

ظل الجدار
في فجر يوم كساه رماد الصمت المعتاد على القرية، تسلل ياسر ذو العشرة أعوام بخطوات حذرة كفأر صغير يقتات على فتات الأمل. كانت الشمس لم تزل تتلمس طريقها بخجل فوق التلال البعيدة، تاركةً ظل الجدار الطويل يمتد كوحش نائم فوق بيوت الطين المتلاصقة. لم يكن الجدار مجرد صخر وطين بالنسبة لياسر؛ كان لسانًا أبكم يسخر من أحلامهم الصغيرة، وسقفًا حديديًا يخنق تطلعاتهم نحو عالم مجهول يقع خلفه، عالم كان يتردد صداه في حكايات الجدات عن حقول واسعة وبساتين مثمرة قبل أن يلتهمها هذا السور الرمادي.
دسّ ياسر قطعة الفحم الصغيرة في جيب سرواله المثقوب، وكأنها أغلى كنوز الأرض. وصل إلى أقصى نقطة تجرأ الأطفال على الاقتراب منها، حيث يلتقي سواد الجدار بذهبية الشمس الأولى. نظر حوله بوجل، ثم رفع يده الصغيرة المرتعشة. لم يكن يرسم فحسب، بل كان يحاول أن ينفخ روحًا في هذا الصمت القاتل، أن يطلق سراح تلك الرغبة الخفية في التحليق التي تقض مضجعه كل ليلة.
برز عصفور نحيل على سطح الجدار الخشن، جناحاه مفرودان في محاولة يائسة للتحليق. لم يكن مجرد رسم؛ كان صرخة مكتومة، أمنية معلقة في الهواء، تذكيرًا بتلك العصافير التي كان يراها تحلق بحرية فوق الأسلاك الشائكة المحيطة بالقرية. ابتسم ياسر شاحبًا، وكأن جزءًا من روحه قد تحرر مع هذا الخط الفحمي الهش. ثم استدار وعاد أدراجه، تاركًا خلفه تلك البداية المتواضعة لحكاية ستكبر يومًا ما.
في اليوم التالي، تلاشى العصفور، وكأن الريح قد عبثت به أو كأن يدًا خفية امتدت لتمحو أثرًا لوجودهم. لم ينقبض قلب ياسر باليأس كما توقع. كان هناك جزء منه يتوقع هذه النهاية السريعة، لكن هذا لم يزده إلا إصرارًا. عاد في الغد، والفحم في جيبه، ورسم العصفور مجددًا، هذه المرة أعلى قليلًا، وكأنه تعلم من محاولته الأولى. وهكذا، يومًا بعد يوم، كان العصفور يظهر ويختفي، وفي كل مرة كان ياسر يعيده للحياة، بجناحين أوسع، بنظرة أكثر تحديًا نحو السماء.
في الأيام الأولى، لم يلتفت أهل القرية كثيرًا لعصفور ياسر الوحيد على الجدار الرمادي. كانوا قد اعتادوا على رؤية علامات باهتة تظهر وتختفي، رسائل يائسة محيت سريعًا كتمتمة عابرة. لقد تعلموا، عبر سنوات القهر الطويلة، أن يخفضوا رؤوسهم وأصواتهم، وأن يحصروا أحلامهم داخل جدران منازلهم الأكثر أمانًا. لكن، في داخل تلك النظرات العابرة، كانت هناك شرارات خافتة. امرأة عجوز تجعد وجهها المتعب وهي ترى الرسمة، ربما تذكرت طيورًا كانت تغرد بحرية في سماء قريتهم قبل أن يرتفع هذا الجدار المشؤوم، وقصة زوجها الذي رحل ولم يعد. رجل مسنّ كان يسير ببطء يتوقف للحظة، وعيناه الشاردتان تسترجعان صورًا لعصافير كانت تغرد على أغصان الزيتون في حقولهم المصادرة، حقول تحمل ذكريات شبابه وطفولته.
كان هناك صمت ثقيل يخيم على القرية، صمت ناتج عن سنوات من الترقب والخوف. لكن عصفور ياسر الصغير بدأ يحدث شرخًا دقيقًا في هذا الصمت. كان تذكيرًا خفيًا بشيء مفقود، بإمكانية التحليق ولو في الخيال. بعض الأمهات كنّ يمسكن بأيدي أطفالهن وهن يمرن بجانب الجدار، يسرن بخطوات أسرع، وكأنهن يخشين أن يلتقط أطفالهن عدوى الحلم من هذا الرسم الجريء، خوفًا من أن يدفعوا ثمنًا باهظًا لتلك البراءة. لكن في الليالي الهادئة، كان بعض الشباب يتسللون خلسة لرؤية عصفور ياسر. كانوا يقفون صامتين في الظلام، يتأملون الخطوط البسيطة التي تحمل في طياتها شيئًا من التحدي والأمل، شرارة صغيرة في عتمة يائسة.
ذات صباح، وجد ياسر شيئًا جديدًا بجانب عصفوره. لم يكن ممحوًا، بل كان إضافة. امرأة مسنّة، تجلس عادةً على عتبة دارها صامتة كتمثال، كانت قد تركت بصمتها: مفتاح مرسوم بفحم باهت. لم تكن مجرد رسمة، بل كانت صرخة صامتة للعودة، تذكيرًا بالبيوت التي تركوها خلفهم. في اليوم التالي، أضاف رجل كبير السن، كان معروفًا بحكاياته عن الماضي الجميل للقرية، قبة مسجد شامخة بجوار المفتاح، رمزًا لهويتهم وروحانيتهم التي حاول الجدار طمسها. ثم جاء شاب ورسم شجرة زيتون متجذرة، تذكيرًا بأرضهم التي يرفضون نسيانها.
تحول الجدار تدريجيًا من صمتٍ إلى لغة، من جدار عازل إلى مرآة تعكس أرواحهم المنهكة لكن الصامدة. أصبح كتابًا منسيًا يعيد كتابة نفسه، ذاكرة لا يمكن محوها بسهولة لأنها نُقشت بدموع الأمل ورماد الذكريات. لم يعد الأمر يتعلق بعصفور ياسر وحده، بل بحكاية قرية كاملة ترفض أن تُدفن تحت وطأة الظل.
لكن الاحتلال لا يحب الذاكرة الحية، ولا يحب أن يتحدث الجدار بصوت أهله. في ليلة مظلمة، اخترقت أصوات الجرافات هدأة القرية، مصحوبة بأضواء كاشفة قاسية مزقت العتمة. تجمع أهل القرية في الساحة الصغيرة، وجوههم شاحبة تحت ضوء القمر الخافت. كانوا يعلمون أن كل شيء سيُمحى، كما مُحيت رسوماتهم من قبل، كما مُحيت بيوتهم وذكرياتهم في مرات سابقة. لكن هذه المرة، كان هناك شعور مختلف، مزيج من الخوف والغضب الصامت، وإصرار خفي يشتعل في أعينهم.
حين بدأت الجرافة الضخمة في ضرب الجدار بقوة غاشمة، اهتزت الأرض تحت أقدامهم. ارتفع غبار كثيف، لف المكان ككفن. لكن وسط هذا الخراب، حدث ما لم يكن في الحسبان. لم يتشقق الجدار كما توقعوا، بل بدأ يعكس وجوهًا لم تكن هناك من قبل. وجوه المقاومين القدامى الذين ضحوا بأرواحهم من أجل هذه الأرض، وجوه الشهداء الذين ارتفعت أرواحهم إلى السماء، وجوه الذين رحلوا قسرًا لكن ذكراهم بقيت حية، وجوه الأسرى الذين يقبعون خلف قضبان الاحتلال.
تجمد الجنود في أماكنهم، كأنهم أمام طيف حيّ للماضي، أمام حائط من الذاكرة الصلبة التي لا يمكن اختراقها بالجرافات. بدا الجدار وكأنه لم يكن مجرد حجر وطين، بل صفحة من التاريخ ترفض أن تُطوى، سجلًا حيًا يصرخ في وجه الظلم. ومع كل ضربة جديدة للجرافة، كانت تتساقط حجارة الاحتلال المتداعية، لا حجارة الجدار المتماسك. بدا وكأن الجدار يمتص قوة ضرباتهم ويحولها إلى قوة تذكّر.
في الصباح التالي، وقف ياسر أمام الجدار. لم يكن كما كان من قبل. لم يكن مجرد بناء صامت، بل أصبح ظلًا يمتد خلفه، ظلًا يحمل وجوه من سبقوه، يحمي قريته من النسيان، ويروي للغد قصة صمود لا تمحى. لم يعد ياسر بحاجة إلى الرسم. لقد أصبح الجدار نفسه هو الحكاية، حكاية تُقرأ في صمته، في الوجوه التي يحملها، في إصرار أهل القرية الذين وقفوا في وجه الظلام.
لقد تعلم ياسر أن المقاومة ليست مجرد فعل، بل هي ذاكرة حية، وروح متجذرة، وحكاية تُروى جيلاً بعد جيل. وأن أقوى الجدران هي تلك التي تحمل أرواح أصحابها.