عتبة اللامبالاة
– إنّ ما حصلنا عليه لا يسمّى انتصاراً، وإنما هو شكل من أشكال الهزيمة الجزئية، فلا داع للزغاريد والمظاهر الاحتفالية
– نهاية الحرب هي بحدّ ذاتها انتصار، وحقنٌ للدماء وإغماد للسيوف المشهَرة
– هه هه، الحرب لم تنته ولن، وما حدث هو نهاية لمعركة من معاركها، وشطب لموقعة من مواقعها، هو فقط تغيير لساحة الصراع ونقله من بؤرة إلى أخرى، ليسجّل التاريخ أنّ المعركة انتهت، ويعلن الفريقان أنهما منتصران، ريثما يتم التحضير لإشعالها من جديد، هذا هو ما جرى بالضبط.
– أوافقكَ الرأي تماماً، فالكثير من حروبنا التاريخية والتي نحتفل بذكراها كانتصارات نرى أن العدو يحتفل بها كانتصار أيضاً، ولا نعرف من هو المنتصر بالحقيقة!
– سيدتي، الأنكى من ذلك أنّ قتلى الفريقين يسمّونهم شهداء، ونصيبهم الجنة الموعودة، وبالتالي سيلتقي المتقاتلون في الدنيا وجهاً لوجه ثانية في الجنة!
قالت وهي تبتسم بخيبة أمل:
– وقد يعودان للقتال والتقاتل هناك، لأنّ القضية لم تنته بعد
قلت وقد فقتُها وتجاوزتُها خيبة وإحباطاً:
– طبعاً سيلتقيان، ولكنْ هناك لا قتال، سيحتكمان بين يديّ الملائكة، وسيشرح كلٌّ من الفريقين أسبابَه ودوافعه للقتال، وسيحاول كل فريق إثبات نظريته بأنه يقاتل في سبيل الله.
انقلبَتْ ابتسامتها إلى قهقهة، وقالت:
– وكيف ستنتهي المحاكمة برأيك؟
قلت بعد أن رفعت ناظري إلى العلياء، وكأنني أرى السماء السابعة، والفريقان مجتمعان هناك أمام سدّة كبير الملائكة الحاكم بأمر الله:
– أوّاه يا سيدتي، كم أتمنّى لو أحضر محاكمة كهذه، ستكون طويلة طبعاً إذ أن الملفات والشواهد والأدلة والبراهين والحجج ستنتقل بالذاكرة للمدّعين من الطرفين على الطرف الآخر، وسيستشهدون بالشهود وسط الهرج والمرج.
– كأنها ستكون محكمة أرواح
– بالضبط، والقادة على الأرض سينصّبون من أنفسهم قادة في السماء للمرّة الثانية، ويستلمون المنابر وتنحني أمامهم الهامات كالعادة...
تقاطعني بالكلام لأنها تخالفني بالرأي، وتقول:
– هذا مستحيل، القادة على الأرض ليسوا قادة في السماء، ولن يستمر حكمهم الأبدي الذي يروّجون له إلى الحياة الأبدية
– ذاك صحيح، ولكنهم يعتقدون غير ذلك، وبعضهم يظن أنه حاكمٌ بأمر الله، والفراعنة عاشوا كملوك وكآلهة، وماتوا ودفنوا كملوك حتى يوم البعث المنشود، وما تزال قبورهم مزارات للأجيال، ومومياءاتهم الجيفية مدللة تسكن المتاحف الآن، ولم نجد مومياء واحدة لفلاح ٍ صعيديّ!
لم تعد تقوى على الضحك لأنها وصلت إلى نقطة اللامبالاة، وهي النقطة التي تجعل المرء متقبّلاً وراضياً بكل ما يسمعه، فقالت:
– وكيف ستنتهي تلك المحاكمة إن كنت تتخيّلها كما تقول؟ قل لي بالله عليك، لن أقاطعك ثانية، وسأسمح لك بتمرير ترّهاتك كحكاية من ألف ليلة وليلة.
إنّ عتبة اللامبالاة التي وصلَتْ إليها صديقتي للتوّ، تجاوزتُها أنا منذ زمن وعبرتُها، وخطوتُ منها إلى ردهة اللانهاية اللامتناهية، وهي ردهة فضائية واسعة فارغة كالفضاء بين النجوم، سوداء مع أن النجوم العملاقة ذوات النور تملأ الخلفية، لكنّ الردهة تلك على كبرها فارغة، وتشعر بأنك فيها كرجل الفضاء الذي خرج من كبسولته، بلا وزن، بلا جاذبية لأي من الأقمار، بلا انتماء لأي من الكواكب، بلا لغة لأنك لن تستطيع الكلام مع أحد، بلا أفق لأنك لا تعرف أين سينتهي بك المطاف في الفضاء، بلا أمل في الحياة المديدة، لأنّ حياتك مرهونة بكمية الأوكسجين في اسطوانتك التي تتنكّبها. وطبعاً لن تعيش طويلاً لتعطش وتجوع وتأكل، إن عيشك لساعات فقط، فخفّف ما استطعت من استهلاك أوكسجينك عساك تكسب بعض الدقائق.
قد يصادفك مذنّبٌ طيّار فيسلخك عن وجودك كذبابة في طريقه، وقد تجذبك أحد المدارات نحو أحد الكويكبات، وقد تموت لنهاية أوكسجينك فلا تتحلل ولا تُدفَن، وتبقى في المدار اللانهائي تدور وتدور.
وقد تنظر من بعيد إلى الكرة الأرضية وهي تدور، وترى بلادك كنقطة دوّارة مصابة بالدوخة من فرط الدوار المزمن، وتتخيل كيف أنّ مواطنيك يدورون ويُدارون، فتشعر بتفاهة الموقف، وتعود لفضائك الذي لا نهاية له.
أين السماء؟
يجب أن تكون في الأعلى، وأين الأعلى وأنا أتشقلب فلا أعرف الأعلى والأسفل! وجهنم، أين هي؟ يجب أن تكون تحتي، نعم إنها أحد الثقوب السوداء في المجرّة الكونية اللامتناهية.
إنها لحظات من التأمّل في الماورائيات، تجعلك تنتقل من عتبة اللامبالاة إلى ردهة اللانهاية الزمنية والمكانية، فترى محيطك الدنيوي تافهاً، محدوداً، مؤقتاً، فانياً، كاللحظة الحاضرة التي تذهب، ولا ولن تعود.
إنها ثوان سريعة وتعود لواقعك مع صديقتك التي تجاذبك أطراف الحديث.
قلت بعد أن بللت ريقي بالماء البارد:
– ما رأيك بطلب القهوة للمرة الثانية؟
– موافقة، ولكنك لم تجبني على سؤالي عن نهاية المحكمة، ورأيتك شردتَ عني بروحك وتركت جسدك أمامي كتمثالٍ بلا روح.
– نعم، لقد عدت الآن من فضاءاتي الرحبة، وسأجيبك، لأني تخيّلت ما جرى ويجري في تلك المحاكمة السماوية. سيُنهي كبير الملائكة ادّعاءات الطرفين ودفاعاتهم المتخبّطة بمطرقته، ليقول لهم، كلاكما على حق، ولكني أرفض ادّعاءكم بملكية أي شيء على الأرض، كله ملك لله، وإن كنتم تظنّون أنه يستعين بكم للدفاع عنه فهذا نوع من الظن، والصحيح أنكم أنتم تستعينون به. كلاكما منتصر بمعركته، والصواب أن تسلّموا أمركم لله وهو سيقضي بينكم بالعدل.
– عظيم، وهل سيوافقون على طرح كبير الملائكة؟
– لا أعتقد بأنهم سيوافقون، لأنّ أحد الفريقين خاض التجرية تلك، وأعلن بأنه انكفأ وترك الأمر لله في إحدى المراحل، فساد الطرف الآخر وماد، واستفرس واستشرس إذ لمس سكون الطرف الآخر وتراجعه، وظنّه ضعفاً وتراخياً.
– هه هه.. أظن أن الموضوع معقد ولن ينتهي، والمعركة ستستمرّ
– نعم، هذا ما سيجري، وستتوالى الانتصارات من الطرفين.
– إلى متى برأيك؟
– لا أدري بالضبط
وكاد الحديث أن ينتهي بالقول المعتاد لا حول ولا قوة إلا بالله، أو بالقول بأن لله في خلقه شؤون. ولكن عتبة اللامبالاة تفرض عليك أن تستمر بالثرثرة ولو كانت بلا طائل.
فقلت، فقط كي أقول شيئاً:
– دعينا نحتفل بانتصارنا الآن على أنفسنا، ننتصر على الفطيرة المحلاة التي أمامنا نقطعها ونأكلها، ننتصر على جلستنا هذه نمارسها كأحسن ما يمكن، ننتصر على لحظتنا الحاضرة نعيشها بلا منغّصات، وعلى فنجان قهوتنا نرتشفه بلذّة، كما سأنتصر الآن على سيجارتي فأحرقها، ولكنها بالواقع هي التي ستنتصر عليّ بنهاية المطاف.
ولم تجبني لأنها كانت فقط وجهاً يستمع بلا تقاسيم ولا أمارات، فتابعتُ قولي:
– فما رأيك بأن أنتصر عليكِ هذه الليلة طالما وطِئنا سوية عتبة اللامبالاة، ودلفنا إلى فراغ اللازمان واللامكان واللامادية؟
ظهرَت عليها علامات الاستحياء، وأغمضت عينيها لثوان، ورفرفرت بجفونها كجناح العصفورة الآيلة للطيران، ثم استجمعت قواها وأقلعت مآقيها من محاجرها، وحملقت في وجهي بتحدٍّ وقالت:
– في معركة الحب الأزلية بين الرجل والمرأة، يظن الرجل أنه هو المنتصر، وينام بعد تلك الموقعة سعيداً لأنه قضى وطره وانتصر، ولكنه عندما يستفيق يجد امرأته أيضاً سعيدة وراضية، وتعتقد في قرارة نفسها بأنها منتصرة أيضاً، فمن برأيك المنتصر الحقيقي؟
قلت كما قال كبير الملائكة في محكمته في السماء السابعة:
– كلاهما منتصران، هما لا يملكان شيئاً، حتى أجسادهما هي ملك لله، يتقاتلان بها كأجناد وكمقاتلين. وعند الفتح الأول تسيل الدماء ويرفعان كليهما راية النصر البيضاء المضرّجة، وتتعالى الزغاريد والاحتفالات من الطرفين، ثم تتوالى المعارك، وتتالى الانتصارات الجزئية والمنقوصة على رحم الهزيمة.
سكتنا كلينا، وكنا نشاهد شريط الأنباء على شاشة التلفاز المعلّق في ذلك المقهى، كان خبراً عاجلاً، بأنّ الردّ الموجع قد تم على القوات المعتدية في تلك الساحة من الأرض المتقلقلة بساكنيها.
لم نرتكس للخبر لأننا ما نزال في عتبة اللامبالاة، وفيها تعتاد الحواس على الأخبار المفرحة، لأنه فرحٌ وقتي، وسيليه الحزن المؤقت لا محالة.
تعقيب:
إن عتبة اللامبالاة تجعلك تكتب بحرية في الفضاء الرقمي، لأنك تعتقد أنك بلا قارئ، وبالتالي بلا ردود ولا تعليق. وعتبة اللامبالاة جميلة إن وصل إليها القارئ أيضاً، لأنه سيمرّ ساعتها فوق العنوان وفوق المقال نفسه بلا ارتكاس وبلا اكتراث، وبلا مبالاة أيضاً.