الثلاثاء ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٩

قراءة في المجموعة القصصية «القفص» لفدى جريس

منير توما

بعد قراءتي لقصص الكاتبة فدى جريس في مجموعتها التي تحمل عنوان «القفص» استرعى انتباهي بساطة مضمون القصص وخُلّوها من العناصر الدرامية في الحدث من حيث افتقارها الى تناول دواخل النفس البشرية في شخوص القصص، وكذلك اعتماد الكاتبة على سطحية الأجواء الداخلية والخارجية لدائرة الحدث في معظم القصص إنْ لم يكن كلّها. وأكثر ظنّي أنّ إجادة الكاتبة في فنيّة السرد المقبولة، لا بل الجيّدة قد يشفع لها في جعل مجموعتها القصصية هذه تندرج في نطاق العمل الأدبي متوسط المستوى. وليس قولي هذا انتقاصًا من القيمة الأدبية لهذه المجموعة، وإنّما هو تعبيرٌ عن انطباعٍ مؤسّس على رؤية معمّقة أكثر في كتابة قصص ينحو فيها الكاتب بوجهٍ عام منحى دراسة ما يجول في أعماق نفسية الشخصية الإنسانية لتصوير صراعات داخلية تحفِّز القارئ على استكناه واستبطان ما يمكن أن يؤثر فيه فكريًا وذهنيًا على الصعيدين الشخصي والعام، وإن كان عنصر التسلية في قراءة القصص يشكِّل جانبًا مهمًا، إلّا أنَّ القصة بمنظور أدبيٍّ يتوجب على كاتبها أن يعنى ليس فقط بطريقة وأسلوب الكتابة والعرض، بل عليه أن يصبغها بصبغة فكريّة نافذة الى النفس التوّاقة للاستمتاع ذهنيًا وروحيًا بما تتضمنه الأفكار المطروحة من غايات وأهداف انسانية واجتماعية مطبوعة بطابعٍ يغلب عليه القراءة ما بين الكلمات والسطور، وليس الترفيه والتسلية المألوفة التي لا تترك أثرًا ملحوظًا في القارئ، بل أنّ الكثير من مضامين قصص مجموعة «القفص» كان الهدف منها تبيان حالات شائعة وسائدة من المعاناة الانسانية اقتصاديًا بالدرجة الأولى، واجتماعيًا وسياسيًا في الدرجة الثانية، وكل ذلك من خلال سردٍ فنيٍّ لا بأس فيهِ، يتضمن انواعًا وأنماطًا من الحوار الرتيب الشائع شعبيًا (monotonous dialogue) دون أن يحتوي على «دَسَمٍ» أدبيٍّ ذهني مُحَفِّز على الوصول الى أمور ذات جدوى غير التسلية التي يصبو إليها ويستسيغها الكثيرون مِمَنْ لا يميلون الى إِعمال الفكر عند قراءة القصص. واذا تتبّعنا قصص الكتاب وجئنا الى قصة «الجوع الكافر»، نجد أنّها قصة بسيطة المضمون، وموضوعها يدور حول المعاناة الاجتماعية الإنسانية الأُسرية نتيجة ظروف المعيشة القاسية اقتصاديًا في إطار منطقة السلطة الفلسطينية حيث تسود أسباب سوسيوبوليتيكية تؤدي الى عجز الوزارة في السلطة الفلسطينية عن دفع أجور الموظفين، والمُعَلمين تحديدا وبالتالي تحدّثنا القصة عن تصرّف عنيف من المدرِّس (أبو هاني) تجاه صاحب البيت (أبو كامل) الذي يضيّق الخناق على (أبو هاني) لدفع ايجار شقته، فيقدم (أبو هاني) بضرب (أبو كامل) ضربًا مبرحًا لانفعالهِ الشديد لعدم توفر المال لديه وتراكم الديون عليه من كل جانب مما أدّى الى وصول الواقعة الى الشرطة.

وتعود الكاتبة الى ثِيمة المعاناة الاقتصادية والمادية والسياسية الناجمة عن الفقر في أجواء وظروف الاحتلال حيث تصوّر قصة «ورشة عمل» من خلال الحوار بين نساء حول البطالة التي يعاني منها أزواجهن بسبب القيود السياسية حيث تعبّر أولئك النسوة في أحاديثهن المتبادلة عن سخريتهن من الواقع الذي يعيشون فيهِ بمقارنة فيها كثير من المفارقة الساخرة (irony) بين حياتهم المأساوية وعيشة المترفين من الأجانب الذين يأتون اليهم لتقديم المحاضرات الاجتماعية والنفسية والثقافية، والتي لا تتماهى أبدًا مع ما يكابدونه من ضيق الحال ماديًا وسياسيًا. وتقدِّم لنا الكاتبة قصة «كنقرات الديك» وهي قصة قائمة على رسم صورة عن إهمال الموظفين في مكاتبهم والتناحر الشخصي فيما بينهم من ثرثرات وتآمرات وظيفية بحوارات سخيفة، وذلك بشتى الصور والأشكال حيث تظهر لنا القصة نقمة اولئك الموظفين المهملين على الموظّف المخلص المتفاني في عمله الوظيفي المدعو (حسام) الذي يتآمرون عليه ويحيكون الدسائس لابعادهِ عن المكتب. وهنا تستحضر الى الذاكرة، ويتبادر الى ذهننا تلك المسلسلات والأفلام المصرية والعربية عمومًا التي تعكس وتجسّد مثل هذهِ الأمور في القصة التي نحن بصددها، فهناك تتمظهر هذه الحالات الوظيفية المنفلتة الحافلة بالإهمال والبُعد عن المسؤولية مما يبيّن التشابه الكبير الواضح بين هذهِ القصة، وتلك المسلسلات في هذا الشأن وحول موضوع إهمال الموظفين في مكاتبهم الحكومية والمؤسساتيه لواجباتهم تجاه الجمهور، واستهتارهم بالالتزامات المتوجبة عليهم، وقضاء معظم أوقاتهم في القيل والقال والكلام التافه والحقد على بعضهم البعض وتمرير وحياكة المؤامرات البغيضة بغية إيذاء أندادهم وزملائهم. وفي قصة «الصوّان»، نرى الكاتبة تأتي بنموذجٍ للشباب العربي الشرقي الأعزب المتشدّد والمتزمت في شروطه لعروس المستقبل من حيث كونه يعتقد بكلّ قناعاتهِ أنَّ المرأة يجب أن تبقى في بيت الزوجية ولا تخرج للعمل حتى وإن كانت جامعية الثقافة، ففي رأيهِ أنَّ الزوجة واجبها خدمة زوجها واولادها دون اندماجها بالمجتمع أبدًا. وهذا ما جعل كل محاولاته للارتباط بفتاة تفشل بتركهِ إياها كل مرة الى أن كانت محاولته الأخيرة التي اعقبت تلك المحاولات السابقة حيث أراد هذا الشاب المدعو (سامر) أن يقيّد خطواتها الشخصية العادية لكل فتاة في هذا العصر حتى جاءت اللحظة التي قصمت ظهر البعير، فقامت الخطيبة (نبال) برمي خاتم خطبتها في وجهه، تاركةً إياه لتكون هي الفتاة الخطيبة التي تركته ونبذته هذه المرة لرجعيتهِ وتعنتهِ في التعامل مع العرائس اللاتي كان من المفترض أن تكون إحداهنَّ زوجةً له في المستقبل.

وهكذا فإنَّ قصة «الصوّان » هذه تصوِّر رجلاً شابًا يحاول تكبيل من يخطبها لتكون شريكة حياته، بقيودٍ شخصية من حيث تصرفاتها ومسلكها رغم كون هذه التصرفات مألوفة وعادية لكل فتاة متحضِّرة متعلمة يحق لها ممارسة أبسط حرياتها الشخصية والاجتماعية والإنسانية في الإطار المتعارف عليهِ أخلاقيا، ودون المساس بكرامة وشرف الزوج. ومثل هذهِ الأنماط من العقليات الشابة المتخلّفة حضاريًا وفكريًا وإنسانيًا تؤدي في نهاية المطاف كما رأينا في هذه القصة الى انفجار الوضع بينهما نتيجة الضغوط المتزمتة وبالتالي انفصام عُرى العلاقة بين الخطيبين، وفي مثل هذه الحالة يكون المبادر الى التخلي عن مشروع الارتباط بينهما هو الخطيبة التي تكون قد وصلت الى حالة الاستياء والامتعاض القصوى والى نقطة اللارجعة مع رجلٍ شاب يتّسم بمثل هذه الشخصية المتسلطة التي لا تتماشى مع مفاهيم الحياة العصرية.

وعن تمرّد وجرأة الفتاة الموظفة العاملة في مؤسسةٍ ما من حيث ملبسها المتحرّر من التقاليد الصارمة في مجتمع عربي مكبوت، تصف الكاتبة في قصة «سندريلا» شعور أمثال هذه الفتاة بالضيق العارم من معاكسات الشبان والرجال وحتى الفتيان لهنَّ سواء أكانت هذه المضايقات باسماع الكلمات المجازية الموحية جنسيًا أو النظرات الشهوانية المباشرة والمتعمدة مما يعكس ما هو سائد في المجتمعات العربية على وجه العموم من تعلّق الذكور وبخاصةٍ الشباب بثقافة الجنس المكبوتة الناشئة عن الحرمان الجنسي انطلاقًا من مفاهيم الحفاظ على شرف الفتاة أو المرأة. ومن زاوية أخرى تشير الكاتبة في قصتها هذه، ولو بأسلوب التلميح والتضمين الى مشكلة معاناة الشباب في عجزهم عن توفير المهور للزواج من الفتيات نظرًا للمبالغ الباهظة التي يطلبها أهل العروس، دون مراعاتهم للظروف المالية القاهرة للعريس.

وأخيرًا وليس آخرًا، فإنَّ الكاتبة فدى جريس قد عبّرت في قصصها الواردة في مجموعتها «القفص»، عمّا يعانيه إنسان مجتمعها العربي من ضغط اجتماعي واقتصادي وسياسي يؤثر عليه نفسيًا ومعيشيًا وفكريًا، ويبرز طبيعة واقع مجتمع الكاتبة الذي تُبْرِز فيه إحساس كثير من شخوص القصص بالفشل والاحباط والخيبة والمرارة، وقد اعتمدت الكاتبة تقنية موفقة الى درجة ملموسة وملحوظة في معالجة موضوعات قصصها، مع أنّ المضمون الفكري لهذه القصص هو أفكار شائعة بسيطة أو قضايا يعلمها الجميع، ولكنَّ هذا المضمون قد تفاعل مع الشكل الفني لهذا العمل الأدبي المتواضع فأصبح خاصًا بهِ، وليس له امتداد خارجهِ، أو اتصال بأيّ شيء آخر، حتى لو كانت هذه الأفكار الشائعة أو القضايا معلومة للجميع، والتي أوحت به. ولذلك فإنَّ مضامين هذه القصص معَ بساطتها تبدو جديدة كلَّ الجدة، برغم أنها مستوحاة من أفكار ومضامين تمت للواقع المجتمعي بصلة متينة ومباشرة.

ألقيت هذه المداخلة في أمسية إشهار المجموعة القصصية"القفص"في نادي حيفا الثقافي

منير توما

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى