الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم أشهب عطية ابراهيم

طين ودماء

"عندما يمتزج التراب بالماء يتكون الطين، وعندما يمتزج الطين بالدم، يتكون الوطن."

أنا شجرة الزيتون، ذات الجذور الضاربة في أعماق هذه الأرض المقدسة عبر قرن من الزمن، شاهدة على صحة هذه العبارة، فأنا أحمل في لحائي ذكريات المطر والدم، الألم والأمل، الظلم والمقاومة الصامدة. أحكي تلك القصة التي شاهدتها وسمعتها ويشهد عليها معي كل حجر وشجر، والتي بدأت عندما قام إياد، والد ياسر، بغرسي بيديه الخشنتين قبل أن تُخط السنون تجاعيدها على جبينه. كان الهواء الذي أتنفسه وقتها ممزوجًا بعبير الحرية، وأُسقى بماء عذب على أيدي هذه العائلة الكريمة، أصحاب الأرض الحقيقيين الذين امتزج طينهم بدمائهم، ضد غرباء جاؤوا من شتات العالم، هربًا من مذابح أوروبا الشرقية، وبدلًا من رد الجميل، حاولوا سرقة ما ليس لهم، مدججين بأسلحة الاستعمار البريطاني الذي تركها لهم هدية، فكونوا عصابات إجرامية تقتل الشعب الأعزل وتأكل الأخضر واليابس وتلتهم أراضيهم التهامًا، ومن بينها مزرعة إياد التي استولى عليها موشيه، اليهودي الصهيوني، مما أدى إلى أن يموت إياد بحسرته.

ياسر، الذي وجد نفسه مسؤولًا عن إعالة أسرته بعد وفاة والده إياد، لم يجد بدًا من العمل لدى موشيه، الذي استغل حاجته ورخص أجرة يده ليعمل لديه في المزرعة التي اغتصبها.

لم يكتفِ موشيه بمزرعة إياد، فامتدت عينه على منزله البسيط المبني من طين وحجر، القريب من بيته، والذي يعيش فيه ياسر مع سعاد، زوجته الحامل، وفطيمة، والدته المسنة. أراد موشيه أن يأخذه ليزوج فيه ابنه الأكبر، مزراحي، ليكون ملاصقًا له. كان يعتقد أن هذه التلة مقدسة، وأن النبي إبراهيم مر منها، فخلط أساطيره بدوافعه السياسية ليبرر طمعه.

ذات يوم، عرض موشيه على ياسر المال مقابل المنزل قائلًا: "خذ المال واترك البيت."

لكن ياسر رفض: "هذا ليس بيتًا فقط، هذا أرضي وجذوري. لن أبيعه لتزوج به ابنك."

غضب موشيه، فصله من عمله، فقرر ياسر أن يزرع المساحة المتبقية أمام منزله ليأكل منها كفافًا. وعندما رأى موشيه ذلك، منع الماء والكهرباء عن أرض ياسر وبيته، مما قطع مصدر رزقه المتبقي، فنهش الجوع والفقر فيه وأسرته، لكن كل ذلك لم يجعله يستسلم.

فكر موشيه كثيرًا هذه المرة، وحاول أن يستخدم أسلوبًا آخر، فرسم ابتسامة على وجهه باردة كصقيع الشتاء، وحمل معه سلة فاكهة. وضعها أمامه وقال بصوت حاول جعله ودودًا: "ياسر، نحن جيران في النهاية. لا داعي لكل هذا العداء. ربما أخطأتُ بفصلك، يمكنك العودة للعمل غدًا. لنتعايش بسلام، هذه الأرض تتسع للجميع."

مددتُ جذوري أعمق في تلك اللحظة، شعرت بالزيف في كلمات موشيه كما أشعر بالمرض في التربة المسمومة. لم يلمس ياسر السلة ،بل رأيته ينظر إلى عيني موشيه في تحد، قائلًا بهدوء وحزم: "التعايش لا يُبنى على أرض مسروقة يا موشيه. السلام يبدأ عندما تعيد الحق لأصحابه. كرامتي ليست للبيع، وأرضي ليست للمقايضة بفتات عمل أو سلة فاكهة."

قال موشيه: "لا تدع الغضب يتملكك، فلدي أكبر من سلة الفاكهة هذه، سأمنحك بعلاقاتي تأشيرة لك ولأسرتك إلى أمريكا، أرض الأحلام، لتجتمع فيها مع ابنك ليث، ألا تشعر بالحنين نحوه يا رجل؟"

قال ياسر: "ابني ليث سافر لاستكمال دراسته والعمل بشكل مؤقت، وبالتأكيد سيعود هو إلينا لا أن نرحل نحن إليه، فهذه أرضنا وبداخلها سندفن، لا تتعب نفسك، فلا سلام بين السارق وصاحب البيت حتى يخرج السارق." أحمر وجه موشيه غضبًا وقال: "إذا كانت أمنيتك أن تُدفن في هذه الأرض فسأحققها لك." ثم أخذ سلته وذهب، وهو بالكاد يخفي قرارًا مظلمًا قد اتخذه.

لم يلبث موشيه طويلًا حتى جاء ذات ليلة، ومعه رجاله وجرافات في حماية الجنود الصهاينة ليهدم البيت. أخذ ياسر بندقيته وهدد موشيه أن لم يرحلوا فسيطلق النار عليهم، لكن لم يكد ينتهي من تهديده حتى باغته جندي صهيوني بطلقة اخترقت رأسه، فسقط شهيدًا على الفور. هرعت والدته المسنة نحوه وهي تصرخ وتبكي، لكن لم يعبأ لها الصهاينة، وبدأت الجرافة في هدم المنزل، فصرخت فطيمة أن المنزل به سعاد، زوجة ياسر، وهي لا تستطيع الحركة من شدة ثقل الحمل، لكن ذهب استجداؤها وصرخاتها سدى، واستكملت الجرافة هدم المنزل على رأس سعاد وجنينها. حاولت فطيمة رفع الأنقاض تبحث عن زوجة ابنها، لكن حجرًا كبيرًا وقع على ساقيها، فأُغمي عليها، وأسرع الجيران لمحاولة إنقاذها. تنهدتُ بأوراقي حين رأيت الدم يسقي التراب، كأن الأرض تشرب أرواحهم لتبقى خصبة.

أما فطيمة فأصبحت قعيدة كرسي متحرك، لكنها لم تستسلم، و كل يوم تذهب إلى مكان بيتهم المتهدم، تتحدى تهديدات موشيه وتتشبث بالأرض كشجرة بلوط عتيقة لا تتزحزح.

ليث، ابن ياسر الأكبر، الذي ماتت والدته بعد ولادته بعشر سنوات، تزوج والده سعاد، فكانت له أمًا حنونًا ترعاه حتى تفوق في دراسته، وحصل على منحة لاستكمال تعليمه، فسافر إلى الولايات المتحدة ليعمل في بورصة نيويورك بجانب دراسته ليؤمن حياة كريمة له ولأسرته ليرد لهم الجميل.

كما روى الجيران أمامي، عندما أرسلوا إليه ليخبروه باستشهاد أبيه وزوجة أبيه، تفجر في صدره بركان من الغضب والعجز، حاول جاهدًا أن يحصل على التأشيرة ليذهب إلى فلسطين ويرى عائلته أو ما تبقى منها، لكن بلا جدوى، فقد رفضت السلطات الإسرائيلية مرارًا إعطاءه إذنًا للعودة وصنفته خطرًا على المجتمع.

عندما تيقن أنه من المستحيل العودة إلى بلاده، أصابه اليأس ووسوس له شيطان نفسه: "لا فائدة من الرجوع، ما حدث قد حدث، ولا يمكن العودة بالزمن إلى الوراء، ولا أستطيع المخاطرة بعملي."

شعر ليث بتردد وصراع داخلي شديد لدرجة رؤيته للكوابيس في منامه. كان يخاف أن يترك نجاحه وحياته المستقرة: شقة فاخرة، وظيفة مرموقة، صفقات بملايين الدولارات، من أجل بيت محطم وأرض ممزقة، فيقول: "ماذا لو خسرتُ كل شيء كسبته؟ ماذا لو عدتُ ولم أجد سوى الرماد؟"، كان هذا جرحًا خفيًا ينزف تحت بدلته الأنيقة. فهنا يعيش في أرض الأحلام حيث الثراء السريع والحياة المرفهة، هل يهدم كل ما وصل إليه ويعود إلى اللا شيء؟ لا أهل، لا أرض، فقط دمار ودماء.
أثناء ذلك، اندلعت مواجهات بين آلة الحرب الإسرائيلية الجبارة المزودة بأحدث وأفتك الأسلحة مع المقاومة الصامدة التي تملك بضع صواريخ مصنعة يدويًا لا تقارن بأي شكل مع تجهيزات الصهاينة، ومع ذلك كان لها تأثير القنابل النووية في قلوب المستوطنين. دوت صفارات الإنذار، فدب الرعب في قلب موشيه وعائلته، رغم أمان ملجأه الذي حفره تحت الأرض وجهزه بكل ملذات الحياة والطعام والشراب، لم يستطع تحمل مجرد صوت الصواريخ وهي تخترق السماء، رغم بعدها وتحصنه بعيدًا عنها، لكن الفزع تملكه، فهرب هو وعائلته مذعورين، تاركين أرض بيت عائلة إياد.

ما إن علمت فطيمة بفرار موشيه حتى هرعت إلى أنقاض بيتها تحتضنها كما تحتضن رضيعها. عندما تأخر ليث في العودة وشعرت بتردده، أرسلت له طردًا، وعندما استلمه وجد بداخله صندوقًا، وبداخل الصندوق مفتاحًا قديمًا وصدئًا، إنه مفتاح العودة الذي هز كيان ليث عندما رآه، وفهم رسالة جدته تذكره بحلم أجداده بحق العودة للأرض.

عندما أمسكه ، عاد إليه طيف ذكرى: يد جده تدير المفتاح، رائحة القهوة تملأ الهواء، وصوت أمه ينادي. كان المفتاح جسرًا عبر الزمن، صوتًا يقول: "الوطن فوق كل اعتبار." لكنه ظل مترددًا، يزن المفتاح في يده كما يزن حياته.

في ليلة صاخبة، لم يصدق ليث ما رأى، لقد تقاطعت دروبه مع مزراحي ابن موشيه الذي هاجر إلى نيويورك، حيث رآه من بعيد في حفل فاخر، فاقترب منه. سمعه يتحدث بلامبالاة: "أبي عالق في تلك الأرض المتربة، أنا أفضل إيبيزا وحفلاتها." كان فارغًا، لا يعبأ بالأرض التي سُفكت دماء وتقاتلت شعوب عليها. شعر ليث بالغضب والنفور: "هل سأصبح مثله؟ أعيش حياة بلا معنى؟"، لكن تسلل إلى ذهنه سؤال آخر: "ماذا لو بنينا المنزل من جديد، ثم عادوا وهدموه مرة أخرى؟" أرسل لجدته يسألها، فأجابته: "كل ما يهدمونه، سنبنيه مرة أخرى يا ليث. هم يهدمون الحجر، ونحن نزرع الأمل. جذورنا أعمق من جرافاتهم." كانت كلماتها درعًا، فبدأ يرى العودة كمعركة تستحق الخوض بأي ثمن وأي طريقة.

السلطات الإسرائيلية رفضت إعطاءه التأشيرة مجددًا، لكن هذه المرة لم ييأس. سافر إلى مصر، ومنها إلى سيناء. تواصل مع بدو يعرفون المسالك السرية، وقرر المغامرة بحياته لعبور الحدود بشكل غير رسمي. في ليلة بلا قمر، ساروا ساعات في التضاريس الوعرة، والصمت يقطعه أنفاسهم اللاهثة. اقتربوا من السياج الشائك، وبدأوا الزحف. فجأة، انطلق ضوء كاشف، ودوى الرصاص من حرس الحدود. ارتطمت الطلقات بالصخور، وشعر ليث بالموت يتنفس في عنقه. لكنهم واصلوا، عبروا السياج بأعجوبة، وسقطوا على الجانب الآخر، منهكين لكن أحياء.

وصل ليث إلى القرية فجرًا، بثياب ممزقة وجسد منهك، وجدني ثابتًا كما كنت دائمًا. لمست يده لحائي، يستند عليّ، كأنه يستمد مني القوة. وجد فطيمة أمام الركام، عيناها تلمعان بعناد. بدأ يعيد البناء، يخلط الطين، يرفع الحجارة، يغرس شتلات جديدة . علّمته فطيمة أسماء الأعشاب، مواعيد الزراعة، وحكايات عن مجد وتضحيات الأجداد.

عثر ليث على علبة معدنية تحت حجر، بداخلها ورقة من جده إياد: "الأرض هي العرض. وصيتي لكم أن تستعيدوها مرة أخرى." قرأها لفطيمة، فتلألأت دمعة في عينيها: "لقد عدت يا بني أخيرًا، ومعك الأمل لتكمل المسيرة." البيت قائم الآن، والمفتاح معلق على جداره.

جلست فطيمة على كرسيها المتحرك بجانب ليث تحت ظلي. ثم قالت بهدوء كأنها تروي حكاية قديمة: "كان النبي سليمان يجلس يومًا بين امرأتين، كل واحدة تصرخ أن الطفل لها. أمر بسيفه أن يشطر الرضيع نصفين، ليعطي كل واحدة حصتها. لكن الأم الحقيقية صرخت: لا، خذيه ودعيه يعيش! كانت مستعدة أن تفقده لتبقى روحه، بينما الأخرى وقفت صامتة، راضية بالدم. فحكم لها سليمان، لأن قلبها كان الدليل."

صمتت لحظة، ثم أشارت إلى الأرض تحتنا: "هكذا نحن يا بني. موشيه هرب عندما دوت صفارات الإنذار، ترك الأرض كما تترك الأم الكاذبة طفلها للسيف. أما نحن، فقد نزفنا دماءنا لنبقيها حية. الأرض ليست حجارة، إنها رضيعنا الذي نتشبث به، حتى لو كلفنا ذلك أرواحنا."

طبع ليث قبلة على جبهتها، ثم قام وزرع شتلة زيتون جديدة بجانبي، وهو يردد: "نحن أصحاب الأرض الحقيقيون، لأن طينها امتزج بدمائنا." وأنا، الزيتونة العجوز، أشهد: هذه الأرض لمن يحملها في قلبه كوطن لا يموت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى