قصصي منتزعة من حياتي في سورية
عبد اللطيف الأرناؤوط كاتب مبدع، وناقد مدقق، ومترجم أمين، ومربّ قدير، عمل فـي سلك التعليم معلماً ومديراً، وتولّى مناصب إدارية مرموقة، ورئيس تحرير العديد من المجلات الأدبية (المعلم العربي، الموقف الأدبي، التراث العربي).. وغيرها، وأغنى ساحة الفكر بعشرات المؤلفات التي شملت أجناس الأدب المتعددة: الرواية، القصة، السيرة الأدبية والشعر، وحلّق فـي ميدان الترجمة، وعرفته منابر المراكز الثقافية محاضراً مبدعاً ومحاوراً متدفقاً.
هو من أسرة ألبانية متواضعة، أبدع أفرادها فـي ميادين متعددة، فأخوه الفنان التشكيلي الراحل عبد القادر الأرناؤوط الذي ترك بصمته فـي لوحات الفن التشكيلي، وأختاه خديجة وعائشة، اللتان ترنمتا فـي رياض الشعر بأرق القصائد العاطفية الصادقة والتعبير الوجداني...
يواصل الكاتب عبد اللطيف الأرناؤوط رحلته الشائقة فـي محراب الكلمة الخلابة بدأب وحماسة الشباب، ويفاجئ قراءه وأصدقاءه بإصداراته الجديدة، التي تُغطّي مجالات الفكر والتراث الأدبي المتنوعة.
واليوم، هو ناسك معتكف مع ما تبقى من مكتبته الفنية بروائع التراث وألوان الفكر والمعرفة، وقد اقتحمت عليه صومعته، وكان هذا الحوار:
*- حبذا لو يقدم لنا أ.عبد اللطيف الأرناؤوط نبذة عن حياته الشخصية؟..
**- أنا أتحدر من أسرة ألبانية الأصل، هاجرت عائلتي من إقليم «كوسوفا»، واستقرت فـي مدينة دمشق بحي «الديوانية» حيث ولدتُ وتلقيت تعليمي فـي مدارسها ومعاهدها الرسمية، وتخرجت مربياً، فتعززت صلتي بالطفولة واهتمامي بعالم التربية الرحيب، وبرز هذا الاهتمام فيما قدمته من مختارات للأطفال نقلتها إلى اللغة العربية من شعر الأطفال الألبان، وما كتبته من مقالات ودراسات حول تجربتي التربوية المتواضعة.
أجيد اللغة الألبانية التي تلقيتها من الأسرة مشافهة، ثم قراءة وكتابة بجهدي الشخصي وحضور دورات خاصة فـي ألبانية، ولي فيها محاولات شعرية، ومقالات فـي الصحف والمجلات العربية ودراسات حول الأدب البلقاني عامة والألباني خاصة، وربما كان لأغاني المهد والتنشئة الأسرية أثر فـي ترسيخ حنين إلى الوطن الأم، لكن تكويني الثقافي العربي والإسلامي واندماجي فـي المجتمع العربي السوري (الذي فتح صدره للمهاجرين الألبان)، عزّز انتمائي للثقافة العربية، فأنا أعتزّ بعروبتي وأفتخر بها. أنتمي إلى أسرة تعلق أكثر أفرادها بالثقافة والأدب والفن.. فجدّي لأمي «ثابت فريزاي» كان باحثاً مستشرقاً يهتم بالتراث العربي الإسلامي وله مؤلفات عدة، وأمي «علمية ثابت» شاعرة بالألبانية.. وأخي المرحوم «عبد القادر» فنان تشكيلي معروف وشاعر وكاتب قصة، وأختي عائشة شاعرة وكاتبة قصة ورواية، وربما انبثق هذا الميل من حياتنا فـي قلب الطبيعة بدمشق، فقد كان منزلنا فـي حي يقع فـي قلب بستان، وتحفّه الخضرة والماء، وقد أمدتنا الطبيعة الساحرة بصور من الجمال، وأصبح هذا الميل الموجّه للعمل فـي مجلة «المعلم العربي» وأميناً لتحرير مجلتي «الموقف الأدبي» و«التراث العربي» وبعد التقاعد تفرغت كلياً لاهتماماتي الأدبية والثقافية.
أين تجد نفسك في الترجمة أم في إبداعات أخرى؟
**- احتلت الترجمة من الأدب الألباني حيّزاً كبيراً من حياتي، فنقلتُ إلى العربية عدداً من الآثار الأدبية الألبانية لكتّاب بارزين فـي ألبانيا وكوسوفا، ونقلت مجموعات ومختارات من الشعر الألباني إلى العربية.
أما العمل الإبداعي فقد أسهمت فـي كتابة المقالة والقصة والدراسات الأدبية والنقدية، نشر بعضها فـي كتب مستقلة أو فـي الصحف والمجلات العربية، وقدّمت عشرات المحاضرات فـي المراكز الثقافية العربية، وشاركت فـي حضور عدد من الندوات والمؤتمرات العربية والأجنبية، ولي صلات وصداقات واسعة مع كثير من المفكرين والأدباء العرب والأجانب مما عزّزت اطلاعي المستمر على الحركة الثقافية والأدبية فـي الوطن العربي وفـي بلاد البلقان.
كنتَ أميناً لتحرير أكثر من مجلة من المجلات التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب في سورية، حدثنا عن تجربتك مع مجلة التراث العربي؟..
** - يشكل التراث العربي والإسلامي فـي نظري جوهر الهوية والانتماء، ومن المؤسف أن الأجيال الناشئة اليوم أخذت تنأى عنه بتأثير الانبهار بالجديد الوافد، مع أنَّ التراث غني حافل بالقيم التي يتطلع الأدب لترسيخها، وهو يحتاج إلى مراجعة ومتابعة للكشف عن جواهره المكنونة، واعتماد الوسائل الثقافية المعاصرة لتقديمه للناشئة بعدما اكتسحت الثقافة المرئية وسائل الاتصال المكتوبة والمقروءة، وقد تسهم مجلاتنا والدراسات الحديثة فـي تحليله، لكن الأجيال العازفة عن القراءة والمتابعة والمشغولة باهتمامات فرضتها العولمة لا تستفيد مما يُطبع أو ينشر...
* أمضيتَ طفولتك في مدينة دمشق، وتجولتَ في حاراتها وزواريبها، ماهو دور دمشق المدينة العظيمة في تكوين تراثك الفكري والثقافي والجمالي؟
**لمدينة دمشق في تكويني الفكري والروحي والفني أثر عميق، غير أنني لم أعرف من دمشق في طفولتي إلاَّ حياة بسطائها، والا أحيائها الشعبية، بمقدار ما أثر في ثقافتي تحدري من أسرة ألبانية نزحت إلى دمشق وحملت معها الروح الألبانية والتراث واللغة الألبانيين، وأغاني المهد.
في طفولتي عانيت وإخوتي صعوبات في التلاؤم مع الوسط الاجتماعي، وقد تحدث شقيقي الفنان الراحل عبد القادر أرناؤوط عن بعض معاناته في طفولته ودراسته اللغة العربية، مثلما أفاض في الحديث عن أيام الحرمان والبؤس التي عاشتها الأسرة وكفاح الأب لتوفير لقمة العيش، وذلك في رواية «غداً.. سأشعر بحاجة إلى الأفيون»، كتبها في أيام شبابه.
إنني ما زلت أذكر عذاب النزوح والاغتراب، ونضال الأسرة لتشق طريقها في تلك الظروف العسيرة، وأكثر ما يسحرني في دمشق أنها تفتح ذراعيها للغريب، وتشعره أنه واحد من أبنائها، وكأن تاريخها الحضاري وانفتاحها على العالم كعاصمة للحكم العربي قد طبع أهلها بطابع التسامح والإنسانية. والجذور الألبانية في تفكيري لم تكن تتعارض وقيم الشعب العربي وتطلعاته ومعتقده الديني، لم يكن والدي ـ حسين ـ رحمه الله يختلف عن أي مواطن دمشقي كادح في تكوينه النفسي والديني، من حيث حفاظه على المثل الخلقية وتديّنه وتوكله على الله وقناعته بالقليل، وملازمته وفروض العبادة واندماجه بأهل حيه، وقد جهد أن يجعل من أبنائه صورة عنه، إلاَّ أن لكل جيل قيمه الخاصة، وجيل الأبناء كان أقل التزاماً بالممارسات الدينية، إلاَّ أنه بالمقابل يفهم الدين التزاماً خلقياً، ويحكم ضميره في التفريق بين الخير والشر كما تقضي بذلك النصوص، فمن هذا الجانب أعتقد أنني تأثرت بوالدي في فهم جوهر الدين، والعمل بوحي الضمير، وممارسة إنسانيتي برقابة ذاتية، وإن كنت أطمح ألا أقِلَّ عنه التزاماً بالفروض الدينية.
أما التأثير الفكري والثقافي والجمالي فإنني مدين به لأمي ولجدي ولدمشق، فقد غرسوا في نفسي منذ الصغر الرقة والحنان والدفء الإنساني... وكانت أغاني أمي الحزينة والعذبة أول غرسة من غراس الثقافة عرفتها روحي، وإذا كانت هذه الغراس قد هيأت نفسي لحب الفن... فإن نتاجي ظل محصوراً بالتعامل مع الكلمة، في حين تعددت وسائل التعبير عند شقيقي عبد القادر فكان يعبر بالرسم مثلما يعبر بالكلمة.. وكذلك شقيقتي عائشة أرناؤوط الشاعرة المبدعة الموهوبة. ولا أنكر أثر الجالية الألبانية في تخطيط مثلي الأعلى الأدبي.. فقد نبغ من هذه الجالية أكثر من أديب، وحسبي أن أشير أن مؤلفات رائد الرواية السورية الراحل معروف الأرناؤوط، وبخاصة رواية «سيد قريش» تركت في نفسي أثراً عميقاً، وكان إعجابي شديداً بتمكنه اللغوي، وتمثله أسرار العربية بمقدار ما يتمثلها أبناؤها، بل يفوق بعضهم أحياناً فصاحةً وطلاقة تعبير، وهو برهان على أن دمشق تعرف كيف تحتضن الغريب وتضعه محل صاحب الدار، ويمدّه أنس أهلها وعراقة ثقافتها بضروب من الإلهام والمشاركة.
أما مدينة دمشق فهي أمي الأخرى، في حضنها علمتني كيف أتعامل مع الحرف، ومن جمالها اقتبست ألق الكلمات.
كتبت الكثير من الكتب أيضاً الكثير من الدراسات لمجموعة من الأديبات حصراً.. ماهو سبب الانحياز لدراسة الأدب النسوي؟..
**الانحياز للأم ظاهرة نفسية في تكوين كل منا تحت تأثير عقدة الطفالة، ولعل انحيازي لأمي في مواجهة سلطوية الأب ودوره الفوقي كان دافعاً لاهتمامي بنتاج المرأة الأدبي، وسعادتي في أن أراها تنتصر لنفسها، وتطالب بدورها الفاعل في الحياة بعد استلاب طويل، وقد يكون تثبيت عقدة الطفالة في نفسي قوياً دون أن أشعر بذلك، غير أن اهتمامي بتحرير المرأة ومناصرتها ناجم عن موقف عقلي واقتناع منطقي، أنا لا أتصور بيتاً يكون أفراده من الرجال يمكن أن يشعر بالدفء الإنساني، كذلك لا أتخيل أدباً يخلو من صوت المرأة يمكن أن يكون كاملاً، يعبر عن الحياة، فالمرأة في حياتنا هي الأرض والخصب ـ حسب تعبير أحد المفكرين ـ والرجل هو المطر، ولا تخصب الطبيعة إلاَّ بتعانق هذين العنصرين، إن اهتمامي بالأدب النسوي هو في جوهره بحث عن عنصر مفقود في الأدب العربي الذي ظل وقفاً على الرجال، هو بحث عن الأنوثة الضائعة والمصادرة، غير أنني أومن أن أدب المرأة هو الأدب الذي يتناول مجالات خاصة بأنوثة الأنثى مما يقصر الرجال عن طرقه.
فإذا استرجل أدب المرأة أو استأنث أدب الرجل بدا لي نتاجهما هجيناً تعافه النفس، وكنت أشفق على بعض الأديبات في دعوتهن إلى مجاراة الرجل في أدبه، حين كن يتجاوزن أنوثتهن وأدوارها، فيفصحن بجرأة عن حقهن في الغزل الصريح ومطاردة الرجل حيث تصبح المرأة طالبة لا مطلوبة، متسلطة وناشزة، وأرى أن حرية المرأة لا تعني بحال من الأحوال تجريدها من أنوثتها، وكما نعيب على الرجل التخنث يمكن أن نعيب على المرأة تجاوز طبيعتها حين تخلع الحياء، أو تنصب من نفسها سيدة للرجل، جمال الأنثى في نظري بنعومتها ورقتها وتعبيرها عن مشاعرها بخفر وحياء، قد تكون المعركة فرضت خروج بعض الأديبات عن حدود هذا الخفر كردّة فعل على سلطوية الرجل، لكن ذلك يتنافى مع تكوين المرأة وطبيعتها، كما تتنافى نرجسية الرجل مع تكوينه وطبيعته، أما عن مصطلح الأدب النسوي فهو مصطلح كثر فيه القول واشتد حوله الخلاف، لكنني أعتقد أن الأدب النسوي هو ذلك الأدب الذي يختص بتصوير طبيعة المرأة ومشاعرها الرهيفة الخاصة بقلمها وهو محصور بهذا المجال، والذي نلمسه في بعض الآثار الأدبية النسوية... فإن كثيراً من النتاج الأدبي النسوي لا يختلف في جوهره عن أدب الرجال..
* – تُرى.. بماذا نفسّر أهمية الحوار في كتابة السيرة الذاتية؟
** – قد نجعل من الحوارات سبيلاً للحديث عن (الأنا) من وجهة نظر كل أدبائنا ومفكرينا الذين يحتفون كثيراً بسيرة حياة المبدع في مستوى الترجمة له، ومن منطلقات مناصرة البؤساء والمحرومين والمعذبين والكفاح ضد سلبنة الإنسان عن طريق تقديم المسؤولية الإنسانية على الحرية.
وقد يشعر المبدع العربي أنه مسؤول عن مصير الإنسانية حتى بعد رحيله الأبدي.. ومن هذا المنطلق فقد دوّن أحد الأدباء الكبار وصيته جاء فيها: [أكتب للناس عن حياتي في الأيام الأخيرة، وقد قلت لهم قولاً طيباً عن حياتهم، وقولاً جريئاً عن سوء هذه الحياة، وكل ما قلته لأحبائي من البشر يختصر بكلمات معدودات هي نصرة البؤساء والمعذبين في الأرض، وما قلته لأجل وطني هو الواجب والحب والكفاح.. أرجو صادقاً أن تمرَّ سفينة الموت فأنزل فيها مرتحلاً إلى حيث سبقني بعض أهلي وكثير من أصحابي...].
ويضيف: [في هذا الزمن الرديء الذي صارت الأشياء فيه رديئة، وتخثر الدم الأرجواني فغدا بعيداً عن كل أرجوانية، لأنه في الاستباحة والقتل تحوّل إلى دم أسود لا صلة له بالحرية التي تمجد اسمها، ولا بالديمقراطية]...
ويختتم الكاتب الكبير حياته (بوصية) لدفع العنف في عالمنا المعاصر الذي يقابل اليوم بالعنف...
وأنا أؤمن مع الكاتب بنبذ العنف، والدعوة إلى الحوار، لكني لا أكتب «وصية» مهما كان الزمن رديئاً، فإذا كان دعاة العنف قد مارسوا عنفهم على الأنبياء واضطهدوهم فهل سيستجيبون لوصيتي...؟
إنني أومن برسالة الأديب والمبدع حين يكتب للإنسان، ليس إنسان اللحم والدم اليومي فحسب، وإنما الإنسان كما يجب أن يكون عليه، لا كما هو كائن، وحين أكتب نصوصي آمل أن أوجه وأرشد بالحوار الواعي كترسيخ مبادئ الحرية والديمقراطية، من غير أن أعتدي على حق البشر جميعاً في اعتناق ما يريدون من مبادئ وقيم، فإن خالفت معتقداتهم قيم الإنسان فمن واجبي النصح والإرشاد والتوجيه، وتلك مهمة المجتمع أيضاً، لكني لا أقسر الناس على تبديل معتقداتهم حتى لو كانت متطرفة، فبالحوار وحده يمكن تبديل القناعات وتكوينها، وبالعنف يزداد تمسك صاحب القناعة باقتناعاته، ويزداد تصلباً.
* – في محاورة معك ذكرتَ أنك لا تقيم وزناً للآراء النقدية التي يقدّمها المبدع، من منطلق أنه لا يملك السلطة لتحقيقها، فهل يمكن في رأيك الفصل بين المعايير النقدية والسياسية في كتابة السيرة الذاتية، ورسم حياة الناس؟
** – آراء المبدع الحياتية والأدبية ليست معايير ثابتة ونماذجه البشرية تختلف من عصر إلى آخر تحت تأثير التبدّل المستمر والتباين بين الناس عبر مسيرة الزمن وخصائص المكان، لكن ذلك لا يعني أن يكفّ المبدع عن تقديم وجهة نظره حتى لو لم يكن يملك السلطة لتنفيذها، فعلى الصعيد السياسي قد يفيد منها المُخطط السياسي وأصحاب الشأن ممن يملكون الحلّ والربط من القادة الاجتماعيين، وقد تُسهم في تبديل قناعات راسخة لدى أدباء أو أعلام أو نقاد محللين...
نجد للكاتبة غادة السمان أهمية لديك وهوما لمسناه من خلال كتاباتك عنها.. كيف ماذا تقول عن أدب وإبداع غادة السمان..؟
**الكاتبة المبدعة غادة السمان في رأيي مَعْلَمٌ بارز من معالم ثقافتنا الأدبية المعاصرة، وقد أسهمت في وضع الأدب في مساره السليم حين وجهته إلى معالجة المسائل الحياتية الكبرى كالحرية والحب والموت ومختلف النوازع الإنسانية.
إن اهتمامي بأدبها كان مصدراً من مصادر إعجابي بها، وحين أكتب عنها أشعر أنين أُرضي طموحي في معالجة نتاجها الأدبي، فإذا لم أكن أملك مواهبها الأدبية، فإنني أنبه الناس إلى عظمة إبداعها في ظل الظروف التي تحيط بحال المرأة في المجتمع العربي، أما عن حرارة قلمها التي تتجلى أحياناً بصور من العنف والمجابهة والتحدي فهي ردّة فعل طبيعية لمعاناتها، إنها تذكرني بالكاتب عبد الرحمن الكواكبي حين قسا على قومه ليحركهم من سباتهم العميق، وهذا شأن الرواد الذين يصطدمون بمرض الواقع ويطمحون لمعالجته فيقسون..
*كيف تنظر إلى واقع النقد الأدبي.. ومستقبله؟..
لقد دفع التفاعل بين الأدب العربي والآداب العالمية المعاصرة إلى معارك نقدية ساخنة، وهذه الظاهرة في اعتقادي دليل صحة ومعافاة ستسفر عن الوصول إلى صيغة أدبية مستقبلية للشعر العربي وأدبه، تجمع بين الأصالة والابتكار، وتختار من ألوان الحداثة ما يلائم طبيعة الأدب العربي والرؤية الفنية المتجددة، من غير إفراط أو جنوح في التقليد، المهم أن يقتنع المنظرون للحداثة أنه ليس كل ما يفد إلينا من الغرب لا يأتيه الباطل من قريب أو بعيد، وأن يعترف المدافعون عن التراث ـ التقليديون منهم ـ أن حياة الأدب متجددة، وأن الجمود يعني الموت.. المهم أن يقود النقد خُطا الأدباء ويرشدهم ويوجههم، وأن تخلو الساحة النقدية من ضروب النقد المتملّق أو الذي يروّج لنزعات مستوردة متطرفة، وإذا كان النقد العربي المعاصر لم ينجح إلى اليوم في الوصول إلى نظرية نقدية عربية، فإن القارئ المثقف هو الحكم الأساس، والمستهدف من كل أدب، سيثبت ويختار ما يلائمه ويطرح الزبد مع الزمن.
*ما المهمات التي تنتظر الأديب والناقد في عصر العولمة الذي تعيش فيه الأمم، وتشعر بتهديد خطير للهوية الذاتية؟..
**حضارة العصر الراهنة أحادية الجانب، مغرقة في المادية وتنمية نزعات الإنسان الاستهلاكية، على الرغم من صيحات المفكرين والأدباء الإنسانية، فإن المتطلبات الروحية لإنسان العصر أصبحت محصورة في أهداف وقيم محدودة، هي القيم الدنيا في سلّم المثل الإنسانية كالمتعة والاستسلام إلى اللذة وتنمية الروح الفردية وحب الذات، وعلى الأدباء والمفكرين والنقاد اليوم مهمات جسيمة من أبرزها الدفاع عن خصوصية كل أمة في الشراكة العالمية المعاصرة واحترامها، وطلب الحقيقة والعدالة والمساواة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومحاربة الظلم الاجتماعي، وكل أشكال التمييز، والمشكلة تكمن في أن الأدب الغربي المعاصر يركز على الفرد، ويحاول عزله عن محيطه الاجتماعي وحاجاته الروحية، مع أن العولمة نفسها تستمد قوتها من التكتلات الاجتماعية الضخمة، لكنها تدعم هذه القوى للتنافس والكسب، وليس لخير الإنسانية جمعاء.
كتبت قصصك باللغة العربية، وليس لك أعمال قصصية باللغة الألبانية.. لماذا؟
**- إن قصصي منتزعة من حياتي في سورية، وقد غادرتْ أسرتي الوطن الأم «كوسوفا» وبالتالي لم أتفاعل مع الوسط الحياتي في «كوسوفا الألبانية» إلاّ من خلال زيارات عابرة، ومع ما تحمله ذاكرة الأبوين وممارساتهما من ألوان السلوك والعادات والتقاليد، فمن البدهي أن تأتي أحداث قصصي تعبيراً عن الواقع الإنساني الذي احتضنني.. مع عدم إغفال دور الأسرة في ربطي بالوطن الأم.
*-ما الذي يرسم الحدود في رأيك بين الحكاية الشعبية والقصة القصيرة الفنية؟
** - في تقديري أن اختيار اللقطة الإنسانية المركزة والمكثفة هي الفارق الأساس بين السرد الشعبي والفني، فبين الحكاية الشعبية والقصة الفنية من الفروق مابين نخل أطنان من التراب لاستخراج شذرة من الذهب في الحكاية الشعبية، بينما تبدو القصة الفنية وثيقة الصلة بالحياة، لكنها تدين بنجاحها لاختيار المنجم الذي يحفل بعروق الذهب من غير تشتت في البحث أو انفلاش، ففي قصص الكاتب الفرنسي غي دي موباسان مثلاً تبرز فنيّة القصة بالموقف الذي يختاره من مواقف الحياة، فبائعة الكبريت أو بطلة قصة «العقد» نموذجان إنسانيان من حياة الطبقة الفقيرة، وهما بكل بساطة مثل أي بطل تقدمه الحكاية الشعبية، لكن عبقرية الكاتب «موباسان» في اختيار اللقطة الإنسانية المكثّفة والقابلة للتحليل العميق، الطفلة أمام محل الألعاب والهدايا في عيد الميلاد، والمرأة التي تريد أن تتجمّل وتقهر فقرها باستعارة العقد وما ترتب على ذلك من منغصات لها كلّفتها شقاء عمرها.
كذلك قصص «إدغار آلن بو» لا تخلو من غرابة وتطرف وأجواء مشحونة بالقلق والرعب شأن الحكاية الشعبية، لكن براعته تكمن في توجيه هذا التغريب الخيالي إلى حقائق حياتية ورموز بعيدة الغور، ومن هنا تنبع فنيّة القصة القصيرة، وفقر الحكاية الشعبية على ما بينهما من وحدة المنطلق، وهو حياة البشر وتجاربهم.
*-الأدب الواقعي الملتزم يرفض طوباوية الرومانسيين في تبني أحلام فردية لا تحل المشكلات الاجتماعية البارزة والتي هي أحوج لنضال جمعيّ تتبناه القوى الإيديولوجية المنظمة، وها أنت تسترسل في رسم الحلم الفردي لبطل قصتك الطفل المتسلل لنصرة ثورة بلده الأم، ألا ترى في ذلك لوناً من الطوباوية في الهدف؟
**-ـ إذا أخذنا الموضوع من زاوية عقلية فأنا مع هؤلاء النقاد، إذ ماذا يمكن أن يضيفه انضمام طفل بطاقاته المحدودة إلى صفوف الثورة، حتى لو عددنا ذلك من الناحية العاطفية دعوة لأطفال المهاجر كلهم للالتحاق بالثورة، وربّما من الأجدى أن يفكر الأديب الملتزم بأساليب أخرى لمناصرة الثورة، وأداء الواجب الوطني لدعمها، كالسعي إلى تجنيد الشبان الكبار أو التبرع بالمال.. غير أننا إذا نظرنا إلى الهدف من زاوية إنسانية وعاطفية، وتلك هي مهمات الأديب... وأصبح التحاق الطفل بالثورة رمزاً لمثل أعلى هو تحفيز الكبار والصغار لممارسة دورهم، وتحريك جمودهم أو حيادهم الإنساني.. أنا مؤمن بأن الإنسان هو المنطلق، والكلمة سلاح فعّال لتحفيزه..
*كلمة ختامية:
أشكر ديوان العرب والقائمين عليه لما يقدمونه من دراسات ومقالات قيمة.