الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم الحسين بن محمد بن الحاج سعيد اخريض

قصة تميم

كانت قبة السماء متلبدة بغيوم سوداء ممزوجة بالبياض. تنعق أسراب الغربان وهي تحلق فوق مدينة أكسفورد. تسير السحب كقوافل من عِهْنٍ مَنْفوش. تصفر الرياح في صباح من صباحات ديسمبر الباردة، وتتناطح النوافذ مثل آرام الجبال. تغسل الأمطار وجوه البيوت الملطخة بغبار الرتابة، وتعزف أحذية المارة على الرصيف طقطقات مختلفة، كالتي يعزفها الحرفيون في محلاتهم. يتأبط تميم كتابا بعنوان: الأدب الإنجليزي، ويحمل مظلة بيمينه. تتسلل رائحة المطر إلى أنفه وهو يعبر الرصيف إلى الجهة الأخرى، وتتلاعب الرياح بمعطفه، وشعره الطويل. يشهق ويزفر منتعشا بالرذاذ.

ينطلق تلقاء كلية "سينت كروس" بجامعة أكسفورد لأول مرة. إنه أول يوم له في الجامعة، وقد تعرف في وسائل التواصل الاجتماعي على زميلين محبوبين؛ طوماس وبنيامين، وكثر ما تواصل معهما في مكالمات جماعية. ما زال يتذكر النقاش الذي دار بينهما قبل أيام على منصة "جوجل ميت". لقد كان نقاشا حادا حول الفلسفة التي تولي بالغ الأهمية للإنسان كإنسان. وقد انتهى النقاش بنتيجة سلبية، إذ استمسك كل من الطرفين برأيه. كان بنيامين يقسم أن "الرأسمالية" هي خلاص الإنسان من تعاسته، في حين يحلف طوماس أن "الشيوعية" هي الملاذ الوحيد للإنسان من بؤسه، بينما اكتفى تميم بالاستماع، ولما رأى أن الحوار يتجه نحو التصعيد، أنهى النقاش آملا أن يفتحوه عندما يلتقون في الجامعة.

أجهد ذهنه باحثا عن حل لهذا الموضوع، وهو يطوي الرصيف برجليه. يؤثث أفكاره وهو يقترب من الحرم الجامعي، ويفتش عن وسيلة لربط جسر بين طوماس وبنيامين. يفكر في نفسه:

ما محلي أنا من الإعراب في هذا النقاش؟ لست شيوعيا ولا رأسماليا، ولكن لا بد أن أشيّد قنطرة بينهما.

إلا أن السؤال المحير: هل أستطيع حقا بناء جسر بين زميلي؟

إنهما قابلان للانسجام معا، ولكنهما يحتاجان إلى حلقة وصل تبرز لهما أن ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، ولعلي أكون تلك الحلقة.

تميم قادم من الشرق ليتابع دراسته هنا في بريطانيا. يتأجج داخله بالفضول. تراوده زوبعة من الأسئلة حول الحياة في أكسفورد. يمشي بين شوارعها المرتبة. يمر من أمامه باص أحمر ذو طابقين. يفغر فاه كلما مر بحديقة أو متحف قديم. لكأن شوارع أكسفورد مرسومة بدقة رسام خبير. الناس مهذبون للغاية. والنظام يتجلى في كل شيء. إلا أن اختلاف طوماس وبنيامين يعكر صفوه. وبعد بضع دقائق يصل الجامعة ويدخلها بسلام آمنا. يتلقى التحيات من الطلاب، ويحييهم هو الآخر. الطلاب قادمون من كل فج عميق. يوجد هنا العرب والأفغان والهنود والأمريكيون والروس والصينيون... الحرية تغرز أعلامها على أسطح أكسفورد. «احترم الآخرين، واعتقد ما شئت». كانت هذه أول عبارة افتتح بها مسؤول في الجامعة لقاءه مع الطلبة الأجانب الجدد.

يضرب تميم لزميليه موعدا في مقهى الجامعة لحسم النقاش الذي دار بينهم من قبل. يحضرون قبل الوقت بخمس دقائق. يتعانقون بحرارة. كانت أول مرة يجتمعون فيها في الواقع، بعد علاقة طويلة في عالم الافتراض. طوماس شاب متوسط القامة، أشقر الشعر وأزرق العينين. أما بنيامين فيسدل شعرا ذهبيا، ويعتمر قبعة سوداء، وتبرق عيناه العسلتان.

طلب طوماس وبنيامين جعة، فيما طلب تميم قهوة سادة. مازحه طوماس، قائلا:

لا بأس بالقهوة الآن يا صديقي، ولكن الويسكي من دون شك قادمة.

يسأل كل عن حال صديقه، وسرعان ما استحال الكلام إلى الحديث عن تميم. تترى عليه أسئلة مختلفة من زميليه، فيسأله طوماس:

 هل كنت تمتطي الجمل في بلدك؟

 ‏نعم، اِمتطيته مرارا.

يرسل بنيامين سؤالا آخر:

 هل تزحلقت على الرمال من قبل؟

 ‏نعم، وعندما تزورن بلادي سنفعل ذلك معا.

وضرب صفحا عن تلك الأسئلة، فحول الموضوع إلى النقاش حول الرأسمالية والشيوعية، مستفهما إياهما:
ماذا عن نقاشكم أمسِ، هل ما زلتما تستمسكان برأييكما؟

فقاطعه بنيامين:

 بطبيعة الحال أنا ما زلت متشبثا برأيي. الرأسمالية هي ملاذ البشرية من البؤس، ألا ترى كم تطورنا منذ تبنيناها؟
رد طوماس بنرڤزة قائلا:

 لا لا يا صاح، لم تجلبوا لنا سوى الدمار والاحتباس الحراري والأوبئة... أنتم خطر على الإنسانية.

غضب بنيامين وكاد يتميز من الغيظ، فأرغى وأزبد، وضرب على الطاولة بقبضته. انسكب كوب القهوة، وتطايرت زجاجات الجعة قبل أن تتشذّر على الأرضية. قام طوماس محمرّ الوجه وشنق على بنيامين، وأمسك كل منها بجماع صدر زميله. تدخل تميم وفصل بينهما، وحاول أن يشرح لهما أنه مجرد نقاش عابر، وأن الأمر لا يستدعي كل هذا التعصب، إلا أنهما تجاهلا كلامه واستمرا في التقاذف والسباب، قبل أن ينفضا عن المجلس.

مرت أيام على تجافي طوماس وبنيامين. صار كل منهما يحشد عددا من الطلاب لنشر مذهبه، الذي يعتقد جازما أنه هو الصواب. يتلاعن الطرفان، ويصل الصراع حد الاقتتال أحيانا. يحز انفصالهما في نفس تميم. ينزوي وحيدا في المقهى ويغوص في التفكير، فيما يختلي طوماس وبنيامين بأنصارهما.

انكب تميم على التراث العربي الإسلامي، باحثا فيه عن فكرة، أو رأي، أو مذهب، يستطيع من خلاله إقناع زميليه لإعادة النظر في رأييهما. فكر في نفسه: ما أصعب معركة الإقناع! أعتقد أن من ملك وسيلة الإقناع سيحكم العالم. بحث وبحث... وفي نهاية المطاف ظفر بموضوع غاية في الأهمية. إنه الكليات الخمس في الإسلام؛ حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض. درسها دراسة عميقة ما يزيد عن شهرين، ثم في نهاية العام الدراسي طلب من عمادة الكلية منحه الصلاحية لإلقاء محاضرة، فوافقت العمادة ورفعت إعلانا على صفحتها: الطالب تميم بن سلطان آل صالح يلقي محاضرة بعنوان: "الفلسفة الخماسية"، الدعوة عامة.

كانت القاعة غاصة بالطلاب. حضر جميع الطلاب من شعبة الأدب الإنجليزي، وعدد كبير من طلبة التخصصات الأخرى. كان طوماس وبنيامين في مقدمة القاعة، كل في طرف. إذّاك انطلق تميم يصول ويجول في عرض كيف استنبط فقهاء الإسلام هذه الخماسية، وما أهميتها في حفظ كرامة الإنسان من جميع النواحي. وكان يعبر عنها بمصطلح: "الفلسفة الخماسية". ثم طرح سؤالا: تخيلوا معي لو أن توجهات دولنا تسعى لحفظ هذه الخماسية؟ ألن يعيش الناس حينئذ حيواتهم بكل كرامة؟ ساد الصمت في القاعة، وكان الجميع يتابع باهتمام. بدت سمات الانبهار على وجهي طوماس وبنيامين، وتلتها أمارات الرضا والإعجاب. ثم فتح تميم النقاش أمام الحاضرين، وأجاب عن كثير من أسئلة المتدخلين، وكان التفاعل قويا مع الفلسفة الخماسية. والآن الساعة تشير إلى الساعة الرابعة زوالا. انتهت المحاضرة. وقف الحاضرون وصفقوا بحرارة على تميم. انبعث صوت من خلف القاعة يقول:

 لقد كان ذلك رائعا.

وتلاه صوت آخر:

 قد فتحت لنا نافذة جميلة على عالم لم نكن نحسبه موجودا، إلا في عالم المثل.

وانطلق إليه طوماس وبنيامين فعانقاه، وتعانقا هما الآخران، وتصالحا أمام ناظريه، ثم تعانقوا ثلاثتهم قبيل أن يقول بنيامين:

 يبدو أننا وجدنا الفلسفة الحقيقية التي ستصون كرامتنا.

 ‏أجل، وأعتقد أيضا أننا سنمتطي الجمال بجانب مكة.

وضرب أحدهما بكفه على كف الآخر، وهما يحدقان شطر تميم. ثم تدافعت مجموعة من الطلاب صوبه. كانوا يريدون أن يعلنوا إسلامهم. طلب منهم أن يهدؤوا، ومازحهم قائلا:

 يا أصدقاء لن تحتاجوا إلى شراء تذكرة كي تسلموا، الأمر مجاني، لذلك لا تقلقوا.

فما كان منهم إلا أن هدؤوا وتراصوا في صف طويل. كتب إليهم بعض أسماء المساجد المجاورة وأعطاهم عناوينها في المدينة، ليذهبوا إليها ويعلنوا إسلامهم هنالك، وأوصاهم قبل ذلك أن يغتسلوا ويتطيبوا. ثم عاد أدراجه في زهو وسعادة إلى شقته. إنه لم ينجح فقط في إصلاح العلاقة بين زميليه وإخماد نار التعصب بينهما، بل استطاع أن يقنع بقية الطلاب بالفلسفة الخماسية، كما يسميها، وجاء بعضهم ينوي أن يسلم. قفز إلى ذهنه قول خطيب الحي في بلاده على المنبر:

«إنه لأمر عظيم أن تكون سببا في إسلام إنسان، خير لك من حمر النعم». ولم يكد يتوصل إلى نتيجة في النطق الصحيح لكلمة "النعم"، أهي بالفتح أم الكسر؟ حتى أمسكه رجلان من الشرطة من كتفيه، شُدِه واصفر وجهه، وتبادر إلى ذهنه للوهلة الأولى أنه سيحاكم بتهمة الإرهاب. طلب منه الشرطيان ألا يبدي مقاومة حتى تتم الأمور بسلام، وأن النيابة العامة تستدعيه. استسلم وذهب معهما وقد اعتكر مزاجه. كانت صافرة السيارة ذات اللونين الأحمر والأزرق تبكي فوق رأسه، وتدور عاصفة من الأسئلة في رأسه:

هل سيعذبونني؟ هل سيحكمونني بالسجن؟ أليست الجامعة فضاء لتبادل الأفكار؟ ... ولم تك إلا لمحة ووصلا به مركز الشرطة. أدخلاه إلى غرفة مظلمة، خالية من أي أثاث إلا من طاولة وكرسيين ومصباح قوي الإنارة، وعلى أحد جدرانها نافذة زجاجية مستطيلة، لا يكاد يبين ما وراءها. جلس على الكرسي، وبدأت ذكرياته مع عائلته في الشرق تهاجمه.

استعاد تفاصيل المحاضرة يفتش عن فكرة يمكن أن تكون هي التي تسببت في اعتقاله، ولم يجد شيئا. كل أفكاره تتطابق مع التوجه العام للدولة. فتح ضابط باب الغرفة وألقى التحية، قبل أن يجلس ويضع ملفا على الطاولة.
وقال:

 أنت تميم بن سلطان آل صالح؟

 ‏نعم.

 ‏حافظ للقرآن؟

 ‏صحيح.

 ‏ما الذي دعاك إلى إلقاء تلك المحاضرة؟

 ‏كنت أريد أن أصالح بين زميلي طوماس وبنيامين.

 ‏هل سبق لك أن نشطت في هيئة دينية؟

 ‏لا، بيد أني كنت أدرس القرآن على الشيخ مع زملائي في بلدي.

 إن قضيتك مشبوهة بالنسبة إلينا، ولذلك ستبيت الليلة هنا إلى أن نتحقق من أمرك. لديك الحق في أن تتصل بمحاميك.

كان تميم يجيب وهو يعرف أن ثمة من يراقبه خلف الزجاج. على الأقل كما شاهد في الأفلام السينمائية، يستجوب شخص المتهم، فيما يراقب شخصان حركات المستجوَب ولغة إشارته من وراء النافذة الزجاجية. هز تميم الهاتف واتصل بزميليه، وحكى لهما ما حدث. انصدما، وأقسما على نفسيهما ألا يبيتا تلك الليلة إلا معه في شقة واحدة. نشر طوماس منشورا على منصة إكس:

"الحرية لزميلنا تميم، لا لقمع الحريات"، وأرفقها بصورته.

لاقى المنشور تفاعلا واسعا وذاع بسرعة كالنار في الحشيش، وما هي إلا ساعة حتى احتشد الطلاب قدام مركز الشرطة، منددين بقمع الحريات، مطالبين بحرية تميم. تعالت الأصوات: (الحرية لتميم، الحرية لتميم...)، ويرفعون لافتات عليها صوره مكتوبٌ عن يمينها باللغة الإنجليزية: "الحرية لتميم". تضايقت الشرطة، وعقد المركز اجتماعا طارئا درس فيه ملف تميم، ليكتشفوا أنه بريء ولا علاقة له بأي تنظيم، فقرروا في نهاية المطاف إطلاق سراحه، وتبرئته من أي تهمة، وأصدر المركز بيانا يوضح فيه أن العالم يشهد خطر الجماعات الإرهابية المنتسبة إلى الإسلام، وأنهم يتعاملون بصرامة مع مثل هذه القضايا الحساسة، خاصة التي تمتد جذورها إلى الشرق.

خرج تميم من السجن وانطلق مع زميليه إلى شقته، وهنالك اتفقوا على إنشاء نادي الفلسفة الخماسية، على أن يفتحوا المجال لكل من يريد أن ينخرط فيه في الأيام القادمة، واشتهر هو وزميلاه في أكسفورد، وفي المدينة، وصار الكل يحترمهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى