الخميس ١ حزيران (يونيو) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

قيمة كل امرئ ما يُحْسن

هذه حكمة نُسبت لعلي -كرّم الله وجهه-، وقد ذكرها شعرًا في ديوانه:

وقدْرُ كل امرئٍ ما كان يُحْسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
ما الفضلُ إلا لأهل العلم إنهمُ
على الهدى لمن استهدى أدلاّءُ

أن يُحسن الإنسان أمرًا فهذا ينمّ عن قيمته، فعند نطقه يتبيّن ما هو عليه، وما هو مخزونه المعرفي.

كلام الإنسان يدل على رجاحة عقلة، وطريقة كلامه ميزان منطقه.

البيتان من أبيات الحكمة في الشعر العربي، والحكمة -مهما اختلف النقاد في أمرها- تبقى لها جماليتها في استخدامها في الوقت الملائم، حين يكون للمقام مقال.

يؤكد الخليل بن أحمد في شعر له أن الحكمة التي وردت عن قيمة الإنسان أو قدره هي للإمام علي، فيقول:

قيمة المر قدْرُ ما يُحسنُ الـمرْ
ءُ قضاءٌ من الإمامِ عليِّ
لا يكون العَلِيُّ مثلَ الدنِيِّ
لا ولا ذو الذكاء مثلَ الغبيِّ

يأتي الشاعر العباسي ابنُ طَباطَبا ليحض على العلم، ويذم الجهل، ويذود عن حرصه على الأخذ بأسبابه، ليُبدئ ويعيد- قيمة الناس ما يحسنون:

حَسُودٌ مَرِيضُ الْقَلْبِ يُخْفِي أَنِينَهُ
وَيُضْحي كَئِيبُ الْبَالِ عِنْدِي حَزِينَهُ
يَلُومُ عَلَيْ أَنْ رُحْت لِلْعِلْمِ طَالِبًا
أَجْمَعُ مِنْ عِنْدِ الرُّوَاةِ فَنُونَهُ
وأكتبُ أَبْكَارَ الْكلامِ وَعُوْنَهُ
وَأَحْفَظُ مِمَّا أَسْتَفِيدُ عُيُونَهُ
وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ لا يُكْسِبُ الْغِنَى
وَيُحْسِنُ بِالْجَهْلِ الذَّمِيمِ ظُنُونَهُ
فَيَا لائِمِي دَعْنِي أُغَالِي بِقِيمَتِي
فَقِيمَةُ كُلِّ النَّاسِ مَا يُحْسِنُونَهُ

ويظل المعنى يتردد، فهذا أبو الفتح البُستي يقول:

إن كنتَ تطمع في العلياء تخطبُها
وتبتغي منزل التكريم تسكنهُ
لا تُخلِ نفسك من علمٍ تسود به
فقدر كل امرئ ما كان يُحسنهُ

تزيد قيمة المرء بزيادة علمه كمًّا و كيفًا، ولاشك ان شرف العلم بشرف المعلوم، تبعًا لموضوع علمك وخبرتك ودرسك.

هي حكمة تشير إلى وزن العالِم، وتكشف عن سمو مقامه، و للعلماء كلهم نافعة، وإفادات محفزة للربط بين الإنسان ومعرفته، ومن هنا تكتسب هذه الحكمة أهمية.

إذا اتخذ الإنسان هذه الحكمة العظيمة شعارًا له فغالبًا ما يصل الي مراتب الكمال العليا في جميع مناحي الحياة، لأنه سوف يسعي إلى أن يحصل علي صفة الفعل (يُحسن) في كل مجال.

ما دام العلم هو المادّة لما نُحسن، فلنقم بجولة سريعة لبيان فضله، مع أن الحديث في هذا الباب طويل، فإلى غيض من فيض:

العلم هو مال المعدِمين، وهو الذخر. هو جمال للإنسان وحلية له. هو الشرف والرفعة، وقد أولاه
القرآن الكريم أهمية في أكثر من موضع يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات- المجادلة، 11

وكم من حديث شريف يدل على أهمية العلم والعلماء، فـ "العلماء ورثة الأنبياء"...إلخ

كلما زادت معرفة الإنسان تبينت له ضلالة الجهل، وفي هذا راق لي ما قاله ابن الْمعْتَز فِي كتاب (مَنْثُورِ الْحِكَمِ):

العالِم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالِم؛ لأنه لم يكن عالمًا.
ثم إن التواضع صفة العالم، ونحن نعرف قول الشاعر:

ملأى السنابل تنحني بتواضع
والفارغات رءوسهن شوامخ

وفي قول آخر قرأته لأديب ينكر على المدّعين تعاليهم غير المسوّغ:

"هؤلاء المدّعون لا يعرفون أن الْمتواضع من طلاب الْعِلْم أَكثَرُهم عِلْمًا، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء".

نعم، هناك من لا يحسن، ومع ذلك يدّعي، وأنت لا تستطيع إزاءه أن تضيف له علمًا، فهذه مشكلة المشكلات:

• قَال صالح بْن عبد الْقُدُّوسِ :

وإِن عناءً أَنْ تُعلِّمَ جاهلاً
فَيحسبُ جهلاً أَنه مِنْك أَعْلَمُ
متى يبلغُ البنيان يومًا تمامَه
إذا كنتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُك يهدِمُ

مع أمثال هؤلاء أسأل:

هل أنت تسألني؟ أم تناقشني؟

تبعًا للجواب يكون سلوكي معه.

• قسّم الخليل بن أحمد أحوال الناس فيما علموه أو جهلوه أربعة أقسام متقابلة لا يخلو الإنسان منها، فقال: الرجال أربعة:

رجل يدري ويدري أنه يدري، ذلك عالِم فاسألوه!

ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك ناسٍ فذكّروه!

ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك مسترشد فأرشدوه!

ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك جاهل فارفضوه!

وفي هذه المعاني أنشد الآمدي شعرًا:

إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي
يُسائل من يدري، فكيف إذن تدري؟
جهلتَ ولم تعلم بأنك جاهلٌ
فمن لي بأن تدري بأنك لا تدري
إذا جئت من كل الأمور بغمّة
فكن هكذا أرضًا يطأك الذي يدري
ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري
وأنك لا تدري بأنك لا تدري

(للتوسع: انظر كتاب الماوردي- أدب الدنيا والدين، الباب الثاني: أدب العلم، ص 49- 99، وقد اقتبست بعض الاقتباسات منه).


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى