الثلاثاء ٩ شباط (فبراير) ٢٠٢١
بقلم محمد زكريا توفيق

كم من الأرض يحتاجها الإنسان؟

"كم من الأرض يحتاجها الإنسان؟”، هو عنوان قصة قصيرة ل "ليو تولستوي". هي الأكثر رواجا وتأثيرا في عالم القصة القصيرة كله. نشرت عام 1886. القصة تبين عدم جدوى البحث المضني عن الثروة والسلطة، إن لم تكن ضرورية أو غير ممكنة. وتوضح مضار الجشع والنهم، وتنتقد النظم الاقتصادية الفاسدة.

القصة توظف أسلوب السرد الروسي الذي يحاكي لهجة وتعبيرات الكلام الشفوي. تبدأ القصة بفلاح يدعى باخوم، يقوم بالتنصت على حديث بين زوجته وشقيقتها الكبرى.

كانت النظم الاجتماعية والاقتصادية الروسية على شفا الانهيار في وقت نشر "كم من الأرض يحتاجها الإنسان؟" في عام 1861، ألغى الامبراطور ألكسندر الثاني العبودية الزراعية بالنسبة للفلاحين الروس، وأصبح من حقهم امتلاك أراض زراعية.

مع ذلك، لم يمنع إلغاء العبودية الزراعية الانقسامات الطبقية الصارخة الراسخة بين الأغنياء والفقراء. فقد كان عدد المزارعين الزراعيين المحررين، لا تكفيه مساحة الأراضي المتاحة. مما حد من فرصهم في تملك الأراضي، وانتقالهم إلى طبقة الملاك.

في الوقت نفسه، منح الملاك كميات صغيرة من الأراضي للفلاحين، في شكل جمعيات زراعية، توفر لهم العمل. لذلك، استمرت الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية لعدة أجيال، بسبب عدم المساواة الطبقية.

بالقرب من نهاية حياته المهنية، أصبح تولستوي مسيحيا أصوليا. عاش حياة الفلاحين زاهدا، ورفض المناصب والثروة وامتلاك الأراضي والعقارات وغيرها. انتقد بشدة النظام الطبقي وعدم المساواة بين المواطنين، حتى بعد إلغاء العبودية الزراعية، وهو ما يعرف بنظام "السيرف" أو القنانة(جمع قن).

تعبر قصة "كم من الأرض يحتاجها الإنسان؟"، عن ازدراء تولستوي للأنظمة الاقتصادية التي تسعى للثروة المادية على حساب تهميش الفقراء والضعفاء.

النتيجة هي نقد اجتماعي واضح يقدره العديد من الشخصيات الأدبية البارزة، بما في ذلك جيمس جويس، الذي أشاد بـ "كم من الأرض يحتاجها الإنسان؟" باعتبارها "أعظم قصة عرفها الأدب العالمي"

ملخص القصة:

تبدأ قصة "كم من الأرض يحتاجها الإنسان؟" بمحادثة بين شقيقتين. إحدى الأختين متزوجة من تاجر ميسور الحال، وتتفاخر بحياة المدينة وما بها من كماليات وفسح ومسرح وخلافه. الأخت الصغرى فقيرة، متزوجة من باخوم الفلاح، تدافع عن حياتها المتواضعة المستقلة في الريف.

الأخت الفقيرة تعلن أن الناس الأكثر ثراء، هم الأكثر عرضة لفقدان كل شيء في حياتهم دون سابق إنذار. باخوم الزوج، ينام دافئا فوق الفرن، ينصت للحوار.

لكنه يختلف مع زوجته ويعتبر أن هناك مزايا لامتلاك الأراضي والأطيان. ثم يقول بينه وبين نفسه: "إن كان لدي الكثير من الأراضي، لن أخاف من شيء، حتى لو كان الشيطان نفسه!".

في نفس الوقت، كان الشيطان قابعا في الفرن يستمع لباخوم وهو يحدث نفسه. فقرر الشيطان أن يعاقبه لبجاحته وتحديه له. سيمنحه ما يريد من أراض، لكن سيعطيه معها الجشع والفحش الأخلاقي.

سيدة روسية، مالكة أطيان في القرية، كانت توظف جندياً عجوزا لإدارة ممتلكاتها. الجندي كان يفرض غرامات باهظة على الفلاحين، بمن فيهم باخوم، بسبب مخالفات بسيطة كانوا يقترفونها رغما عنهم.

هذه الغرامات، كانت تشكل عبئا نفسيا واقتصاديا كبيرا على باخوم وباقي الفلاحين. لكن لحسن الحظ، قررت المالكة بيع أطيانها للفلاحين. بحيث يشتري كل منهم ما يستطيع سداد ثمنه.

باخوم يبيع كل ممتلكاته، ويسخر ابنه لمدة سنة ويقبض ثمن السخرة مقدما. ثم يأخذ عدة قروض لشراء قطعة من الأرض مساحتها 40 فداناً. بعد حصاد ناجح، يسدد باخوم ديونه ويشعر بفخر هائل بنفسه وهو ينظر إلى أرضه.

عندما بدأ الفلاحون يمرون بمواشيهم في أرضه، خشي باخوم اتلاف زرعه أو سرقة آلاته وحيواناته. لذلك ذهب إلى المحاكم المحلية لكي يشتكي، بالرغم من معرفته لنوايا الفلاحين الطيبة.

ثم أخذ باخوم يسلك سلوك الجندي المشرف على الأرض سابقا، بفرض غرامات لا ترحم على الفلاحين، الذين أبدوا استياء لدرجة أن بعضهم كان يهدد بحرق منزله.

في الوقت نفسه، يشعر باخوم بضآلة ممتلكاته، فيخبره أحد الفلاحين بقرية تقع بعد نهر الفولجا، حيث تمنح العائلات هناك على الفور 25 فداناً من الأراضي الخصبة مجانا لمن يريد.

ينتقل باخوم وعائلته إلى القرية. هناك يشعرون بأنهم قد انتقلوا إلى طبقة اجتماعية أعلى. يمتلك باخوم الآن ثلاثة أضعاف ما كان يمتلكه من الأراضي الصالحة للزراعة، يتقاسم المراعي الواسعة، ويمكنه شراء الماشية كما يريد. لكنه لم يقنع بوضعه الجديد.

سرعان ما يشعر بالضيق لصغر حجم ممتلكاته مرة أخرى. إنه يريد أن يمتلك أرضا حرة خارجة عن الكوميونات. فيقابل باخوم فلاحا يدله على أراض للتملك الحر بأسعار في متناول الجميع.

لكن يأتي أحد التجار لكي يخبر باخوم، قبل إتمام الصفقة، بأن قبائل الباشكير، وهم من أصل تركي، يسكنون جبال الأورال، يمكن شراء مساحات من أرضهم الخصبة بأقل من سنتات قليلة للفدان، عندما يقدم لهم هدية بسيطة.

يسافر باخوم إلى بشكيريا مع أحد عماله، تاركا عائلته خلفه. يكتشف أن الباشكير غير مهتمين بإدارة أو زراعة أراضيهم الشاسعة. كل اهتمامهم كان منحصرا في العلاقات الاجتماعية بينهم، يتسامرون ويتزاورون ويحتسون مشروب الكوميس، المصنوع من لبن الحمير أو الخيل.

استقبل الباشكير باخوم بحفاوة. قدم لهم بعض الهدايا، شاي ونبيذ وملابس، ثم أعرب عن رغبته في شراء جزءا من أراضيهم. أجابه رئيس الباشكير بأنه يستطيع شراء ما يريد من أرضهم، مقابل ألف روبل في اليوم.

لم يفهم باخوم هذه الصفقة في بادئ الأمر، لكن تبين له أن مبلغ الألف روبل في اليوم، يعني أن عليه السير على الأقدام، بداية من شروق الشمس، وتحديد ما يريد من أرض، بوضع علامات على حدودها، والعودة إلى نقطة البداية قبل غروب الشمس في نفس اليوم.

اقتناعا منه أنه قادر على حيازة ما يريد من أرض بهذه الطريقة السهلة، وافق فورا بحماس على هذا الاقتراح.

في تلك الليلة، رأى باخوم في المنام أن الفلاح السمسار، والتاجر، ورئيس الباشكير، كل منهم قد تشكل في صورة شيطان، يقف ضاحكا أمام جثة رجل ميت. ثم يكتشف باخوم، أنه هو هذا الميت. يستيقظ فزعا، إلا أنه ينسى هذا الكابوس ويقوم بالاستعداد لحيازة أرضه الجديدة.

أخذ باخوم معه جاروفا وبعض الخبز وقلة ماء. ثم بدأ السير من قمة تل صغير. قطع عدة أميال بالرغم من شدة حرارة الجو القاتلة. في وقت الظهيرة، توقف ليستريح مؤقتا ولكي يتناول وجبة غداء صغيرة.

لكنه واصل السير بوتيرة سريعة بعد ذلك. مع عشرة أميال متبقية من رحلته، يصبح باخوم منهكاً للغاية. يبدأ بالركض، خوفاً من ألا يعود إلى التل قبل غروب الشمس.

يقترب من أسفل التلة تماما وقت الغروب. يرى من بعيد رئيس الباشكير يضحك وهو واقف أعلى التلة. فيتذكر باخوم حلم الليلة الماضية، قبل أن ينهار أخيرا ويقع على الأرض ميتا من الإرهاق والتعب.

يحفر العامل الذي جاء معه قبراً صغيراً لـ"باخوم"، وينهي الراوي القصة بالملاحظة التالية:

"ستة أقدام من رأسه إلى قدميه، هي كل ما يحتاجه".

ملاحظات على القصة:

إن رغبة باخوم الأولية في أن يصبح مالك أرض أمراً مفهوماً. انتقاله إلى طبقة أعلى من شأنه أن يساعده ماليا، ويخفف من تعرضه لاستغلال الطبقة العليا، ويمنع إساءة معاملته كفلاح.

إلا أنه، يواجه مصاعب هائلة في سعيه للحصول على أكبر قدر ممكن من الأراضي: يقترض ويصبح مديونا، يسافر مئات الأميال سيرا على الأقدام، يتخلى عن عائلته، ويفقد تعاطفه وأخلاقه، ثم يموت في النهاية من التعب والإرهاق.

طموح باخوم وسعيه لملكية الأرض يقودان إلى موته ودفنه في قبر صغير. "ستة أقدام من رأسه إلى قدميه، هي كل ما يحتاجه". مئات الأفدنة المشتراة عبر السنين، وجريه وراء الثروة لا يعني شيئا بعد أن مات.

يبين تولستوي في قصته القصيرة، أن القناعة كنز لا يفنى، وإن الجشع شيء مدمر، يفسد ويدمر الشخص نفسه. ويا ريت حكامنا تفهم الحكاية دي.

كان يمتلك ثلاثة أضعاف ما كان يمتلكه من قبل. وكان يشترك في المزارع الجماعية، إلا أن هذا لم يكن كافيا. جشعه ليس له حدود. هذا ما أوصله إلى أرض الباشكير، ولكن لكي يلقى حتفه.

هل الجشع محصور في جشع امتلاك الأراضي، كما كان الحال أيام تولستوي؟ وما رأيك في جشع العسكر بالنسبة للسلطة وشبقهم في امتلاك الثروة والحكم؟

في نهاية المسرحيات الأخلاقية في العصور الوسطى، يفوز الأخيار. وكان الإله يظهر فجأة عندما تتعقد الأمور لكي يقهر الشيطان وغيره من الأشرار.

لكن هذه القصة تنتهي بالسخرية وقليل من الأسف على مصير باخوم الأحمق. باختصار، هذه القصة، هي قصة أخلاقية، لكاتب بارع، في عالم بدون أخلاق. لهذا تستحق القراءة والتدريس للطلبة.

لا تعني القصة أننا يجب أن نتوقف عن الحلم وتحقيق أحلامنا. لكن تعني أن هناك خطا رفيعا بين أحلامنا الممكنة من جهة، والجشع لدينا من جهة أخرى. لقد أساء باخوم فهم ذلك، وحاول الحصول على المزيد والمزيد من الأراضي التي تزيد عن قدراته المحدودة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى