الاثنين ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٤
قراءة أوَّلية في رواية
بقلم أحمد زياد محبك

في حضرة المحبوب

رواية لا تشبه غيرها من الروايات، ولا تتّفق مع المألوف في الرواية العربية، فهي لا تُعنَى بالزمان، ولا المكان، ولا الحُبْكة، ولا يهمُّها التشويق، ولا الإثارة، وقد شاع في الرواية العربية الاهتمام بالسرير، وتصوير العلاقات الجسدية، بمختلف أشكالها، وطغى الاهتمام بمشكلات الواقع السياسي والاقتصادي في المجتمع، والاستغراق في الأيديولوجيا والدعاية المباشرة وغير المباشرة، هي هموم واهتمامات لم تأخذ هذه الرواية منها بشيء، ولعل أقصى غاية لهذه الرواية أن تكسر مفهوم الرواية التقليدية، ويبدو أنها حققَّتْ تقدُّمًا كبيرًا نحو هذه الغاية.

وللقارئ أن يقرأها بهدوء، وليس له أن يلهث وراء معرفة ما سيجري أو ما سيقع، أو أن يقفز فوق بعض الفقرات ليعرف ماذا سيحصل، أو ليكتشف النهاية، لأنه ليس ثمة ما يجري، وليس ثمة نهاية، بالمعنى المعروف للنهاية، فالتفاصيل أهم من النهاية، ومتعة الرحلة أجمل من لحظة الوصول، أيًّا كان هذا الوصول نوعًا وكمًّا وكيفًا، للقارئ أن يستمتع بما في الرواية من لغة شعرية، ومواقف إنسانية، وحالات من الحس والانفعال والوجدان، وللقارئ أنْ يُحِسَّ بما في الداخل من همسة الروح، وخفقة القلب، وخلجة الشعور، وأن يحس بما في الخارج من فجائع الواقع وانكسارات الآمال، للقارئ أن يعيش متعة الانتظار، ويحس حلاوة الوعد، ويترك توقُّعَ ما سيجري.
لذلك، هي رواية جديدة، لا تشبه غيرها من الروايات.

في المركز من الرواية ذات، وفي المحيط من حولها الآخر، ويمكن تسمية المركز: الداخل، وتسمية ما يقع في محيط الدائرة الخارج، فثمة داخل وخارج، وبينهما تترجَّح الرواية في انتقالات متواترة، في الداخل، حيث مركز الدائرة، الذات، وهي تشاهد، وتعاني، وتتألم، بكل ما حولها في المحيط، حيث الخارج، وهي في المركز تحمل الحب والوجد والشوق والألم، تحمل الشعر.
وفي المحيط، أو الخارج، حول الذات: الناس، وهم الذين يفعلون، الأفعال في الخارج ذات طابع مأسوي: غرق، احتراق، غربة، ضياع أطفال، انفصال بين الأزواج، والحالات في الداخل، وهي حالات لا أفعال، ذات طابع رومنسي، قوامها: الحلم والخيال والمشاعر المتأججة والانتظار العقيم، في الخارج الفعل، وإن كان مؤلمًا وقبيحًا، وفي الداخل التأمل العاطفي الشعري والجميل، الرومنسي، ولكنه في الوقت نفسه أيضًا، مأسوي.

هناك، خارج الذات، أناس يفعلون، وفي الداخل ذات واحدة تتألم وتتخيل وتحلم وتعيش أيضًا المأساة، مأساة الوحدة والعزلة، مأساة الجمال والشعر، هي غربة الفرد والشعر والجمال، في وسط يسيطر عليه القبح، ويحيط به من كل جانب، وتطغى عليه المآسي.

أليست هذه هي الحياة نفسها؟ في الخارج في الواقع في الناس: القبح، وفي الداخل، في الذات، في النفس، الخيال: الجمال، الشعر.
*
وبين الخارج والداخل تترجَّح الرواية، أي أنها تترجَّح بين الواقع والحلم، بين القبح والجمال، بين القيد والحرية، بين الفعل الخارجي والاستجابة الداخلية.
والرواية تترجَّح أيضَا بين القصة والشعر، حوادث تقع في الخارج للناس، ترويها في قصص، واستجابات في داخل البطلة في نفسيتها ومزاجها، تحكيها شعرًا، وبذلك يتم الانتقال من إلى في تواتر مستمر، وترجُّحٍ بين قصٍّ وشعر، بين العالم والذات.
في الخارج، في محيط الدائرة، أزواج وأطفال، آباء وأمهات يختصمون، وينفصل بعضهم عن بعض، وأطفال تحترق أيديهم، أو تضربهم سيارة، أو يغرقون في بحر، أو يُودي بهم انفجار، وأطفال، وأطفال، في الخارج، كل الرجال ظَلَمَة، وكل النساء مظلومات، كل الأطفال ضحايا، الأطفال تختلف أسماؤهم، وتختلف أشكال المآسي، ولكن الفعل واحد، يتكرر، هو المأساة.
صوتان اثنان يتناوبان الكلام في الرواية، الصوت الأول: صوت الواقع بما فيه من ألم ومأساة وعذاب ولا سيما عذاب الأطفال، بل بما في الواقع من قبح، وعذاب المرأة وقسوة الرجل، والصوت الثاني: صوت الشعر والحب والصوفية، بما فيه من شعر وخيال وصفاء ونقاء وطهر، بل بما فيه من سُمُوّ ونقاء وبُعْد عن الحسية والجسد والشهوة.
وما يميِّز الداخل هو الثقافة، فالرواية غنية باقتباسات من القرآن الكريم، ومن المثنوي لجلال الدين الرومي، ومن نزار قباني، ومن محمد عمران، وإشارات إلى زوربا، وسيامند، وكراديفا، وبيتهوفن، وسيغموند فرويد، وهوميروس وغير ذلك، وهي إشارات واقتباسات ملتحمة عضويًّا مع الرواية، لأنها نابعة من ذات رؤى، وقد جاءت في مواضعها الضرورية، لتصوِّر حالة، ولتعبِّر عن شعور وانفعال، ولم تكن زينة، وتم الحرص في الرواية على توثيقها بالدقة العلمية التي تأخذ بها البحوث الجامعية، وهذا لا يضيرها في شيء، بل يؤكد الصدق والأمانة.
*
ويظهر على طول الرواية مكان، وهو دار الحضانة، ولهذا المكان خصوصيته، وهي خصوصية لم تقصد إليها الرواية، فلا تفاصيل في وصف هذه الدار، ولا عناية بها، سوى أنها دار حضانة، تعمل فيها رؤى معلمة، ووظيفة الدار في الواقع الاجتماعي احتضان الأطفال، ولا سيما أطفال السيدات العاملات، ولكن تمتلك هذه الدار في الرواية بُعدًا آخر، فقد أصبحت في الرواية مأوى لأطفال تفرّق آباؤهم بالطلاق، وبذلك تصبح دار الحضانة في الرواية تعبيًرا عن تفكك العلاقات الأسرية، وتقطُّعها في مجتمع المدينة، وغياب الحب، فإذا دار الحضانة دار أيتام.
والمُهِمُّ في هذا المكان شيء واحد هو الشجرة، فثمة شجرة، في باحة دار الحضانة، والرواية لا تحدِّد موقعها، ولا تصف نوعها، وإلى جذع هذه الشجرة كثيرًا ما تستند رؤى، لتفرغ همومها وتبث شجوها، وفي ظل هذه الشجرة كثيرًا ما تلتقي رؤى العمَّ بسام، ويدور بينهما حوار حول الأطفال والآباء، وكثيرًا ما يكون للشجرة في الرواية حضور متميز، ولعل من أجمل ما جاء في الرواية عن الشجرة المقطع التالي: " هبت نسائم عليلة، ومادت أغصان الشجرة، شعرت رؤى أنها أحد أغصان الشجرة، أمسكت بجذعها بقوة، وراحت تبادلها الصمت، هل حقًّا حنجرتي تؤلمني عندما أتكلم؟ أم الكلام يؤلم أوصالي؟ هل مللتُ الكلام؟ واخترت أن أكون كهذي الأغصان صامتة، وأفتح ذراعيَّ للشمس، للريح، لقطرات المطر، أمعنتِ النظر في الشجرة، سمعتْ تمتماتها، وشعرت بشجون حفيف أوراقها، كانت الشجرة تتأبط قيثارة، وتعزف، ولا أحد سواها يسمع ذلك العزف الشجي، أطفال كثيرون لعبوا في ظل هذه الشجرة، منهم مَنْ ما زال هنا، ومنهم مَنْ كبر وغادر المكان، لكنّ رؤى كأحد أغصان هذه الشجرة، باقية لا تغادر المكان"، فهل الشجرة هي الحياة؟ أم هل هي ما تحتاج إليه تلك الدار ليعيش فيها الأطفال بأمان؟ هل هي الشجرة التي تحتاج إليها المدينة كلها لتحس بالطبيعة والريف؟ أو هل هي شجرة الحياة التي يجب أن يستظل بظلها الأبوان فلا يفترقان؟
وثمة مكان آخر، لا تُعنَى به الرواية، ولا تصفه، فلا تصور محتوياته، ولا تحدِّد أركانه، ولا تصف محتوياته، ولكن مع ذلك يمتلك خصوصيته، إنه بيت رؤى، غَنِيٌّ وحافل، هو غَنِيٌّ بالحب والمشاعر والخيال والانفعالات، وهو حافل بالموسيقى والشعر والفن، وحسب هذا البيت فخرًا أنه بيت رؤى، فهو بيت الشعر والأحلام والخيال، بيت الجمال، إن بيت رؤى هو ذات رؤى، هو الداخل الجميل، في إطار من الخارج القبيح.

وفي المقطع التالي تصوير لرؤى وهي تستعد للقاء الحبيب، وفيه تظهر حقيقة بيت رؤى وحقيقة ذاتها الشاعرة: "غدا بيتُ رؤى في تلك الليلة كوردة الربيع، تشمُّ عَبَق روحه البهية من بعيد، غدا بيتًا للحب، وأشعة دافئة تعانق جدرانه، كانت تسير وقدماها تلامس صعيدًا طيبًا عطرًا بترانيم الآتي، حارت كثيرًا ماذا تلبَس للفارس الجليل؟ خلعت ثوبًا، ولبست ثوبًا، مرات عدة، وأخيرًا استقرَّ اختيارها على فستان أزرق ذي أكمام طويلة تنساب كأجنحة البجعات، كانت بجعة طيبة، كانت الحب بكل ملامحه ولُغَاتِه وموسيقاه، صبَّتْ عصير التوت في الأقداح الفضية، شعرت أن نهرين يسيران في القدحين، نهرين من الطمأنينة والسَّكِينة، ونظرت هناك، رأت أسراب البجعات تتراقص مهللة لجلال الحب وسُمُوِّه، نظرت إلى اللوحة المعلقة على الجدار السعيد، سمعت موسيقا جليلة من عازف الكمان المرسوم في اللوحة، يا إلهي نطقت كل أشيائي، غدا اليباب مرجًا من أقحوانات، هُرِعت إلى الشموع، أخرجتها من الصندوق الذي خبأتها فيه منتظرة هذه الليلة، مسحت ما عليها من غبار، أشعلتها، فوجئت بالنور الساطع، فلم تر لهيب نار، بل آنست نورًا، وسمعت تراتيل مؤنسة، كأنها تتهادى إلى مسمعها من هيكل عتيق، انضمت إلى الجوقة، راحت ترتِّل، وقلبُها يرقص الباليه على وقع التراتيل، لم تكن رؤى، بل كانت ملاكًا مِنْ رؤى، ونورًا من ملاك، وقفت في منتصف الصالة والماء يسيل من جرتها، يا إلهي أغدوتُ ربة اليَنبوع؟ راحت تسير وتحمل ذيل ثوبها كي لا يبلله الماء، فجاءها صوت: "لا ترتاعي، لن يبتلّ ثوبك، إنه صرح ممرَّد من قوارير"، حاولت أن تفسِّر ما يحصل، أهي تحلم؟ أتعيش في كنف رؤيا؟ ومَنْ يفسر رؤياها؟ لكنها حين دققت في الأشياء حولها أدركت أن كل ما تحياه واقع، بل في صميم الواقع، وليس له علاقة بالرؤى، شعرت أن النافذة المشرعة بدأت تحمل إليها عبقه، قالت هامسة لجوارحها: "إني لأشم عبقه".

وثمة ما هو متميز عن الطرفين: الداخل والخارج، وهو مختلف، وله خصوصيته وله ذاته، ولعله الوسط بين الحدَّين، أو لعله هو الخلاص، إنه العمُّ بسام، تألَفُه رؤى، بطلة الرواية، وتطمئن إليه، رجل ريفي طيب بسيط، ولعله النموذج الجميل للحب.
العم بسّام أحبَّ في صباه فوزية ابنة الجيران، ولكنه تزوج من امرأة أخرى، لا اسم لها في الرواية، وليس لها حضور، وتصفها الرواية بأنها مجرد زوجة ودود مخلصة لزوجها وفية ومطيعة، وقد أنجبت له البنين، ثم توفيت، وظل العم بسام الطيّب النقيّ وفيًّا لحبّه لفوزية، وظلت فوزيّة وفية له، عن بُعد، فهي ترسل إليه في الشتاء وشاحًا وسترة من القرية، لتقيه من البرد، ثم يرجع أخيرًا، بعد التقاعد، إلى قريته، ليعيش الحب العفيف مع فوزية، فيهديها عقدًا من اللؤلؤ على شكل عنقود عنب، ويعيشان في دار واحدة، تحت عريشة العنب، ولكن، كل منهما ينام في غرفته، ليعيشا الحب الريفي البريء السليم، وكأن عمل العم بسام حارسًا في دار الحضانة هو حراسة للطفولة، ورعاية لها، وحراسة أيضا لرؤى ورعاية لها.
وبذلك يظهر الريف المجال الصحيح والمعافَى والسليم للحب، في حين تظهر المدينة وقد دُمِّرَ فيها الحب، وتفككت فيها العلاقات الأسرية، ولم تنتج سوى أطفالٍ شبهِ أيتام، تفرَّق فيها الآباء والأمهات بالطلاق، وليس أمام الأطفال سوى دار هي أشبه بدار الأيتام، وليس من مصير أمام الطفولة في المدينة سوى التشرد والبؤس والكوارث والفجائع.
*
ومحور الرواية الحب، حب رؤى، لكن، من هو الحبيب؟ وهل يلتقيان؟ ثمة ترجُّحٌ، أيضًا، بين واقع وخيال، بين حبيب حقيقي متحقق، وحبيب كلي شامل مطلق، ثمة ترجُّح بين حضور غائب، وغيب حاضر، بين غيب وحضور، وثمة دهشة ومفاجآت عجائبية.
تدخل رؤى، في مشهد أول، إلى مكتب الحبيب بدعوة منه، فلا تجده، ولكن تجد رسائلها معلقة على حبل، موقَّعة بالدم، وتدخل إلى غرفة في العمق، إلى غرفة في داخل الداخل، فترى تابوتًا، وفيه ثوب عروس، وإذا هي نفسها في ذلك الثوب، هل ماتت قبل أن تموت؟
وثمة قَرْعٌ على الباب، في مشهد ثانٍ، وتستعد رؤى إلى لقاء الحبيب أجمل استعداد بلغة شعرية، هي الشعر، وتفتح الباب...
وأخيرًا، في مشهد ثالث، جاء الحبيب، تراه من النافذة، في سيارة فارهة، ولكن ماذا بعد؟
هذا ما ستصوره الرواية.
*
رواية تجمع بين الصوفية والعجائبية والرمزية والسريالية والشعر والواقع، رواية: العالَمُ فيها يموج بالقبح والجرائم والقتل والمصادفات المؤلمة، أطفال يتامى، وليسوا يتامى، يعانون من انفصال الأبوين، الأطفال يدفعون ثمن جرائم الكبار، وشابَّة، هي رؤى، تحبّ، وتحلم بالحبيب، وتعيش الحب والسحر والشعر والجمال، تعيش مأساة الأطفال، تكتوي بنارهم، ولا تجد الراحة والطمأنينة والأمان إلّا لدى العم بسام، فهل هو أنموذج للخلاص؟
*
العنوان مدهش، "في حضرة المحبوب"، الحضرة هي غير الحضور، الحضور لا يكون إلا لما هو حسيٌّ ماديّ ملموس، والحضرة هي حضور روحي معنوي، هي حضور قيمة ومعنى، والحضرة مصطلح صوفي، والمحبوب هنا هو المحبوب، يقينٌا، يدل على ذلك الداخل، بما فيه من وجد وحب وشعر وابتهال، فالمحبوب محبوب، والحب منذور كلُّه له، وهذا نزوع صوفي، ولكن: هل هو مُحِبٌّ أيضًا؟ ثمة ترجُّح بين بين، وليس ثمة ما يقطع بيقين، وهذا نزوع صوفي آخر، والمحبوب هنا غائب، ولكنه حاضر، هو غائب له حضور، وحين يحضر يكون حضوره غيابًا، لذلك كان العنوان في حضرة المحبوب، لأن الحضرة غير الحضور، فالحضرة أبدية، والحضور مؤقت.
ويبقى السؤال: من هذا المحبوب؟ وما طبيعة هذا الحب؟
*
في هذه الرواية الحضور هو غياب، والغياب هو حضور، كيف يتحقق هذا؟ لا يتحقق إلا بالشعر، وبالوجد، وباللامعقول، وهذه هي خصوصية هذه الرواية، حضور الحبيب يعني غياب الذات، وغياب الحبيب هو حضور للذات، والحبيب في الحقيقة حاضر غائب، الحبيب حاضر حقيقة دائمًا لا يغيب، ولكنه يغيب عن الحس والعيان، لا يدركه إلا الوجد، ولا يمكن إدراكه بالحس، وإذا جاء حسًّا وواقعًا غاب الإحساس به، أو غابت الذات، لأن الذات لا يمكن أن تدركه، بل إذا جاء رفضت الذات حضوره، فكأن حضوره نفيٌ للذات، كأن الذات تريده أن يأتي وتريده ألَّا يأتي، لعله إذا جاء تحقّق الحلم، وتحطّم، ولم يعد ثمة حلم، لذلك إذا جاء يجب أن يغيب، حتى تبقى الذات حاضرة، فلكأن العدَم هو الوجود، لأنه يصنع الحرية، ولكأن الوجود عدم، لأن الحرية تغيب في حضوره.
هل هي قفزة خيال، وفانتازيا؟ هل هي دراسة في الواقع نتيجتُها الخشية من مصير مشابه لمصير النساء الأخريات، والخوف على مستقبل أولاد لا يُرَاد لهم أن يأتوا؟ هل هي حلم رومنسي بحب ريفي بريء؟ وهكذا يظل الترجُّح بين واقع وخيال، بين قبح وجمال، بين خارج وداخل.
*
حتى في الحوار، ترجَّحت الرواية بين الحوار الحي، والحوار المروي، وترجّحت بين حوار تقول: قال، وقلت، وقلت في سري، وبين حوار يرد مباشرة من غير قال وقلت، وهي في الحالات كلها تكسر المألوف، فلا تضع الحوار في أول السطر، بل تتركه في المتن المسرود، لأنه في الحقيقة جزء منه، وهو انطلاق حرٌّ في فضاء التشكيل الطباعي، وكأن الرواية تعود إلى الأصول الأولى للرواية، إلى ألف ليلة وليلة، في الحكي وفي الطباعة، حيث يتداخل فيها الحوار بالسرد، ويمتزج السرد بالحوار، سردًا وطباعة، لأن الفيصل هنا هو الحس والانفعال والشعور، وليس العقل والوعي والمنطق.
*
في الرواية سرد، وفي الرواية شعر، وفي الرواية سيرة ذاتية، ليس فيها وقائع وحوادث، لكن فيها سيرة داخلية، هي سيرة حسٍّ وانفعال وشعور، وفي الرواية سِيَر موضوعية، تحكي فيها قصص أطفال يتامى، وليسوا يتامى، أطفال لم يمت فيهم أحد الأبوين، ولا كلاهما، ولكنهما تفرّقا، وإذا دار الحضانة هي أشبه بدار الأيتام، والرواية تحكي قصصهم، لا لكي تسرد تاريخًا، أو تقص قصصًا، إنما ترويها عبْر الذات، ومن خلال رؤية شعرية، مما لا شك فيه أن لها دلالات واضحة على واقع اجتماعي، وربما اقتصادي، وربما في بعضها دلالة على مرحلة تاريخية معينة، ولكن القصص في الحالات كلِّها ليست تأريخًا ولا وثائق وليست الغاية منها هذا، هي قصص مرَّتْ عبْرَ ذات، وانصهرت فيها، وتحوَّلت إلى معاناة، وهي تحمل دلالة أكبر على ذات تخشى هذا الواقع، وتخاف من هذا المصير، وتحس بالقبح، وتتألم من الفجيعة.
*
القارئ العادي يرسم للرواية حدودًا، ويضع لها قواعد وأصولًا، بل يضع لكل فن قواعدَ وأصولًا وقوانين، وهو يشتق هذه القواعد والقوانين والأصول من بعض ما قرأ، أو من خلال ما تلقّى من تعليم في المراحل الثانوية، بل حتى الجامعية، ويظنها مقدَّسة، ويبحث عنها في كل ما يقرأ، والمبدع الحق يكسر تلك القواعد والقوانين والأصول.
المبدع يمتلك الحرية، لأنه فرد مبدع، والقارئ العادي يقيِّد نفسه بقيود ما قرأ، وبقيود ما تلقى من تعليم، وبقيودٍ مِن أعراف وقوانين في المجتمع، وبقيود ومفاهيم أدبية ونقدية عامة شاعت في مجتمعه وفي عصره، أشاعتها على الأغلب أيديولوجيات أبعد ما تكون عن الفن، وظنها القارئ العادي وحدها هي الأدب والنقد والفن، لأنها شاعت في مجتمعه، أو عصره، أو في مرحلته، وأَلِفَها، فظنها وحدها هي كل شيء، واعتقد بها، فقدَّسها، لأنه لم يطلع على غير ما قرأ أو شاع وانتشر، لأنه اطمأن إليها، واستراح، ولأنها تمثل الذوق العام السائد، وحتى إذا ما جدَّ جديد في مجتمعه نفسه، فإنه لا يقبل به، لأنه متمسك بثقافة مرحلة عاشها في صباه، ولذلك، ينكر القارئ العادي أيَّ شكل من أشكال التجديد، في الأدب والفن والنقد، لأن صورة واحدة انطبعت في ثقافته المحدودة، ولأنه لا يعرف الجديد، ولأن العمل على معرفته أمر متعب.
ومن المثقفين أنفسهم، وهم أشد خطورة، من يتمسك بمنهج نقدي، ويفهمه على نحو ما أراد، أو يفهمه الفهم الصحيح، ويتعلق به، ويظنه كل شيء، ويقيس به الأدب، وكأن المنهج مسطرة تقاس بها المسافات، وينسى أن المنهج الواحد يتشعب إلى مناهج، وأنه يتغير في الممارسة والتطبيق، وأن المنهج نفسه عند هذا الناقد ليس هو المنهج نفسه عند ناقد آخر، بل ينسى أن المناهج كثيرة، وهي في تطور وتغير مستمر.
وهنا تبرز مشكلة المبدع، إذ عليه أن يكسر المألوف، بل من طبعه أن يكسر المألوف، وأن يخرج على المناهج، فينطلق حرًّا في فضاءات لا يعرفها المتلقي ولا الناقد، بل لا يعرفها مجتمعه، وغايته أن يُرْضي تجربته، لا أن يرضي مجتمعه، ولكن بعض الأدباء يرغبون في إرضاء القارئ، أو في إرضاء مفاهيم وأيديولوجيات.

ورؤى، بطلة الرواية، أخيرًا، من هي رؤى؟
رؤى جمع لرؤية أو رؤيا، والرؤية في اللغة هي للبصر، أي للبصر بكل ما هو حسي ومادي ملموس، أو لرؤية العقل رؤية واضحة مستنيرة، لما هو مدرك ومعقول، والرؤيا هي للبصيرة، أي لرؤيا القلب والحلم والأماني، لرؤيا المشاعر والعواطف والانفعالات، وهنا يظهر الترجح بين طرفين، وقد يتداخلان، وفي حالة الإبداع تتحد الرؤية بالرؤيا، ورؤى في الرواية هي تلك الحالة من الإبداع تتّحد فيها الرؤية بالرؤيا وتتوحد، فإذا هي رؤى.
رؤى في الرواية هي كذلك، هي المعاناة والألم والقهر، والإحساس بالعالم كله، ولا سيما الأطفال المعذبين، والنساء المعذبات، وقصصهم لا تُروَى مجرَّد حكايات، إنما تروى من خلال مرورها عبر الذات التي تعاني، فمأساة كل طفل هي مأساتها، وقصة كل امرأة هي قصتها، ورؤى بعد ذلك كلِّه وحدَها، متفرِّدة بشقائها وألَمها، متفرِّدة بشعرها وحبِّها وخيالاتها، وهي قبل ذلك كله إنسان من لحم ودم، له كيان في الرواية ووجود، وله ظل وله صوت، وله حضور أنثوي متميِّز، وذو طابع خاص، سامٍ وراقٍ وعفيف، غير مُسِفٍّ ولا واهن ولا ضعيف.
هل رؤى بطلة الرواية هي مؤلفة الرواية، قد تكون هي وقد لا تكون، ولكن الأهم أن الرواية هي رؤى رؤى، أي هي مجموع رؤية رؤى للعالم، ومجموع رؤياها، فإذا الرواية رؤى، جمع رؤية، أو جمع رؤيا، أو هي معا جمع رؤيا ورؤية، وإذا البطلة نفسها رؤى، وما أصعب أن يرى المرء العالم ببصره وبصيرته، كالقديس الذي افترست الرؤيا عينيه.
إن لدى القارئ العربي دومًا فضولًا قويًّا لمعرفة سيرة المؤلف، وإن لديه رغبةً كبرى في البحث عن التشابه بل التطابق بين المؤلف والراوي أو أحد أبطال الرواية، وبحوث كثيرة وُضِعَتْ في هذا الصدد، وفي الحقيقة لا جدوَى من ذلك الفضول، ولا فائدة من هذه البحوث، فالمؤلف يظل هو المؤلف، في حياته الشخصية، والراوي يظل هو الراوي، وليس هو المؤلف نفسه، وأي تشابه أو تماثل ولو بلغ حدًّا يشبه التطابق، فإن المؤلف يظل هو المؤلف، وليس هو الراوي، ولا أي أحد من شخصيات الرواية، وأي بحث عن تشابه أو تطابق هو فضول لا جدوى منه، حتى حين يكتب المؤلف سيرته الذاتية، ويصرح بأنها سيرته، إذ لا يمكن لأي مؤلف بارع أن يقول كل شيء عن ذاته، ولو كان الكلام كله عن هذه الذات، فهو في الحقيقة كلام موجه إلى القارئ، وهو كلام فني صيغ بدقة ووعي، ومن أجل هدف.
*
رؤى هي نتاج تلك الدار، دار الحضانة، أو بالأحرى دار الرعاية لأطفال تفرّق في أسرهم الأبوان، وما دار الحضانة إلا شريحة من شرائح المجتمع، قد تمثله كلَّه مثلما تمثل قطرة الدم الشخص كله، رؤى هي نتاج موضوعي للفارق بين مدينة تفككت فيها الأسرة، وريف يظل المجال الجميل لحب جميل، هذا هو إطار الرواية، ولكن تظل معاناة رؤى المحور الأكثر حضورًا في غياب الحب، أو بالأحرى: حضور الحب، وغياب الحبيب، وتظل الرواية مخلصة لعنوانها: "في حضرة المحبوب".
*
وفي النهاية تحقق رؤى ذاتها، وتصنع الحرية.
ولكن، كيف؟


 

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى