الاثنين ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

قوّة التجاهل - ثورة الوعي الهادئ

في زمنٍ يتحدث فيه الجميع،
أصبح الصمت أجرأ الأصوات.
وفي عالمٍ يسعى فيه الإنسان ليُسمع،
صار التجاهل نوعًا من التحرّر.

التجاهل ليس غيابًا، بل حضور من نوع آخر —
هو وقوف في منتصف المعركة،
بلا درعٍ ولا سيف، فقط بسلامٍ داخلي لا يُهزم.

حين يتكلم الصمت بلغة النضوج

هناك فرقٌ بين الصمت الذي يولد من الخوف،
والصمت الذي يولد من الفهم.
الأول ضعف، والثاني حكمة مكتسبة بالوجع.

حين يتجاهل العارف، لا يفعل ذلك استخفافًا،
بل لأنه رأى ما يكفي، ووعى أن الردّ أحيانًا لا يُحدث أثرًا
إلا في من لم يصل بعد إلى مستوى الوعي ذاته.

التجاهل هنا ليس انسحابًا، بل اختيار لحربٍ أخرى —
حرب ضد الغضب، ضد الحاجة للرد،
ضد ذلك الصوت الداخلي الذي يريد أن يثبت للآخرين أنك بخير.
العارف لا يثبت، هو فقط يكون.

قلب تعب من الضجيج

أقسى أنواع التعب ليست في الجسد، بل في القلب.
حين يرهقك شرح نفسك، تبدأ بالانسحاب من الأصوات التي لا تفهمك.
وهكذا يولد التجاهل: من رحم الإرهاق، لا من قسوة.

إنها لحظة تنضج فيها الروح وتقول:
“لستُ بحاجة لأن أثبت شيئًا… من يعرفني، لا أحتاج أن أشرح له،
ومن لا يعرفني، لا يستحق أن أشرح له.”

في تلك اللحظة، يتحول التجاهل إلى طقس روحي،
إلى تمرين على النقاء،
إلى طريقة للحفاظ على نقاء داخلي في عالمٍ ملوث بالتبرير والادعاء.

التجاهل كتحرّر من عبودية الآخر

نحن نولد أحرارًا،
لكننا نصبح عبيدًا لكل كلمة تُقال عنا،
لكل نظرة لا نفهمها،
لكل صمت نحسبه إهانة.

وحين نبدأ التجاهل،
نبدأ التحرر من عبودية نظرة الآخر.

التجاهل هو الفلسفة الصامتة التي تقول:
“لن أعيش تحت رحمة رأي أحد.”
هو عودة إلى الذات الأولى، قبل أن تُخدّرنا المقارنات،
وقبل أن نُعيد تشكيل أنفسنا على مقاس من لا يفهمنا.

الروح التي تتجاهل لا تُقسو،
بل تختار أن تحب نفسها أخيرًا.

حين يصبح التجاهل مقاومة راقية

في بعض الأحيان، لا يكون الردّ صراخًا، بل سلامًا لا يُستفز.
أن تمرّ من أمام من آذاك، دون أن تشعر برغبة في النظر إليه،
هذه ذروة القوة.

فمن يتقن التجاهل، لا يهرب من المواجهة،
بل تجاوزها.
لقد رأى هشاشة الآخر، ولم يعد يرى تهديدًا في ظله.

التجاهل هو ثورة بلا دماء،
وانتصار بلا معركة،
وحكمة لا يتقنها إلا من خسر نفسه ذات يوم،
واستعادها بالصمت.

التجاهل ليس نسيانًا، بل تطهيرًا

أن تتجاهل لا يعني أنك نسيت،
بل أنك غفرت دون أن تعود.
أنك نزعت الألم من جذره،
وأعدت ترتيبك الداخلي بعد عاصفة.

فالتجاهل الحقيقي لا يُعلن،
بل يُمارس في سكونٍ يشبه الصلوات.
هو سلام داخلي لا يحتاج جمهورًا،
هو حالة من النقاء تشبه النضج بعد الألم،
والحب بعد الفقد، والإيمان بعد الشك.

كلمة أخيرة

التجاهل ليس قناعًا،
بل تحوّل روحي عميق.
هو أن تدرك أن أجمل انتقام هو أن تعيش بسلام،
وأن أقوى ردّ هو أن تبتسم بينما ينهار الآخر في صمته.

حين تصل إلى تلك المرحلة،
لن تخاف من خسارة أحد،
لأنك وجدت أخيرًا من لا يمكن أن تخسره: نفسك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى