الأربعاء ٣ تموز (يوليو) ٢٠١٩
الى الراحل الباقي،
بقلم جميلة شحادة

كامل علي شحادة، الأخ والأب والمعلم

أخي؛ صعقني رحيلك، واعتصرني الحزن والألم؛ لا لأني غير مصدقة للموت؛ فالموت حق على الجميع عاجلا ام اّجلا. ولكن لأنه على عجل سرق مني البسمة، وصادر الفرحة، وأطفأ ومضة الامل. ولأنه برحيلك رحل الصباح، وتفجرت في اعماقي شمس الجراح.

أخي؛ لستُ بمجيدة لكتابة النثر، أو نظْم أبياتٍ من الشعر أنا فأرثيك؛ وإنما احاول فقط ان أعبر بكلمات بسيطة عن ذاتي، وعن وجعي بفقدانك؛ وهذا بالطبع لا يوفيك حقك.

أخي؛ بل أبي؛ لقد خسرناك وافتقدناك عن دنيانا الفانية. فقد كنت - رحمة الله تغشاك - مثالا للأب الحنون، والأخ العطوف، والصديق الوفي والمحب للجميع. اعطيتَ لعائلتك، وتفانيتَ في عملك التربوي النبيل، وغرست في نفوس طلابك وأبنائك حب الخير، واحترام الاخرين والاعتزاز بالذات، والوقوف عند الحق والتشبث بكرامة النفس؛ فحصدت الجنى، وشهِد لك الجميع ممن عرفك بسمو اخلاقك ونبل انسانيتك، ومدى كرمك، وإخلاصك وصدقك في التعامل معهم ومع قضاياهم. عطاؤك أخي لم يقتصر على أدائك واجب مهنتك السامية كمربٍ ومدير مدرسة متميز فحسب، بل امتد الى دائرة العمل الجماهيري الأشمل؛ فأخذت مكانك في هذا المجال، وعرفت دورك وعملت من موقع المسؤولية تجاه ابناء مجتمعك وقضاياهم؛ فسعيتَ لمساندتهم وحل مشاكلهم، وكيف لا، وأنت الشبل من ذاك الاسد.

أخي؛ وماذا عسايَ ان أقول عنك ايها الغالي، الراحل عنا جسدا والباقي معنا روحا، سوى اننا خسرناك وافتقدناك، وإننا عاجزون عن التعبير عما يجيش في نفوسنا من الم وحزن مريرين على فراقك لنا وغيابك عنا. لقد أثارت فاجعة رحيلك غصة في الحلق، ولوعة في القلب؛ فلا الدمع يكفكف اّلام الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقد، ولا حديث الرفاق يجلب السلوى.

أخي؛ نعتك جموع المعزين بسيد الكلام، وبرحيلك سكت الكلام، وخجلت حروف اللغة، وحزنت لغياب سيدها، فأبت الانسياب وتعثرّت على اللسان.

أخي؛ لقد ختمتَ العمر بالتقوى، صبورا على الم داء خبيثٍ المّ بك ولم يمنحْك الفرصةَ لتصرعَه كعهدنا بك في مصارعة الصعاب والتغلب عليها. رحلت عنا ايها الغالي على عجلٍ وخطاك تمتد الينا محاولةً الرجوع الى ميْدان العطاء، لكن يد المنون كانت اسرع اليك من صدى انفاسك الطيبة، والقدر كان اقوى منك؛ حيث استطاع ان يوقف عجلة الزمن كي تكون شاهدة على انتزاع روحك الطاهرة من بين جنبيك وأنت صامدٌ، شامخٌ كشجرة الأرز ، ولربما في هذا بعض من العزاء لنا.

اخي؛ ما عدتُ اقوى على تحمل نائبات الدهر، ما عدت اقوى؛ فقد تكالبت عليّ؛ كثُرت؛ ثقُلت؛ جثمَت على صدري؛ حبسَت انفاسي وأحسها تخنقني. أخي اشعر باني موجودة في الحياة فقط لأفقد؛ وأفقد، وأفقد كلَ ما هو لي، ولأعيش وجع الفقد ومرارة خساراتي. اخي ما عدتُ احتمل؛ وكيف لي ان احتملَ وأنت قد رحلت يا من كنت ملاذي، ونبراسي، وبوصلتي. انت من شكوتُ له همي وقاسمته ألمي وأشركته حزني. انت من أطلعته على سري وأتمنتُه على نفسي وعلى مستقبلي. انت من ساندني عند ضعفي وكبواتي، وقوّمني عند الخطأ وأعانني على نفسي، وخفف من كربي. انت من احتمل عنادي وعتابي ولومي وتذمري؛ وأنت من التمس الاعذار دوما لي. وكم كنت أنانية حين جئتُك باكيةً قبل مدة وجلستُ لجانبك أشكو لك خيبة املي ويأسي، وعدم توفيقي وخسارتي، ومرارة خذْل من حسبتهم انت رفاقا ومنذ زمنِ. كم كنتُ انانية لأنني ما تنبهتُ الى عِظَم الألم الذي تسببتُه لك بفعلتي ذي، فعفوك اخي؛ فما كان هذا مقصدي. ثم عفوك الان، لأنني سهوتُ وكررت خطأي، اذ غفلت للحظات عما غرستَه انت بي من مبادئَ وقيمِ، وعلى رأسها الايمان بالله والصبر على الشدائد، والتمسك بالحق والفضيلة وعدم القنوط من رحمة الله العلي العادل؛ ولاني نسيتُ بأنك ما رضيتَ لي يوما الضعف والخنوع؛ فكيف لي الان أن ألينَ امام ابتلاء القهّار لي.

نم أخي قرير العين في مثواك السرمدي، فانا سأذكر كل ما علمتني، وباقية على نهجك للأبد؛ فما غاب منك عني سوى الجسد. وكن أخي على يقين بان ايماني عظيم برب الكون خالقي، فهو المعين والرحيم، والسميع والعليم، وهو العالم ما في السر والعلن.

أخي نسائم رحمات الله عليك عدد ما هبت النسائم؛ وغردت على الأيك الحمائم؛ الى جنة الخلد ان شاء الله مثواك ايها الغالي، متضرعة الى الباري العلي القدير ان يلهمني وجميع افراد العائلة الصبر والسلوان، ويخفف عني وعنهم لوعة الفقدان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى