيليب موريس! الشاب الذي كان يكتب رسالة عشق إلى حبيبته منذ دقائق التمع في طرف إحدى أذنيه قرط صغير وعلى صدره تدلى صليب ذهبي وعلى مساحة كبيرة من زنده امتدت وشمة خضراء لثعبان برأسين!.

الدوار يشتد أكثر برأسه وملامح المصطفين تتبدل وتتحول في نسق متسارع. عاود النظر إلى الشرطي فلمحه يدس لفة من الأوراق النقدية في جيب بنطاله الخلفي، وتناهى إلى مسامعه صوت امرأة أفردت من نظام الطابور وهي تصيح في وجه الشرطي وتقول: "انه مكاني. لقد حجزته منذ الواحدة صباحا. لماذا تبيعه مكاني يا لص؟".

لم يعد سعيد يقوى على تحمل الدوار، ولم يعد يتذكر أي شيء حتى سقط مغشيا على وجهه فوق الرصيف المحاذي لمبنى السفارة الفرنسية في نهج هولندا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى